قوله تعالى : { والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه } ، هذا في الكفار . { ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل } ، أي : يؤمنون ببعض الأنبياء ويكفرون ببعض . وقيل : يقطعون الرحم ، { ويفسدون في الأرض } ، أي : يعملون بالمعاصي ، { أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار } ، يعني : النار ، وقيل : سوء المنقلب لأن منقلب الناس دورهم .
وعلى الضفة الأخرى أولئك الذين لا ألباب لهم فيتذكروا . ولا بصيرة لهم فيبصروا . وهم على النقيض في كل شيء مع أولي الألباب :
( والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ، ويفسدون في الأرض . أولئك لهم اللعنة ، ولهم سوء الدار ) . .
إنهم ينقضون عهد الله المأخوذ على الفطرة في صورة الناموس الأزلي ؛ وينقضون من بعده كل عهد ، فمتى نقض العهد الأول فكل عهد قائم عليه منقوض من الأساس . والذي لا يرعى الله لا يبقى على عهد ولا ميثاق . ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل على وجه العموم والإطلاق . ويفسدون في الأرض في مقابل صبر أولئك وإقامتهم للصلاة وإنفاقهم سرا وعلانية ودرء السيئة بالحسنة . فالإفساد في الأرض يقابل هذا كله ، وترك شيء من هذا كله إنما هو إفساد أو دافع إلى الإفساد .
( أولئك ) . . المبعدون المطرودون ( لهم اللعنة ) والطرد في مقابل التكريم هناك ( ولهم سوء الدار ) ولا حاجة إلى ذكرها ، فقد عرفت بمقابلها هناك !
هذا شرح حال أضداد الذين يوفون بعهد الله ، وهو ينظر إلى شرح مجمل قوله : { كمن هو أعمى } [ سورة الرعد : 19 ] . والجملة معطوفة على جملة { الذين يوفون } [ الرعد : 20 ] .
ونقض العهد : إبطاله وعدم الوفاء به .
وزيادة { من بعد ميثاقه } زيادة في تشنيع النقض ، أي من بعد توثيق العهد وتأكيده .
وتقدم نظير هذه الآية قوله تعالى : { وما يضلّ به إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض } في أوائل سورة البقرة : 26 27 ) .
وجملة { أولئك لهم اللعنة } خبر عن { والذين ينقضون } وهي مقابل جملة { أولئك لهم عقبى الدار } .
والبعد عن الرحمة والخزيُ وإضافة سوء الدار كإضافة عقبى الدار . والسوء ضد العقبى كما تقدم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وَ أما "الّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ"، ونقضهم ذلك: خلافُهم أمر الله، وعملهم بمعصيته، "مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ "يقول: من بعد ما وثقوا على أنفسهم لله أن يعملوا بما عهد إليهم، "وَيَقْطَعُونَ ما أمَرَ اللّهُ بِهِ أنْ يُوصَلَ" يقول: ويقطعون الرحم التي أمرهم الله بوصلها، "وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ" فسادهم فيها: عملهم بمعاصي الله. "أُولَئِكَ لَهُمُ اللّعْنَةُ" يقول: فهؤلاء لهم اللعنة، وهي البُعد من رحمته والإقصاء من جنانه، "وَلَهُمْ سُوءُ الدّارِ" يقول: ولهم ما يسوءهم في الدار الآخرة...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ) كل حرف من هذه الحروف يقتضي معنى الحرف الآخر: إذا نقضوا العهد والميثاق فقد قطعوا ما أمر الله به أن يوصل، وسعوا في الأرض بالفساد، وإذا قطعوا ما أمر الله به أن يوصل نقضوا العهد، وسعوا في الأصل بالفساد...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
لما ذكر الله تعالى الذين يوفون بعهده، ولا ينقضون ميثاقه، ووصفهم بالصفات التي يستحقون بها الجنة، وهي عقبى الدار، أخبر بعد ذلك عن حال من ينقض عهده من بعد إعطائه المواثيق، ويقطع ما أمر الله به أن يوصل.. والقطع: نقيض الوصل، وقطع ما أمر الله به أن يوصل، في كل عمل يجب تنميته، من صلة رحم أو غيره من الفروض اللازمة، والإفساد نقيض الإصلاح...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{مِن بَعْدِ ميثاقه} من بعد ما أوثقوه به من الاعتراف والقبول {سُوء الدار} يحتمل أن يراد سوء عاقبة الدنيا، لأنه في مقابلة عقبى الدار، ويجوز أن يراد بالدار جهنم، وبسوئها عذابها...
{والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه} وقد بينا أن عهد الله ما ألزم عباده بواسطة الدلائل العقلية والسمعية لأنها أوكد من كل عهد وكل يمين، إذ الأيمان إنما تفيد التوكيد بواسطة الدلائل الدالة على أنها توجب الوفاء بمقتضاها، والمراد من نقض هذه العهود أن لا ينظر المرء في الأدلة أصلا، فحينئذ لا يمكنه العمل بموجبها أو بأن ينظر فيها ويعلم صحتها ثم يعاند فلا يعمل بعمله أو بأن ينظر في الشبهة، فيعتقد خلاف الحق والمراد من قوله: {من بعد ميثاقه} أي من بعد أن وثق الله تلك الأدلة وأحكمها، لأنه لا شيء أقوى مما دل الله على وجوبه في أن ينفع فعله ويضر تركه...
{ويفسدون في الأرض} وذلك الفساد هو الدعاء إلى غير دين الله وقد يكون بالظلم في النفوس والأموال وتخريب البلاد...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ذكر ما للناجين، ذكر مآل الهالكين فقال: {والذين ينقضون عهد الله} أي الملك الأعلى فيعملون بخلاف موجبه؛ والنقض: التفريق الذي ينفي تأليف البناء. ولما كان النقض ضاراً ولو كان في أيسر جزء، أدخل الجار فقال: {من بعد ميثاقه} أي الذي أوثقه عليهم بما أعطاهم من العقول وأودعها من القوة على ترتيب المقدمات المنتجة للمقاصد الصالحة الدالة على صحة جميع ما أخبرت به رسله عليهم الصلاة والسلام والتحية والإكرام؛ والميثاق: إحكام العقد بأبلغ ما يكون في مثله {ويقطعون ما} أي الشيء الذي {أمر الله} أي غير ناظرين إلى ما له من العظمة والجلال، وعدل عن أن يوصله لما تقدم قريباً فقال: {به أن يوصل} أي لما له من المحاسن الجلية والخفية التي هي عين الصلاح {ويفسدون} أي يوقعون الإفساد {في الأرض} أي في أيِّ جزء كان منهم بوصل ما أمر الله به أن يقطع اتباعاً لأهوائهم، معرضين عن أدلة عقولهم، مستهينين بانتقام الكبير المتعال. ولما كانوا كذلك، استحقوا ضد ما تقدم للمتقين، وذلك هو الطرد والعقاب والغضب والنكال وشؤم اللقاء، فقال سبحانه وتعالى: {أولئك} أي البعداء البغضاء {لهم اللعنة} أي الطرد والبعد {ولهم سوء الدار} أي أن يكون دارهم الآخرة سيئة بلحاق ما يسوء فيها دون ما يسر...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
على الضفة الأخرى أولئك الذين لا ألباب لهم فيتذكروا. ولا بصيرة لهم فيبصروا. وهم على النقيض في كل شيء مع أولي الألباب... (والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل، ويفسدون في الأرض. أولئك لهم اللعنة، ولهم سوء الدار).. إنهم ينقضون عهد الله المأخوذ على الفطرة في صورة الناموس الأزلي؛ وينقضون من بعده كل عهد، فمتى نقض العهد الأول فكل عهد قائم عليه منقوض من الأساس. والذي لا يرعى الله لا يبقى على عهد ولا ميثاق. ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل على وجه العموم والإطلاق. ويفسدون في الأرض في مقابل صبر أولئك وإقامتهم للصلاة وإنفاقهم سرا وعلانية ودرء السيئة بالحسنة. فالإفساد في الأرض يقابل هذا كله، وترك شيء من هذا كله إنما هو إفساد أو دافع إلى الإفساد...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه} وعهد الله تعالى بدهي تدركه البديهية السليمة؛ لذا سمى دين التوحيد، فطرة الله تعالى التي فطر الناس عليها. وهي إدراكها حقيقة، حتى إن بعض العلماء قال: إن إدراك الله تعالى تدركه البديهة السليمة؛ لذا سمى دين التوحيد، فطرة الله التي فطر الناس عليها. وقد نص على عهد الله في قوله تعالى: {وإذ أخذ ربك من بني آدم ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين (172) أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون (173) وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون (174)} [الأعراف]...
{أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار} اللعنة هي الطرد، وقد ذكرت غير مقيدة، فإنها في الدنيا أو الآخرة، أما لعنتهم في الدنيا فالمقت الشديد والبغض والكراهية، وسوء الأحدوثة، واقتران حياتهم بالخوف من الناس، والاضطراب النفسي حتى يموتوا بغيظهم، وسوء الحديث عنهم تتوارثه الأجيال جيلا بعد جيل...
ولقائل أن يسأل: وهل آمن هؤلاء وكان بينهم وبين الله عهد ونقضوه؟ ونقول: يصح أنهم قد آمنوا ثم كفروا، أو: أن الكلام هنا ينصرف إلى عهد الله الأزلي.
