المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَأٓتٖۖ وَمَآ أَنتُم بِمُعۡجِزِينَ} (134)

و { توعدون } مأخوذ من الوعيد بقرينة { وما أنتم بمعجزين } والإشارة إلى هذا الوعيد المتقدم خصوصاً . وأما أن يكون العموم مطلقاً فذلك يتضمن إنفاذ الوعيد ، والعقائد ترد ذلك ، و { بمعجزين } معناه بناجين هرباً أي يعجزون طالبهم .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَأٓتٖۖ وَمَآ أَنتُم بِمُعۡجِزِينَ} (134)

هذه الجملة بدل اشتمال من جملة : { إن يشأ يذهبكم } [ الأنعام : 133 ] فإنّ المشيئة تشتمل على حالين : حالِ ترك إهلاكهم ، وحالِ إيقاعه ، فأفادت هذه الجملة أنّ مشيئة الله تعلّقت بإيقاع ما أوعدهم به من الإذهاب ، ولك أن تجعل الجملة استئنافاً بيانياً : جواباً عن أن يقول سائل من المشركين ، متوركاً بالوعيد : إذا كنّا قد أُمهلنا وأخِّر عنَّا الاستئصال فقد أُفلتنا من الوعيد ، ولعلّه يلقاه أقوام بعدنا ، فورد قوله : { إن ما توعدون لآت } مورد الجواب عن هذا السّؤال النّاشىء عن الكلام السّابق بتحقيق أنّ مَا أُوعد به المشركون ، واقع لا محالة وإنْ تأخّر .

والتّأكيد ب { أنّ } مناسب لمقام المتردّد الطالب ، وزيادة التّأكيد بلام الابتداء لأنَّهم متوغّلون في إنكار تحقّق ما أوعدوا به من حصول الوعيد واستسخارهم به ، فإنَّهم قالوا : { اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السّماء أو ائتنا بعذاب أليم } [ الأنفال : 32 ] إ فحاماً للرّسول صلى الله عليه وسلم وإظهاراً لتخلّف وعيده .

وبناء { توعدون } للمجهول يصحح أن يكون الفعل مضارع وَعد يَعِد ، أو مضارع أوْعد ، يُوعد والمتبادر هو الأوّل . ومن بديع الفصاحة اختيار بنائه للمجهول ، ليصلح لفظه لحال المؤمنين والمشركين ، ولو بني للمعلوم لتعيّن فيه أحد الأمرين : بأن يقال : إنّ ما نعدكم ، أو إنّ ما نُوعدكم ، وهذا من بديع التّوجيه المقصود منه أن يأخذ منه كلّ فريق من السّامعين ما يليق بحاله ، ومعلوم أنّ وعيد المشركين يستلزم وعْداً للمؤمنين ، والمقصود الأهمّ هو وعيد المشركين ، فلذلك عقّب الكلام بقوله : { وما أنتم بمعجزين } فذلك كالتّرشيح لأحد المحتمَلين من الكلام الموجَّه .

والإتيان مستعار للحصول تشبيها للشيء الموعودِ به المنتظر وقوعه بالشّخص الغائب المنتظرِ إتيانُه ، كما تقدّم في قوله تعالى : { قل أرأيتكم إن أتاكم عذابُ الله بغتة أو جهرة } في هذه السورة .

وحقيقة المُعجز هو الّذي يَجعل طالب شيءٍ عاجزاً عن نواله ، أي غير قادرين ، ويستعمل مجازاً في معنى الإفلات من تَناوُل طالبِه كما قال إياس بن قبيصَة الطائي "

ألم تَرَ أنّ الأرضَ رحْب فسيحة *** فهَل تُعْجزَنِّي بُقعة من بِقاعها

أي فلا تُفلت منّي بقعة منها لا يصل إليها العدوّ الّذي يطالبني . فالمعنى : وما أنتم بمعجزي أي : بمفلتين من وعيدي ، أو بخارجين عن قدرتي ، وهو صالح للاحتمالين .

ومجيء الجملة اسميّة في قوله : { وما أنتم بمعجزين } لإفادة الثّبات والدّوام ، في نسبة المسند للمسند إليه ، وهي نسبةُ نفيه عن المسند إليه ، لأنّ الخصوصيات الّتي تعتبر في حالة الإثبات تعتبر في حالة النّفي إذ النّفي إنَّما هو كيفيّة للنّسبة . والخصوصياتُ مقتضياتُ أحواللِ التّركيب ، وليس يختلف النّفي عن الإثبات إلاّ في اعتبار القيود الزائدة على أصل التّركيب ، فإنّ النّفي يعتبر متوجّهاً إليها خاصّة وَهي قيود مفاهيم المخالفة ، وإلاّ لبطلت خصوصيات كثيرة مفروضة مع الإثبات ، إذا صار الكلام المشتمل عليها منفياً ، مثل إفادة التجدّد في المسند الفعلي في قول جؤية بن النضر :

لا يألفُ الدرهمُ المضروب صرّتَنا *** لكن يمرّ عليها وهو منطق

إذ لا فرق في إفادة التّجدّد بين هذا المصراع ، وبين أن تقول : ألِفَ الدّرهم صرّتنا . وكذلك قوله تعالى : { لاَ هُنّ حِلّ لهم ولا هُم يحِلّون لهنّ } [ الممتحنة : 10 ] فإنّ الأول يفيد أنّ نفي حِلّهنّ لهم حكم ثابت لا يختلف ، والثّاني يفيد أنّ نفي حِلّهم لهُنّ حكم متجدّد لا ينسخ ، فهما اعتباران ، وقد أشرت إلى بعض هذا عند تفسير قوله تعالى : { واللَّه لا يحبّ كلّ كفّار أثِيم } في سورة البقرة ( 276 ) .