في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{حمٓ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الجاثية مكية وآياتها سبع وثلاثون

هذه السورة المكية تصور جانباً من استقبال المشركين للدعوة الإسلامية ، وطريقتهم في مواجهة حججها وآياتها ، وتعنتهم في مواجهة حقائقها وقضاياها ، واتباعهم للهوى اتباعاً كاملاً في غير ما تحرج من حق واضح أو برهان ذي سلطان . كذلك تصور كيف كان القرآن يعالج قلوبهم الجامحة الشاردة مع الهوى ، المغلقة دون الهدى ؛ وهو يواجهها بآيات الله القاطعة العميقة التأثير والدلالة ، ويذكرهم عذابه ، ويصور لهم ثوابه ، ويقرر لهم سننه ، ويعرفهم بنواميسه الماضية في هذا الوجود .

ومن خلال آيات السورة وتصويرها للقوم الذين واجهوا الدعوة في مكة ، نرى فريقاً من الناس مصرا على الضلالة ، مكابراً في الحق ، شديد العناد ، سيىء الأدب في حق الله وحق كلامه ، ترسمه هذه الآيات ، وتواجهه بما يستحقه من الترذيل والتحذير والتهديد بعذاب الله المهين الأليم العظيم :

( ويل لكل أفاك أثيم . يسمع آيات الله تتلى عليه ، ثم يصر مستكبراً كأن لم يسمعها ، فبشره بعذاب أليم . وإذا علم من آياتنا شيئاً اتخذها هزواً ، أولئك لهم عذاب مهين . من ورائهم جهنم ، ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئاً ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء ولهم عذاب عظيم ) . .

ونرى جماعة من الناس ، ربما كانوا من أهل الكتاب سيئي التصور والتقدير ؛ لا يقيمون وزناً لحقيقة الإيمان الخالصة ، ولا يحسون بالفارق الأصيل بينهم وهم يعملون السيئات وبين المؤمنين الذين يعملون الصالحات . والقرآن يشعرهم بأن هناك فارقاً أصيلاً في ميزان الله بين الفريقين ، ويقرر سوء حكمهم وسوء تصورهم للأمور ؛ وقيام الأمر في ميزان الله على العدل الأصيل في صلب الوجود كله منذ بدء الخلق والتكوين :

( أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات ، سواء محياهم ومماتهم ? ساء ما يحكمون ! وخلق الله السماوات والأرض بالحق ، ولتجزى كل نفس بما كسبت ، وهم لا يظلمون ) . .

ونرى فريقاً من الناس لا يعرف حكماً يرجع إليه إلا هواه ، فهو إلهه الذي يتعبده ، ويطيع كل ما يراه . نرى هذا الفريق من الناس مصوراً تصويراً فذاً في هذه الآية ؛ وهو يعجب من أمره ويشهر بغفلته وعماه :

( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ، وأضله الله على علم ، وختم على سمعه وقلبه ، وجعل على بصره غشاوة ? فمن يهديه من بعد الله ? أفلا تذكرون ? ) . .

ونرى هذا الفريق من الناس ينكر أمر الآخرة ، ويشك كل الشك في قضية البعث والحساب ، ويتعنت في الإنكار وفي طلب البرهان بما لا سبيل إليه في هذه الأرض . والقرآن يوجه هذا الفريق إلى الدلائل القائمة الحاضرة على صدق هذه القضية ، وهم عنها معرضون :

( وقالوا : ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا ، وما يهلكنا إلا الدهر . وما لهم بذلك من علم ، إن هم إلا يظنون . وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم إلا أن قالوا : ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين . قل : الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه . ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) . .

ويجوز أن يكون هؤلاء جميعاً فريقاً واحداً من الناس يصدر منه هذا وذاك ، ويصفه القرآن في السورة هنا وهناك . كما يجوز أن يكونوا فرقاً متعددة ممن واجهوا الدعوة في مكة . بما في ذلك بعض أهل الكتاب ، وقليل منهم كان في مكة . ويجوز أن تكون هذه إشارة عن هذا الفريق ليعتبر بها أهل مكة دون أن يقتضي هذا وجوده في مكة بالذات في ذلك الحين .

