وعندئذ يجيء التهديد الرعيب للمنكرين في موضعه ، بعد شهادة الله - سبحانه - وشهادة الملائكة بكذبهم وتعنتهم والتوائهم .
( إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا . إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا . وكان ذلك على الله يسيرًا ) . .
إن هذه الأوصاف وهذه التقريرات - مع كونها عامة - تنطبق أول ما تنطبق ، على حال اليهود ، وتصور موقفهم من هذا الدين وأهله ؛ بل من الدين الحق كله ؛ سواء منهم من عاصروا فجر الدعوة في المدينة ، أو من سبقوهم منذ أيام موسى عليه السلام أو من جاءوا بعدهم إلى يومنا هذا - إلا القلة النادرة المستثناة من الذين فتحوا قلوبهم للهدى فهداهم الله .
وهؤلاء - وكل من ينطبق عليهم وصف الكفر والصد - قد ضلوا ضلالا بعيدا . ضلوا عن هدى الله ؛ وضلوا طريقهم القويم في الحياة . ضلوا فكرا وتصورا واعتقادا ؛ وضلوا سلوكا ومجتمعا وأوضاعا . ضلوا في الدنيا وضلوا في الآخرة . ضلوا ضلالا لا يرتجى معه هدى . . ( ضلوا ضلالا بعيدًا ) . .
يجوز أن يكون المراد بالذين كفروا هنا أهل الكتاب ، أي اليهود ، فتكون الجملة بمنزلة الفذلكة للكلام السابق الرّادّ على اليهود من التحاور المتقدّم . وصدُّهم عن سبيل الله يحتمل أن يكون من صَدّ القاصر الذي قياس مضارعه يصِدّ بكسر الصاد ، أي أعرضوا عن سبيل الله . أي الإسلام ، أو هو من صَدّ المتعدي الذي قياس مضارعه بضمّ الصاد ، أي صدّوا النّاس . وحذف المفعول لقصد التكثير . فقد كان اليهود يتعرّضون للمسلمين بالفتنة ، ويقوون أوهام المشركين بتكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم ويجوز أن يكون المراد بالذين كفروا المشركين ، كما هو الغالب في إطلاق هذا الوصف في القرآن ، فتكون الجملة استئنافاً ابتدائياً ، انتقل إليه بمناسبة الخوض في مناواة أهل الكتاب للإسلام . وصدّهم عن سبيل الله ، أي صدّهم النّاس عن الدخول في الإسلام مشهور .
والضلال الكفر لأنّه ضياع عن الإيمان ، الذي هو طريق الخير والسعادة ، فإطلاق الضلال على الكفر استعارة مبنيَّة على استعارة الطريق المستقيم للإيمان . ووصف الضلال بالبعيد مع أنّ البعد من صفات المسافات هو استعارة البعد لشدّة الضلال وكماله في نوعه ، بحيث لا يدرك مقداره ، وهو تشبيه شائع في كلامهم : أن يشبّهوا بلوغ الكمال بما يدلّ على المسافات والنهايات كقولهم : بَعيد الغور ، وبعيد القعر ، ولا نهاية له ، ولا غاية له ، ورجل بعيد الهمّة ، وبعيد المرمَى ، ولا منتهى لكبارها ، وبحر لا ساحل له ، وقولهم : هذا إغراق في كذا .