يقول سبحانه: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى} (سورة الأعراف 172).
وهنا يوضح سبحانه أن من ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه وتأكيده بالآيات الكونية التي تدل على وجود الخالق الواحد: {ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل}
والمقابل لهم هم أولو الألباب الذين كانوا يصلون ما أمر سبحانه أن يوصل وهؤلاء الكفرة نقضة العهد: {ويفسدون في الأرض} ولم يأت الحق سبحانه بالمقابل لكل عمل أداه أولو الألباب؛ فلم يقل:"ولا يخشون ربهم"؛ لأنهم لا يؤمنون بإله؛ ولم يقل: "لا يخافون سوء الحساب "لأنهم لا يؤمنون بالبعث. وهكذا يتضح لنا أن كل شيء في القرآن جاء بقدرٍ، وفي تمام موقعه.
ونحن نعلم أن الإفساد في الأرض هو إخراج الصالح عن صلاحه، فأنت قد أقبلت على الكون، وهو معد لاستقبالك بكل مقومات الحياة من مأكل ومشرب وتنفس؛ وغير ذلك من الرزق، واستبقاء النوع بأن أحل لنا سبحانه أن نتزاوج ذكراً وأنثى.
والفساد في الكون أن تأتي إلى صالح في ذاته فتفسده؛ ونقول دائماً: إن كنت لا تعرف كيف تزيد الصالح صلاحاً؛ فاتركه على حاله؛ واسمع قول الحق سبحانه: {ولا تقف ما ليس لك به علم} (سورة الإسراء 36).
فلا تنظر في أي أمر إلى الخير العاجل منه؛ بل انظر إلى ما يؤول إليه الأمر من بعد ذلك؛ أيضر أم ينفع؟ لأن الضر الآجل قد يتلصص ويتسلل ببطء وأناة؛ فلا تستطيع له دفعاً من بعد ذلك. ويقول الحق سبحانه في آخر الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها:
{أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار}
ونلحظ أن التعبير هنا جاء باللام مما يدل على أن اللعنة عشقتهم عشق الملوك للمال: {ولهم سوء الدار} أي: عذابها، وهي النار والعياذ بالله.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ}، وهذا هو الجانب الآخر من الصورة الاجتماعية للعلاقة مع الآخر، فهؤلاء لا يلتزمون بعهدهم الذي عاهدوا الله عليه بشكل مباشر، أو غير مباشرٍ، ويتراجعون عن التزامهم التعاقدي مع الناس بعد عهدهم الموثق معهم، لأنهم لا يملكون القاعدة الروحية التي تجعلهم يحترمون كلمتهم وعهدهم، وتجعلهم يخافون ربهم في ما يقومون به أو لا يقومون به. فهم يربكون بأعمالهم هذه حياتهم وحياة الناس من حولهم، ويعرضونها للاهتزاز بفعل جو انعدام الثقة الذي تخلقه تصرفاتهم بين الناس، لأنها تهز أسس التعامل في تنظيم العلاقات بين الناس.
{وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ}، من خلال ما يملكونه من إمكاناتٍ ومواقع وفرصٍ وامتيازاتٍ عامةٍ وخاصةٍ، يستغلونها في عملية إفساد الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والأمني، ليحصلوا من ورائها على أرباحٍ لحسابهم الخاص، أو لحساب من يتبعونهم من دون الله، بالإساءة إلى البلاد والعباد، فينصرون الظالم، ويخذلون العادل، ويشجعون المجرم، ويدعمون الخائن، ويضغطون على كل أعمال الخير ودعوات الإيمان،...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
يتلخّص فساد عقيدتهم في الجمل الثلاث الآتية:
نقض العهود الإلهيّة: وتشمل المواثيق الفطرية والعقليّة والتشريعيّة.
قطع الصلات: وتشمل الصلة مع الله والرسل والناس ومع أنفسهم.
الإفساد في الأرض: وهو نتيجة حتمية لنقض العهود وقطع الصلات. أو ليس المفسد هو الذي ينقض عهد الله ويقطع الصلات؟! فهذا السعي من قبل هذه المجموعة من الأفراد بهدف الوصول إلى الأغراض المادّية، وعوضاً أن تصل بهم هذه الجهود المبذولة إلى الأهداف النّبيلة تُبعدهم عنها، لأنّ اللعن هو عبارة عن الابتعاد من رحمة الله. ومن الطريف أنّ الدار هنا وفي الآية السابقة جاءت بصيغة مطلقة، وهذه إشارة إلى أنّ الدار الحقيقيّة هي الدار الآخرة، وأي دار ما عداها فانية وزائلة...