وعلى أية حال فقد واجه القرآن هؤلاء الناس بصفاتهم تلك وتصرفاتهم ، وتحدث عنهم في هذه السورة ذلك الحديث . . كذلك واجههم بآيات الله في الآفاق وفي أنفسهم ، وحذرهم حساب يوم القيامة ، وبصرهم بما جرى لمن قبلهم ممن انحرفوا عن دين الله القويم .

واجههم بآيات الله في هذا الأسلوب البسيط المؤثر العميق :

( إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين . وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون . واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها ، وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون . تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق ، فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون ? ) . .

وواجههم بها مرة أخرى في صورة نعم من أنعم الله عليهم يغفلون عن تذكرها وتدبرها :

( الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون . وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه . إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) . .

كذلك واجههم بحالهم يوم القيامة الذي ينكرونه أو يمارون فيه :

( ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون . وترى كل أمة جاثية . كل أمة تدعى إلى كتابها . اليوم تجزون ما كنتم تعملون . هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون . فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته . ذلك هو الفوز المبين . وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوماً مجرمين ? وإذا قيل : إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها . قلتم : ما ندري ما الساعة ، إن نظن إلا ظناً ، وما نحن بمستيقنين . وبدا لهم سيئات ما عملوا ، وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون . وقيل : اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا ، ومأواكم النار ، وما لكم من ناصرين : ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزواً وغرتكم الحياة الدنيا فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون . . )

كذلك لم يدع أي لبس أو شك في عدالة الجزاء وفردية التبعة ؛ فبين أن هذا الأصل عميق في تكوين الوجود كله ، وعليه يقوم هذا الوجود . ذلك حين يقول :

( من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها ، ثم إلى ربكم ترجعون ) . .

وحين يرد على من يحسبون وهم يجترحون السيئات أنهم عند الله كالمؤمنين الذين يعملون الصالحات ، فيقول :

( وخلق الله السماوات والأرض بالحق ، ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون ) . .

والسورة كلها وحدة في علاج موضوعها ؛ ولكننا قسمناها إلى درسين اثنين لتيسير عرضها وتفصيلها .

وهي تبدأ بالأحرف المقطعة : حا . ميم . والإشارة إلى القرآن الكريم : ( تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ) . . وتختم بحمد الله وربوبيته المطلقة ، وتمجيده وتعظيمه ، إزاء أولئك الذين يغفلون عن آياته ويستهزئون بها ويستكبرون عنها : ( فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين . وله الكبرياء في السماوات والأرض ، وهو العزيز الحكيم ) . .

ويسير سياق السورة في عرض موضوعها في يسر وهوادة وإيضاح هادىء ، وبيان دقيق عميق . على غير ما يسير سياق سورة الدخان قبلها في إيقاع عنيف كأنه مطارق تقرع القلوب .

والله خالق القلوب ، ومنزل هذا القرآن ، يأخذ القلوب تارة بالقرع والطرق . وتارة باللمس الناعم الرفيق ، وتارة بالبيان الهادى ء الرقيق . حسب تنوعها هي واختلافها . وحسب تنوع حالاتها ومواقفها في ذاتها . وهو اللطيف الخبير . وهو العزيز الحكيم . .

والآن نأخذ في التفصيل

( حم . تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم . إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين . وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون . واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها ، وتصريف الرياح ، آيات لقوم يعقلون ) . .

يذكر الحرفين : حا . ميم ويذكر بعدهما تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم . وفيهما دلالة على مصدر الكتاب ، كما أسلفنا الحديث عن الأحرف المقطعة في أوائل السور . من ناحية أن هذا الكتاب المعجز مصوغ من مثل هذه الأحرف ، وهم لا يقدرون على شيء منه ،

فهذه دلالة قائمة على أن تنزيل هذا الكتاب من الله( العزيز )القادر الذي لا يعجزه شيء . ( الحكيم )الذي يخلق كل شيء بقدر ، ويمضي كل أمر بحكمة . وهو تعقيب يناسب جو السورة وما تتعرض له من ألوان النفوس .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{حمٓ} (1)

مقدمة السورة:

( 45 )سورة الجاثية مكية

إلا آية14 فمدنية

وآياتها 37 نزلت بعد الدخان

هذه السورة مكية بلا خلاف في ذلك{[1]} .

