معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَنَادَىٰ نُوحٞ رَّبَّهُۥ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ٱبۡنِي مِنۡ أَهۡلِي وَإِنَّ وَعۡدَكَ ٱلۡحَقُّ وَأَنتَ أَحۡكَمُ ٱلۡحَٰكِمِينَ} (45)

قوله تعالى : { ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي } ، وقد وعدتني أن تنجيني وأهلي ؟ { وإن وعدك الحق } ، لا خلف فيه ، { وأنت أحكم الحاكمين } ، حكمت على قوم بالنجاة وعلى قوم بالهلاك .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَنَادَىٰ نُوحٞ رَّبَّهُۥ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ٱبۡنِي مِنۡ أَهۡلِي وَإِنَّ وَعۡدَكَ ٱلۡحَقُّ وَأَنتَ أَحۡكَمُ ٱلۡحَٰكِمِينَ} (45)

25

والآن وقد هدأت العاصفة ، وسكن الهول ، واستوت على الجودي . الآن تستيقظ في نفس نوح لهفة الوالد المفجوع :

( ونادى نوح ربه ، فقال : رب إن ابني من أهلي ، وإن وعدك الحق ، وأنت أحكم الحاكمين )

رب إن ابني من أهلي ، وقد وعدتني بنجاة أهلي ، وإن وعدك الحق ، وأنت أحكم الحاكمين . فلا تقضي إلا عن حكمة وتدبير . .

قالها يستنجز ربه وعده في نجاة أهله ، ويستنجزه حكمته في الوعد والقضاء .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَنَادَىٰ نُوحٞ رَّبَّهُۥ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ٱبۡنِي مِنۡ أَهۡلِي وَإِنَّ وَعۡدَكَ ٱلۡحَقُّ وَأَنتَ أَحۡكَمُ ٱلۡحَٰكِمِينَ} (45)

موقع الآية يقتضي أنّ نداء نوح عليه السّلام هذا كان بعد استواء السفينة على الجوديّ نداءً دَعاه إليه داعي الشفقة فأراد به نفع ابنه في الآخرة بعد اليأس من نجاته في الدّنيا ، لأنّ الله أعلمه أنّه لا نجاة إلاّ للّذين يركبون السّفينة ، ولأنّ نوحاً عليه السّلام لمّا دعا ابنه إلى ركوب السّفينة فأبى وجرت السفينة قد علم أنّه لا وسيلة إلى نجاته فكيف يسألها من الله فتعيّن أنّه سأل له المغفرة ، ويدلّ لذلك قوله تعالى : { فلا تسألنّي ما ليس لك به علم } كما سيأتي .

ويجوز أن يكون دعاء نوح عليه السّلام هذا وقع قبل غرق النّاس ، أي نادى ربّه أن ينجي ابنه من الغرق .

ويجوز أن يكون بعد غرق من غرقوا ، أي نادى ربّه أن يغفر لابنه وأن لا يعامله معاملة الكافرين في الآخرة .

والنّداء هنا نداء دعاء فكأنّه قيل : ودعا نوح ربّه ، لأنّ الدعاء يصدّر بالنّداء غالباً ، والتّعبير عن الجلالة بوصف الربّ مضافاً إلى نوح عليه السلام تشريف لنوح وإيماء إلى رأفة الله به وأن نهيه الوارد بعده نهيُ عتاب .