ومن بديع مناسبته هنا أنّ الضلال الحقيقي يكون في الفيافي والموامِي ، فإذا اشتدّ التيه والضلال بَعُدَ صاحبه عن المعمور ، فكان في وصفه بالبعيد تعاهد للحقيقة ، وإيماء إلى أنّ في إطلاقه على الكفر والجهل نقلاً عرفياً .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم قال يعنيهم: {إن الذين كفروا}: اليهود كفروا بمحمد والقرآن، {وصدوا عن سبيل الله}: عن دين الإسلام، {قد ضلوا} عن الهدى، {ضلالا بعيدا}: طويلا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
إن الذين جحدوا يا محمد نبوّتك بعد علمهم بها من أهل الكتاب الذين اقتصصت عليك قصتهم، وأنكروا أن يكون الله جلّ ثناؤه أوحى إليك كتابه، وَصدّوا عن سَبِيلِ الله يعني عن الدين الذي بعثك الله به إلى خلقه وهو الإسلام. وكان صدّهم عنه: قيلهم للناس الذين يسألونهم عن محمد من أهل الشرك: ما نجد صفة محمد في كتابنا، وادّعاءهم أنهم عهد إليهم أن النبوّة لا تكون إلا في ولد هارون ومن ذرية داود، وما أشبه ذلك من الأمور التي كانوا يثبطون الناس بها عن اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم والتصديق به وبما جاء به من عند الله. وبما جاء به من عند الله.
"قَدْ ضَلّوا ضَلالاً بَعِيدا": قد جاروا عن قصد الطريق جَوْرا شديدا، وزالوا عن المحجة. وإنما يعني جلّ ثناؤه بجورهم عن المحجة، وضلالهم عنها: إخطاءهم دين الله الذي ارتضاه لعباده وابتعث به رسله، يقول: من جحد رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وصدّ عما بعث به من الملة من قبل منه، فقد ضلّ فذهب عن الدين الذي هو دين الله الذي ابتعث به أنبياءه ضلالاً بعيدا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إن الذين كفروا}: كفروا بآيات الله {وصدوا} الناس {عن سبيل الله قد ضلوا ضلال بعيدا}: قد تاهوا، وتحيروا تحيرا طويلا. ويحتمل {قد ضلوا ضلالا بعيدا}: هلكوا هلاكا، لا نجاة لهم،
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
جعل صدَّهم المؤمنين من اتباع الحقِّ كفرهم بالله...
{إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا} جعل ظُلْمَهُم سبيلَ كفرهم، فَعَلَّقَ استحقاق العقوبة المؤبَّدة عليها جميعاً. والظلم -وإنْ لم يكن كالكفر في استحقاق وعيد الأبد- فَلِشُؤْمِ الظلم لا يبعد أن يخذلَه اللهُ حتى يُوَافِيَ ربَّه على الكفر.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{ضلوا ضلالاً بعيداً} لا يقرب رجوعهم عنه ولا تخلصهم معه.
اعلم أن هذا من صفات اليهود الذين تقدم ذكرهم، والمراد أنهم كفروا بمحمد وبالقرآن وصدوا غيرهم عن سبيل الله، وذلك بإلقاء الشبهات في قلوبهم نحو قولهم: لو كان رسولا لأتى بكتابه دفعة واحدة من السماء كما نزلت التوراة على موسى، وقولهم: إن الله تعالى ذكر في التوراة أن شريعة موسى لا تبدل ولا تنسخ إلى يوم القيامة، وقولهم: إن الأنبياء لا يكونون إلا من ولد هارون وداود، وقوله {قد ضلوا ضلالا بعيدا} وذلك لأن أشد الناس ضلالا من كان ضالا ويعتقد في نفسه أنه محق، ثم إنه يتوسل بذلك الضلال إلى اكتساب المال والجاه، ثم إنه يبذل كنه جهده في إلقاء غيره في مثل ذلك الضلال، فهذا الإنسان لا شك أنه قد بلغ في الضلال إلى أقصى الغايات وأعظم النهايات، فلهذا قال تعالى في حقهم {قد ضلوا ضلالا بعيدا}.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