تقدم القول في الحروف المقطعة في أوائل السور .


[1]:- أي فيمن نزلت، أفي المؤمنين جميعا أم في مؤمني أهل الكتاب؟
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{حمٓ} (1)

مقدمة السورة:

سميت هذه السورة في كثير من المصاحف العتيقة بتونس وكتب التفسير وفي صحيح البخاري { سورة الجاثية } معرفا باللام .

وتسمى { حم الجاثية } لوقوع لفظ { جاثية } فيها ولم يقع في موضع آخر من القرآن ، واقتران لفظ { الجاثية } بلام التعريف في اسم السورة مع أن اللفظ المذكور فيها خلي عن لام التعريف لقصد تحسين الإضافة ، والتقدير : سورة هذه الكلمة ، أي السورة التي تذكر فيها هذه الكلمة ، وليس لهذا التعريف فائدة غير هذه . وذلك تسمية حم غافر ، وحم الزخرف .

وتسمى { سورة شريعة } لوقوع لفظ { شريعة } فيها ولم يقع في موضع آخر من القرآن .

وتسمى { سورة الدهر } لوقوع { وما يهلكنا إلا الدهر } فيها ولم يقع لفظ الدهر في ذوات حم الأخر .

وهي مكية قال ابن عطية : بلا خلاف ، وفي القرطبي عن ابن عباس وقتادة استثناء قوله تعالى { قل للذين آمنوا يغفروا } إلى { بما كانوا يكسبون } نزلت بالمدينة . وعن ابن عباس أنها نزلت عن عمر بن الخطاب شتمه رجل من المشركين بمكة فأراد أن يبطش به فنزلت .

وهي السورة الرابعة والستون في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد ، نزلت بعد سورة الدخان وقبل الأحقاف .

وعدد آيها في عد المدينة ومكة والشام والبصرة ست وثلاثون . وفي عد الكوفة سبع وثلاثون لاختلافهم في عد لفظ { حم } آية مستقلة .

أغراضها

الابتداء بالتحدي بإعجاز القرآن وأنه جاء بالحق توطئة لما سيذكر بأنه حق كما اقتضاه قوله { تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق } .

وإثبات انفراد الله تعالى بالإلهية بدلائل ما في السماوات والأرض من آثار خلقه وقدرته في جواهر الموجودات وأعراضها وإدماج ما فيها مع ذلك من نعم يحق على الناس شكرها لا كفرها .

ووعيد الذين كذبوا على الله والتزموا الآثام بالإصرار على الكفر والإعراض عن النظر في آيات القرآن والاستهزاء بها .

والتنديد على المشركين إذ اتخذوا آلهة على حسب أهوائهم وإذ جحدوا البعث ، وتهديدهم بالخسران يوم البعث ، ووصف أهوال ذلك ، وما أعد فيه من العذاب للمشركين ومن رحمة للمؤمنين .

ودعاء المسلمين للإعراض عن إساءة الكفار لهم والوعد بأن الله سيخزي المشركين .

ووصف بعض أحوال يوم الجزاء . ونظر الذين أهملوا النظر في آيات الله مع تبيانها وخالفوا على رسولهم صلى الله عليه وسلم فيما فيه صلاحهم بحال بني إسرائيل في اختلافهم في كتابهم بعد أن جاءهم العلم وبعد أن اتبعوه فما ظنك بمن خالف آيات الله من أول وهلة تحذيرا لهم من أن يقعوا فيما وقع فيه بنو إسرائيل من تسليط الأمم عليهم وذلك تحذير بليغ .

وذلك تثبيت للرسول صلى الله عليه وسلم بأن شأن شرعه مع قومه كشأن شريعة موسى لا تسلم من مخالف ، وأن ذلك لا يقدح فيها ولا في الذي جاء بها ، وأن لا يعبأ بالمعاندين ولا بكثرتهم إذ لا وزن لهم عند الله .

تقدم القول في نظائره ، وهذه جملة مستقلة .