في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَأُمۡلِي لَهُمۡۚ إِنَّ كَيۡدِي مَتِينٌ} (45)

35

وبينما هم في هذا الكرب ، يجيئهم التهديد الرعيب الذي يهد القلوب :

( فذرني ومن يكذب بهذا الحديث ) . .

وهو تهديد مزلزل . . والجبار القهار القوي المتين يقول للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] : خلي بيني وبين من يكذب بهذا الحديث . وذرني لحربه فأنا به كفيل !

ومن هو هذا الذي يكذب بهذا الحديث ?

إنه ذلك المخلوق الصغير الهزيل المسكين الضعيف ! هذه النملة المضعوفة . بل هذه الهباءة المنثورة . . بل هذا العدم الذي لا يعني شيئا أمام جبروت الجبار القهار العظيم !

فيا محمد . خل بيني وبين هذا المخلوق . واسترح أنت ومن معك من المؤمنين . فالحرب معي لا معك ولا مع المؤمنين . الحرب معي . وهذا المخلوق عدوي ، وأنا سأتولى أمره فدعه لي ، وذرني معه ، واذهب أنت ومن معك فاستريحوا !

أي هول مزلزل للمكذبين ! وأي طمأنينة للنبي والمؤمنين . . المستضعفين . . ?

ثم يكشف لهم الجبار القهار عن خطة الحرب مع هذا المخلوق الهزيل الصغير الضعيف !

( سنستدرجهم من حيث لا يعلمون . وأملي لهم إن كيدي متين ) . .

وإن شأن المكذبين ، وأهل الأرض أجمعين ، لأهون وأصغر من أن يدبر الله لهم هذه التدابير . . ولكنه - سبحانه - يحذرهم نفسه ليدركوا أنفسهم قبل فوات الأوان . وليعلموا أن الأمان الظاهر الذي يدعه لهم هو الفخ الذي يقعون فيه وهم غارون . وأن إمهالهم على الظلم والبغي والإعراض والضلال هو استدراج لهم إلى أسوأ مصير . وأنه تدبير من الله ليحملوا أوزارهم كاملة ، ويأتوا إلى الموقف مثقلين بالذنوب ، مستحقين للخزي والرهق والتعذيب . .

وليس أكبر من التحذير ، وكشف الاستدراج والتدبير ، عدلا ولا رحمة . والله سبحانه يقدم لأعدائه وأعداء دينه ورسوله عدله ورحمته في هذا التحذير وذلك النذير . وهم بعد ذلك وما يختارون لأنفسهم ، فقد كشف القناع ووضحت الأمور !

إنه سبحانه يمهل ولا يهمل . ويملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته . وهو هنا يكشف عن طريقته وعن سنته التي قدرها بمشيئته . ويقول لرسوله [ صلى الله عليه وسلم ] ذرني ومن يكذب بهذا الحديث ، وخل بيني وبين المعتزين بالمال والبنين والجاه والسلطان . فسأملي لهم ، واجعل هذه النعمة فخهم ! فيطمئن رسوله ، ويحذر أعداءه . . ثم يدعهم لذلك التهديد الرعيب !

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَأُمۡلِي لَهُمۡۚ إِنَّ كَيۡدِي مَتِينٌ} (45)

و{ أُملي } : مضارع أمَلى ، مقصوراً بمعنى أمْهَل وأخَّر وهو مشتق من المَلاَ مقصوراً ، وهو الحِين والزمن ، ومنه قيل لليللِ والنهار : المَلَوَان ، فيكون أملى بمعنى طَوَّل في الزمان ، ومصدره إملاء .

ولام { لهم } هي اللام المسماة لام التبيين ، وهي التي تُبين اتصال مدخولها بعامله لخفاءٍ فيه فإن اشتقاق فعل أمَلى من الملْوِ ، وهو الزمان اشتقاق غيرُ بيّن لخفاء معنى الحَدَث فيه .

ونون { سنستدرجهم } نون المتكلم المشارك ، والمراد الله وملائكته الموكلون بتسخير الموجودات وربط أحوال بعضها ببعض على وجه يتم به مراد الله فلذلك جيء بنون المتكلم المشارك فالاستدراج تعلق تنجيزي لقدرةِ الله فيحصل بواسطة الملائكة الموكلين كما قال تعالى : { إذْ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتُوا الذين ءامنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق } الآية [ الأنفال : 12 ] .

وأما الإِملاء فهو علم الله بتأجيل أخْذِهم . وتعلُق العلم ينفرد به الله فلذلك جيء معه بضمير المفرد . وحصل في هذا الاختلاف تفنن في الضميرين .

ونظير هذه الآية قوله في الأعراف ( 182 ، 183 ) : { والذين كذبُوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأُملي لهم إن كيدي متين } باعتبار أنهما وعد للنبيء بالنصر وتثبيت له بأن استمرار الكافرين في نعمة إنما هو استدراج وإملاء وضرب يشبه الكيد وأن الله بالغ أمره فيهم ، وهذا كقوله : { لا يغرنَّك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل } [ آل عمران : 196 197 ] .

وموقع { إنَّ } موقع التسبب والتعليل كما تقدم عند قوله تعالى : { إن أول بيت وضع للناس } في سورة آل عمران ( 96 ) .