لأنهم جمعوا بين الضلال والإضلال ولأن المضل يكون أغرق في الضلال وأبعد من الانقلاع عنه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما بين سبحانه أنه أقام الأدلة على صحته بالمعجزات، فصار كأنه شهد بحقيقته، كان أنفع الأشياء اتباع ذلك بوصف من جحده في نفسه وصد عنه غيره زجراً عن مثل حاله وتقبيحاً لما أبدى من ضلاله فقال: {إن الذين كفروا} أي ستروا ما عندهم من العلم بصدقه بما دل عليه من شاهد العقل وقاطع النقل، من اليهود وغيرهم {وصدوا عن سبيل الله} أي الملك الأعلى الذي لا أمر لأحد معه بأنفسهم وبإضلال غيرهم بما يلقونه من الشبه من مثل هذه وقولهم كذباً: إن في التوراة أن شريعة موسى عليه الصلاة والسلام لا تنسخ، وقولهم: إن الأنبياء لا يكونون إلا من أبناء هارون وداود عليهما الصلاة والسلام {قد ضلوا} أي عن الطريق الموصل إلى مقصودهم في حسده ومنع ما يراد من إعلائه {ضلالاً بعيداً} أي لأن أشد الناس ضلالاً مبطل يعتقد أنه محق، ثم يحمل غيره على مثل باطله، فصاروا بحيث لا يرجى لهم الرجوع إلى الطريق النافع، لا سيما إن ضم إلى ذلك الحسد، لأن داء الحسد أدوأ داء.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{إن الذين كفروا و صدوا عن سبيل الله} أي أعرضوا عن طريق الحق والخير الموصلة إلى رضوان الله تعالى، وحملوا غيرهم على الإعراض عنها، بسوء القدوة، وتمويه الشبهة {قد ضلوا ضلال بعيدا} بسيرهم في سبل الشيطان سيرا حثيثا، بعدوا به عن سبيل الله بعدا شاسعا، حتى لم يعودوا يبصرون ما اتصف به من الوضوح والاستقامة، ولا يفقهون أنها هي الموصلة إلى خير العاقبة ومرسى السلامة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن هذه الأوصاف وهذه التقريرات -مع كونها عامة- تنطبق أول ما تنطبق، على حال اليهود، وتصور موقفهم من هذا الدين وأهله؛ بل من الدين الحق كله؛ سواء منهم من عاصروا فجر الدعوة في المدينة، أو من سبقوهم منذ أيام موسى عليه السلام، أو من جاءوا بعدهم إلى يومنا هذا -إلا القلة النادرة المستثناة من الذين فتحوا قلوبهم للهدى فهداهم الله. وهؤلاء- وكل من ينطبق عليهم وصف الكفر والصد -قد ضلوا ضلالا بعيدا. ضلوا عن هدى الله؛ وضلوا طريقهم القويم في الحياة. ضلوا فكرا وتصورا واعتقادا؛ وضلوا سلوكا ومجتمعا وأوضاعا. ضلوا في الدنيا وضلوا في الآخرة. ضلوا ضلالا لا يرتجى معه هدى.. (ضلوا ضلالا بعيدًا)..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والضلال: الكفر لأنّه ضياع عن الإيمان، الذي هو طريق الخير والسعادة، فإطلاق الضلال على الكفر استعارة مبنيَّة على استعارة الطريق المستقيم للإيمان. ووصف الضلال بالبعيد مع أنّ البعد من صفات المسافات هو استعارة البعد لشدّة الضلال وكماله في نوعه، بحيث لا يدرك مقداره، وهو تشبيه شائع في كلامهم: أن يشبّهوا بلوغ الكمال بما يدلّ على المسافات والنهايات كقولهم: بَعيد الغور، وبعيد القعر، ولا نهاية له، ولا غاية له، ورجل بعيد الهمّة، وبعيد المرمَى، ولا منتهى لكبارها، وبحر لا ساحل له، وقولهم: هذا إغراق في كذا. ومن بديع مناسبته هنا أنّ الضلال الحقيقي يكون في الفيافي والموامِي، فإذا اشتدّ التيه والضلال بَعُدَ صاحبه عن المعمور، فكان في وصفه بالبعيد تعاهد للحقيقة، وإيماء إلى أنّ في إطلاقه على الكفر والجهل نقلاً عرفياً.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
