قوله تعالى : { إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله } أي : رسول الله صلى الله عليه وسلم { وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئاً } إنما يضرون أنفسهم ، { وسيحبط أعمالهم } فلا يرون لها ثواباً في الآخرة ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : هم المطعمون يوم بدر ، نظيرها قوله عز وجل : { إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله { ( الأنفال-36 ) الآية .
يخبر تعالى عمن كفر وصد عن سبيل الله ، وخالف الرسول وشاقه ، وارتد عن الإيمان من بعد ما تبين له الهدى : أنه لن يضر الله شيئًا ، وإنما يضر نفسه ويخسرها يوم معادها ، وسيحبط الله عمله فلا يثيبه على سالف ما تقدم من عمله الذي عقبه بردته مثقال بعوضة من خير ، بل يحبطه ويمحقه بالكلية ، كما أن الحسنات يذهبن السيئات .
وقد قال الإمام محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة : حدثنا أبو قدامة ، حدثنا وكيع ، حدثنا أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية قال :{[26722]} كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يظنون أنه لا يضر مع " لا إله إلا الله " ذنب ، كما لا ينفع مع الشرك عمل ، فنزلت : { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } فخافوا أن يبطل الذنب العمل .
ثم روي من طريق عبد الله بن المبارك : أخبرني بكير بن معروف ، عن مقاتل بن حيان ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : كنا معشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نرى أنه ليس شيء من الحسنات إلا مقبول ، حتى نزلت : { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } ، فقلنا : ما هذا الذي يبطل أعمالنا ؟ فقلنا : الكبائر الموجبات والفواحش ، حتى نزلت : { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [ النساء : 48 ] ، فلما نزلت كففنا عن القول في ذلك ، فكنا نخاف على من أصاب الكبائر والفواحش ، ونرجو لمن لم يصيبها{[26723]} .
وقوله : إنّ الّذِينَ كَفَرُوا وَصَدّوا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ يقول تعالى ذكره : إن الذين جحدوا توحيد الله ، وصدّوا الناس عن دينه الذي ابتعث به رسله وَشاقّوا الرّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُمُ الهُدَى يقول : وخالفوا رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم ، فحاربوه وآذَوه من بعد ما علموا أنه نبيّ مبعوث ، ورسول مرسل ، وعرفوا الطريق الواضح بمعرفته ، وأنه لله رسول .
وقوله : لَنْ يَضُرّوا اللّهَ شَيْئا لأن الله بالغ أمره ، وناصر رسوله ، ومُظهره على من عاداه وخالفه وسَيُحْبِطُ أعمالَهُمْ يقول : وسيذهب أعمالهم التي عملوها في الدنيا فلا ينفعهم بها في الدنيا ولا الاَخرة ، ويبطلها إلا مما يضرّهم .
الظاهر أن المعنيّ بالذين كفروا هنا الذين كفروا المذكورون في أول هذه السورة وفيما بعد من الآيات التي جرى فيها ذكر الكافرين ، أي الكفار الصرحاء عاد الكلام إليهم بعد الفراغ من ذكر المنافقين الذين يخفون الكفر ، عودا على بدء لتهوين حالهم في نفوس المسلمين ، فبعد أن أخبر الله أنه أضل أعمالهم وأنهم اتبعوا الباطل وأمر بضرب رقابهم وأن التعس لهم وحقَّرهم بأنهم يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام ، وأن الله أهلك قرى هي أشد منهم قوة ، ثم جرى ذكر المنافقين ، بعد ذلك ثُني عنان الكلام إلى الذين كفروا أيضاً ليعرِّف الله المسلمين بأنهم في هذه المآزق التي بينهم وبين المشركين لا يَلحقهم منهم أدنى ضُرّ ، وليزيد وصف الذين كفروا بأنهم شاقّوا الرسول صلى الله عليه وسلم .
فالجملة استئناف ابتدائي وهي توطئة لقوله : { فلا تهنوا وتدْعُوا إلى السلم } [ محمد : 35 ] . وفعل { شاقُّوا } مشتق من كلمة شِق بكسر الشين وهو الجانب ، والمشاقة المخالفة ، كني بالمشاقة عن المخالفة لأن المستقر بشِق مخالف للمستقر بشق آخر فكلاهما مخالف ، فلذلك صيغت منه صيغة المفاعلة .
وتبيُّن الهدى لهم : ظهور ما في دعوة الإسلام من الحق الذي تدركه العقول إذا نبهتْ إليه ، وظهور أن أمر الإسلام في ازدياد ونماء ، وأن أمور الآخرين في إدبار ، فلم يردعهم ذلك عن محاولة الإضرار بالرسول صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى : { أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها } [ الرعد : 41 ] . فحصل من مجموع ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم رسولُ الله ، وأن الإسلام دين الله .
وقيل المراد بالذين كفروا في هذه الآية يهود قريظة والنضير ، وعليه فمشاقتهم الرسول صلى الله عليه وسلم مشاقة خفية مشاقَّة كيد ومكْر ، وتبيُّن الهدى لهم ظهور أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو الموعود به في التوّراة وكتب الأنبياء ، فتكون الآية تمهيداً لغزو قريظة والنضير .
وانتصب { شيئاً } على المفعول المطلق ل { يَضُروا } والتنوين للتقليل ، أي لا يضرّون في المستقبل الله أقل ضرّ . وإضرار الله أريد به إضرار دينه لقصد التنويه والتشريف لهذا الدين بقرينة قوله : { وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى } .
والإحباط : الإبطال كما تقدم آنفاً . ومعنى إبطال أعمالهم بالنسبة لأعمالهم في معاملة المسلمين أن الله يلطف برسوله صلى الله عليه وسلم والمسلمين بتيسير أسباب نصرهم وانتشار دينه ، فلا يحصِّل الذين كفروا من أعمالهم للصد والمشاقة على طائل . وهذا كما تقدم في تفسير قوله : { أضلّ أعمالهم } [ محمد : 1 ] .
وحرف الاستقبال هنا لتحقيق حصول الإحباط في المستقبل وهو يدل على أن الله محبط أعمالهم من الآن إذ لا يعجزه ذلك حتى يترصد به المستقبل ، وهذا التحقيق مثل ما في قوله في سورة يوسف { قال سوف أستغفر لكم ربي } [ يوسف : 98 ] . b
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.