المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَمِزَاجُهُۥ مِن تَسۡنِيمٍ} (27)

و «المزاج » : الخلط ، والضمير عائد على الرحيق ، واختلف الناس في { تسنيم } فقال ابن عباس وابن مسعود : { تسنيم } أشرف شراب في الجنة وهو اسم مذكر لماء عين في الجنة وهي عين يشربها المقربون صرفاً . ويمزج رحيق الأبرار بها ، قاله ابن مسعود وابن عباس والحسن وأبو صالح وغيرهم ، وقال مجاهد ما معناه : إن تسنيماً مصدر من سنمت إذا عليت ومنه السنام ، فكأنها عين قد عليت على أهل الجنة فهي تنحدر ، وذهب قوم إلى أن { الأبرار } و «المقربين » في هذه الآية لمعنى واحد ، يقال : لكل من نعم في الجنة ، وذهب الجمهور من المتأولين إلى أن منزلة الأبرار دون المقربين ، وأن { الأبرار } : هم أصحاب اليمين وأن المقربين هم السابقون ، و { عيناً } منصوب إما على المدح ، وإما أن يعمل فيه { تسنيم } على رأي من رآه مصدراً ، أو ينتصب على الحال من { تسنيم } أو { يسقون } ، قاله الأخفش وفيه بعد .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَمِزَاجُهُۥ مِن تَسۡنِيمٍ} (27)

وجملة { ومزاجه من تسنيم } .

واعلم أن نظم التركيب في هذه الجملة دقيق يحتاج إلى بيان وذلك أن نجعل الواو اعتراضية فقوله : { وفي ذلك } هو مبدأ الجملة . وتقديم المجرور لإفادة الحصر أي وفي ذلك الرحِيققِ فليتنافس الناس لا في رحيق الدنيا الذي يتنافس فيه أهل البذخ ويجلبونه من أقاصي البلاد وينفقون فيه الأموال . ولما كانت الواو اعتراضية لم يكن إشكال في وقوع فاء الجواب بعدها . والفاءُ إما أن تكون فصيحة ، والتقدير : إذا علمتم الأوصاف لهذا الرحيق فليتنافس فيه المتنافسون ، أو التقدير : وفي ذلك فلتتنافسوا فليتنافس فيه المتنافسون فتكون الجملة في قوة التذييل لأن المقدر هو تنافس المخاطبين ، والمصرح به تنافس جميع المتنافسين فهو تعميم بعد تخصيص ، وإما أن تكون الفاء فاء جواب لشرط مقدر في الكلام يؤذن به تقديم المجرور لأن تقديم المجرور كثيراً ما يعامل معاملة الشرط ، كما روي قولُ النبي صلى الله عليه وسلم " كما تكونوا يُوَلّ عليكم " بجزم « تكونوا » و« يُوَلّ » ، فالتقدير : إن علمتم ذلك فليتنافس فيه المتنافسون . وإما أن تكون الفاء تفريعاً على محذوف على طريقة الحذف على شريطة التفسير ، والتقدير : وتنافسوا صيغة أمر في ذلك ، فليتنافس المتنافسون فيه ، ويكون الكلام مؤذناً بتوكيد فعل التنافس لأنه بمنزلة المذكور مرتين ، مع إفادة التخصص بتقديم المجرور .

وجملة : { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } معترضة بين جملة : { يسقون من رحيق } الخ وجملة : { ومزاجه من تسنيم } .

والتنافس : تفاعل من نَفِسَ عليه بكذا إذا شح به عليه ولم يره أهلاً له وهو من قبيل الاشتقاق من الشيء النّفيس ، وهو الرفيع في نوعه المرغوب في تحصيله . وقد قيل : إن الأصل في هذه المادة هو النَفْس . فالتنافس حصول النفاسة بين متعدد .

ولام الأمر في { فليتنافس } مستعملة في التحريض والحث .

و { مِزاجه } : ما يمزج به . وأصله مصدر مازج بمعنى مزَج ، وأطلق على الممزوج به فهو من إطلاق المصدر على المفعول ، وكانوا يمزجون الخمر لئلا تغلبهم سَوْرتها فيسرع إليهم مغيب العقول لأنهم يقصدون تطويل حصة النشوة للالتذاذ بدبيب السكر في العقل دون أن يغُتّه غتّاً فلذلك أكثر ما تشرب الخمر المعتقة الخالصة تُشرب ممزوجة بالماء . قال كعب بن زهير :

شُجَّت بذي شبم من ماء محقبة *** صَاف بأبْطَحَ أضحى وهَو مَشمول

وقال حسان :

يَسقون مَن وَرَدَ البريضَ عليهمُ *** بَرَدَى يُصَفَّقُ بالرحيق السَّلْسَلِ

وتنافسهم في الخمر مشهور من عوائدهم وطفحت به أشعارهم . كقول لبيد :

أغلي السِّباء بكل أدكن عاتق *** أو جونة قُدحت وفُض ختامها

و { تسنيم } علم لعين في الجنة منقول من مصدر سنَّم الشيءَ إذا جعله كهيئة السِّنام . ووجهوا هذه التسمية بأن هذه العين تصبّ على جنانهم من علوّ فكأنها سَنام . وهذا العلم عربي المادة والصِّيغة ولكنه لم يكن معروفاً عند العرب فهو مما أخبر به القرآن ، ولذا قال ابن عباس لمَّا سئل عنه : « هذا مما قال الله تعالى : { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } [ السجدة : 17 ] ، يريد لا يعلمون الأشياء ولا أسماءها إلا ما أخبر الله به . ولغرابة ذلك احتيج إلى تبيينه بقوله : { عيناً يشرب بها المقربون } ، أي حال كون التسنيم عيناً يشرب منها المقرّبون .

و { المقرَّبون } : هم الأبرار ، أي فالشاربون من هذا الماء مقربون .