في الآيات السابقة كان الكلام في أحوال اليهود، وسائر الكافرين وبين سبحانه كيف كانت تأتيهم المعجزات القاهرة والبينات الباهرة ومع ذلك يستمرون في إنكارهم ويلجون في عنادهم ويطلبون آيات أخرى، والمآل الكفران، حتى إن بعضهم في الماضي ليسألون موسى أن يريهم الله جهرة، وبعضهم في عصر نزول آية يطلب آية أخرى والنبي يتحداهم بالقرآن أن يأتوا بمثله أو بسورة من مثله ولو مفتراة، وهو يجادلهم بالتي هي أحسن. وقد بين سبحانه أنه تعالى أرسل الرسل ليقيم الحجة، ويختار من عباده للرسالة من يشاء، وإنكارهم لا يجديهم ولا يهديهم، ولا ينجيهم بل إن العقاب يوم القيامة يترقبهم وإنهم بقدر لجاجتهم في الإنكار يبتعدون عن طريق الهداية، وأوغلوا في طريق الغواية حتى يصلوا في طريق جهنم إلى نهايته، وأنهم لخالدون فيها، وقد قال سبحانه وتعالى: {إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا}
{إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا} "صد "يستعمل متعديا، ومصدره "الصد"، وقد تستعمل كلمة "صد" لازما، ويكون مصدرها الصدود، وقد جاء في مفردات الأصفهاني معنى الصد: "الصد والصدود قد يكونان انصرافا عن الشيء وامتناعا نحو {يصدون عنك صدودا (61)} (النساء)، وقد يكون صدا ومنعا نحو: {وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل (24)} (النمل) ونحو: {الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله (1)} (محمد) وكما قال تعالى: {ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك (87)} (القصص)".
والصد هنا في هذا النص الكريم بمعنى التعدي، فمعنى النص السامي، إن الذين جحدوا بالحق إذ جاءهم ولا يكتفون بانصرافهم عن الإذعان والإيمان بل يصدون غيرهم ويمنعونهم من الحق بإثارة الشبهات وإيقاد الفتن بين المؤمنين، يوغلون في الضلال، ويسيرون في طريقه سيرا بعيدا.
أولها: أن الكفر بطبيعته انصراف عن الحق وصدود عن طريقه، ولذلك فسرنا كلمة {وصدوا عن سبيل الله} بمعنى منع غيرهم من سلوك الأقوم والهادي إلى الحق الذي لا ريب فيه، وإن الذي يصد غيره قد ابتدأ بصد نفسه فالمضل لغيره هو ذات نفسه ضال، فإن الإضلال من ثمرات الضلال، ولا يضل الناس إلا ضال، وقد ضل مرتين إحداهما بإنكاره للحق، والثانية بمحاولته إضلال غيره.
وثانيها: أن الضلال البعد عن الطريق المستقيم فمن ضل فقد بعد عن الحق، ومن أضل غيره فقد بعد عن الحق بمقدار أوسع، وهكذا كلما سار في التضليل وفتنة المهتدين وإيذائهم وإثارة الشبهات بينهم فهو يسير موغلا في البعد عن الطريق المستقيم، وهذا معنى قوله قد ضلوا ضلالا بعيدا.
ثالثها: أن قوله تعالى {قد ضلوا ضلالا بعيدا} فيه استعارة تمثيلية لأن فيه شبيه حال الذين يمعنون في الغي والفساد وإنكار الحقائق عندما يلحفون في الإنكار، وإثارة الشبه بحال الذين يسيرون في بيداء وقد ضلوا الطريق وساروا على غير هدى فكلما ساروا بعدوا عن الجادة وكان سيرهم ضلالا بعيدا لا يهتدون من بعد إذ لا يجدون من يهديهم إلى سواء الصراط.