وجملة { فقال ربّ إنّ ابني من أهلي } بيان للنّداء ، ومقتضى الظّاهر أنْ لا تعطف بفاء التفريع كما لم يعطف البيان في قوله تعالى : { إذْ نادى ربّه نداءً خفيّاً قال ربّ إنّي وهن العظم مني } [ مريم : 3 ، 4 ] ، وخولف ذلك هنا . ووجّه في « الكشاف » اقترانه بالفاء بأنّ فعل { نادى } مستعمل في إرادة النداء ، أي مثل فعل ( قمتم ) في قوله تعالى : { يأيهَا الّذينَ آمنوا إذَا قمْتم إلى الصّلاة فَاغْسلوا وجوهكم } [ المائدة : 6 ] الآية ، يريد أن ذلك إخراج للكلام على خلاف مقتضى الظاهر فإنّ وجود الفاء في الجملة التي هي بيان للنداء قرينة على أن فعل { نادى } مستعار لمعنى إرادة النداء ، أي أراد نداءَ ربه فأعقب إرادته بإصدار النداء ، وهذا إشارة إلى أنه أراد النداء فتردّد في الإقدام عليه لِما علم من قوله تعالى : { إلا من سبق عليه القول } [ هود : 40 ] فلم يطل تردّده لمّا غلبته الشفقة على ابنه فأقدم على نداء ربه ، ولذلك قدم الاعتذار بقوله : { إنّ ابني من أهلي } . فقوله : { إن ابني من أهلي } خبر مستعمل في الاعتذار والتمهيد لأنّه يريد أن يسأل سؤالاً لا يدري قبوله ولكنّه اقتحمه لأن المسؤول له من أهله فله عذر الشفقة عليه . وتأكيد الخبر ب { إنّ } للاهتمام به .

وكذلك جملة { وإنّ وعدك الحق } خبر مستعمل في لازم الفائدة . وهو أنّه يعلم أن وعد الله حق .

والمراد بالوعد ما في قوله تعالى : { إلاّ من سبق عليه القول منهم ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون } [ المؤمنون : 37 ] إذ أفاد ذلك أن بعض أهله قد سبق من الله تقدير بأنّه لا يركب السفينة .

وهذا الموصول متعيّن لكونه صادقاً على ابنه إذ ليس غيره من أهله طَلب منه ركوب السفينة وأبى ، وأنّ من سبق علم الله بأنه لا يركب السفينة من الناس فهو ظالم ، أي كافر ، وأنه مغرق ، فكان عدم ركوبه السفينة وغرقه أمارة أنه كافر . فالمعنى : أن نوحاً عليه السّلام لا يجهل أنّ ابنه كافر ، ولذلك فسؤال المغفرة له عن علم بأنه كافر ، ولكنّه يطمع لعل الله أن يعفو عنه لأجل قرابته به ، فسؤاله له المغفرة بمنزلة الشفاعة له عند الله تعالى ، وذلك أخذ بأقصى دواعي الشفقة والرحمة بابنه .

وقرينة ذلك كله قوله : { وأنت أحكم الحاكمين } المفيد أنه لا رادّ لما حكم به وقضاه ، وأنه لا دالة عليه لأحد من خلقه ، ولكنه مقام تضرّع وسؤال ما ليس بمحال .

وقد كان نوح عليه السّلام غيرَ منهيّ عن ذلك ، ولم يكن تقرر في شرعه العلم بعدم المغفرة للكافرين ، فكان حال نوح عليه السّلام كحال النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لأبي طالب « لأستغفرنّ لك ما لم أُنْهَ عنك » قَبل أن ينزل قوله تعالى : { ما كان للنبيء والذين آمنوا أن يسْتغَفروا للمشركين } [ التوبة : 113 ] الآية .

والاقتصار على هذه الجمل الثلاث في مقام الدعاء تعريض بالمطلوب لأنه لم يذكره ، وذلك ضرب من ضروب التأدب والتردد في الإقدام على المسؤول استغناء بعلم المسؤول كأنّه يقول : أسألك أم أترك ، كقول أميّة بن أبي الصلت :

أأذكر حَاجتي أم قد كفاني *** حَياؤك أن شيمتك الحياء

ومعنى { أحكم الحاكمين } أشدهم حكْماً . واسم التفضيل يتعلق بماهية الفعل ، فيفيد أن حكمه لا يجورُ وأنّه لا يبطله أحد .