وإطلاق الكيد على إحسان الله لقوم مع إرادة إلحاق السوء بهم إطلاق على وجه الاستعارة لمشابهته فعل الكائد من حيث تعجيل الإِحسان وتعقيبه بالإِساءة .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَأُمۡلِي لَهُمۡۚ إِنَّ كَيۡدِي مَتِينٌ} (45)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{وأملي لهم} يقول: لا أعجل عليهم بالعذاب.

{إن كيدي متين} يقول: إن أخذي بالعذاب شديد.

نزلت هذه الآية في المستهزئين من قريش...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

وأنسئ في آجالهم ملاوة من الزمان، وذلك برهة من الدهر على كفرهم وتمرّدهم على الله لتتكامل حجج الله عليهم.

"إنّ كَيْدِي مَتِينٌ ": إن كيدي بأهل الكفر قويّ شديد...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

والأصل أن الكيد والمكر والاستدراج، يقتضي معنى واحدا، وهو أن يأخذ من وجه أمنه، ويراقب وجوه هلاكه، وهو يستعمل في الخلق على وجه يذم أهله. فهو يضاف إلى الله تعالى، ليس على جعل ذلك اسما له...، وإنما يضاف إليه في حق الجزاء باسم ما له الجزاء كما يسمى جزاء السيئة سيئة، وإن لم يكن الجزاء سيئة وكما سمي جزاء الاعتداء اعتداء، فكذلك سمي جزاء الكيد على هذا المعنى.

{متينِ} أي قوي ثابت. فقوله تعالى: {إن كيدي متين} أي كيدي لأوليائي على أعدائي ثابت، ليس ككيد الأعداء، لأن كيد الأعداء بكيد الشيطان، وكيد {الشيطان كان ضعيفا} [النساء: 76].

والأصل أن الكيد الذي أضيف إلى الله تعالى حق، والحق قوي ثابت، لا مدفع له، وكيد الشيطان باطل، وليس للباطل قرار.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

ووجه الحكمة في ذلك أنهم لو عرفوا الوقت الذي يؤخذون فيه لكانوا آمنين إلى ذلك الوقت، وصاروا مغربين بالقبيح، والله تعالى لا يفعل ذلك...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{وَأُمْلِى لَهُمْ} وأمهلهم، كقوله تعالى: {إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً} [آل عمران: 178] والصحة والرزق والمدّ في العمر: إحسان من الله وإفضال يوجب عليهم الشكر والطاعة، ولكنهم يجعلونه سبباً في الكفر باختيارهم، فلما تدرّجوا به إلى الهلاك وصف المنعم بالاستدراج...

وسمي إحسانه وتمكينه كيداً كما سماه استدراجاً، لكونه في صورة الكيد حيث كان سبباً للتورّط في الهلكة، ووصفه بالمتانة لقوّة أثر إحسانه في التسبب للهلاك...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

{وأملي لهم} معناه: أؤخرهم ملاوة من الزمن...، والكيد: عبارة عن العقوبة التي تحل بالكفار من حيث هي: على كيد منهم، فسمى العقوبة باسم الذنب.

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

أي: وأؤخرهم وأنظرهم وأمدهم وذلك من كيدي ومكري بهم؛ ولهذا قال تعالى: {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} أي: عظيم لمن خالف أمري، وكذب رسلي، واجترأ على معصيتي. وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله تعالى ليُمْلي للظالم، حتى إذا أخذه لم يُفْلِتْه". ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102]...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما كان الاستدراج يكون بأسباب كثيرة من بسط النعم وغيرها، فأبرزه بالنون المشتركة بين الاستتباع والعظمة، وكان تأخير الأجل لا يكون إلا لله وحده بغير واسطة شيء، قال سبحانه: {وأملي} أي: أؤخر أنا وحدي في آجالهم و أوسع لهم في جميع تمتعهم ليزدادوا إثماً. {لهم} لأنه لا يقدر على مد الأجل وترفيه العيش غيري.

ولما سلاه صلى الله عليه وسلم بهذا غاية التسلية، علل أو استأنف في جواب من لعله يقول: لم يكون أحدهم على هذا الوجه؟ مسمياً إنعامه كيداً: {إن كيدي} أي ستري لأسباب الهلاك عمن أريد إهلاكه وإبدائي ذلك له في ملابس الإحسان وخلع البر والامتنان {متين} أي في غاية القوة حيث كان حاملاً للإنسان على إهلاك نفسه باختياره. وسيعلم عند الأخذ أني لما أمهلته ما أهملته وأن إمهالي إنما كان استدراجاً...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

والتعبير ب (أملي لهم) إشارة إلى أنّ الله تعالى لا يستعجل أبداً بجزاء الظالمين، والاستعجال يكون عادةً من الشخص الذي يخشى فوات الفرصة عليه، إلاّ أنّ الله القادر المتعال أيّما شاء وفي أي لحظة فإنّه يفعل ذلك، والزمن كلّه تحت تصرّفه. وعلى كلّ حال فإنّ هذا تحذير لكلّ الظالمين والمتطاولين بأن لا تغرّهم السلامة والنعمة أبداً، وليرتقبوا في كلّ لحظة بطش الله بهم...