الأمر الرابع: أن النفس البشرية قد هداها الله تعالى النجدين طريق الحق، وطريق الباطل وألهمها فجورها وتقواها فإذا اتجهت إلى الخير سارت فيه، وكلما كثرت خيراتها زاد فضلها، وإذا انحرفت عن الطريق السوي أو سارت فيه فإذا نبهت من قريب عادت إلى الفطرة والحق وأمامها الأمارات والعلامات المبينة المرشدة، وإذا لم تنتبه من قريب سارت في الشر وبمقدار سيرها تأخذ أمارات الحق تختفي أمامها، حتى تنطمس فلا ترى، ولذلك لا يكون ثمة أمل في العودة إلى الجادة لأنه قد اختفت في النفس أمارات الحق، وانطفأ نوره ولذا قال سبحانه: {إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا}.
إن كفر الكافر إنما يعود إليه، وهو يملك الاختيار بين الكفر والإيمان لكن أن يصد الكافر غيره عن الإيمان فهذا ضلال متعد، لقد ضل في نفسه وهو يحاول أن يضل غيره لذلك لا يحمل وزره فقط ولكن يحمل أوزار من يضلهم.
وكيف يكون الصد عن سبيل الله؟ بمحاولة أهل الضلال أن يمنعوا آيات الهدى من أن تصل إلى آذان الناس، فيقولوا ما رواه الحق منهم:
{لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون} (من الآية26سورة فصلت).
ولو فهموا معنى هذه الآية لما قالوا ما جاء فيها، فقولهم:"لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه" أي اصنعوا ضجة تشوش على سماع القرآن، وهم قد علموا أن هذا القرآن عندما يصل إلى الأسماع فإنه يبلغ الهداية ولو كان القرآن غير مؤثر لما قالوا ذلك، إذن هم يعترفون بأنهم يغلبون عندما يصل صوت القرآن إلى آذان البشر المدعوين إلى الهداية.
"إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا "كان يكفي أن يقول الحق:"قد ضلوا "لكنه جاء بالمصدر التأكيدي" قد ضلوا ضلالا بعيدا "أي إنه ضلال بعينه وهو فوق ذلك ضلال بعيد.
وعندما ننظر في كلمة" بعيد"، نعرف أن الشيء البعيد هو الذي بينه وبين مصدره مسافة زمنية طويلة والذي يضل قصارى ضلاله أن ينتهي بانتهاء حياته، لكن الذي يعمل على إضلال غيره فهو يجعل الضلال يمتد، أي أن الضلال سيأخذ في هذه الحالة زمنا أكبر من حياة المضل ويتوالى الضلال عن المضلين أجيالا، وهكذا يصبح الضلال ممتدا.
والضلال المعروف في الماديات البشرية على سبيل المثال أن يسير الإنسان إلى طريق فيضل إلى طريق آخر وقصارى ما يضل فيه هو أن يذهب إلى مفازة أي صحراء ولا يجد ماء ولا طعاما فيموت لكن الضال المضل يجعل ضلاله يأخذ زمن الدنيا والآخرة وبذلك يكون ضلاله ممتدا.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
هؤلاء الكفار الذين لا يكتفون بأن يكفروا بالله، بل يضيفون إلى ذلك الوقوف كحجر عثرة أمام سبيل الله، في كل جوانب الفكر والعمل، ويعملون على أن يمنعوا العاملين من التحرُّك بحرية من أجل الوصول إلى قناعات الناس، من موقع الإقناع القائم على البرهان والحجة الواضحة... هؤلاء الكافرون تائهون ضالّون ضلالاً بعيداً، لأنهم يحسبون أنفسهم في طريق الهدى جهلاً واستكباراً؛ ولهذا فإنهم لا يرجعون إلى قاعدة من الهدى ليرتكزوا عليها، بل يظلون ينتقلون من ضلال إلى ضلال، لأنهم لا يسمحون لأفكارهم أن تتحرك في داخلهم بحرية ليكتشفوا الحق من ذلك الموقع.