التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ قَدۡ ضَلُّواْ ضَلَٰلَۢا بَعِيدًا} (167)

يجوز أن يكون المراد بالذين كفروا هنا أهل الكتاب ، أي اليهود ، فتكون الجملة بمنزلة الفذلكة للكلام السابق الرّادّ على اليهود من التحاور المتقدّم . وصدُّهم عن سبيل الله يحتمل أن يكون من صَدّ القاصر الذي قياس مضارعه يصِدّ بكسر الصاد ، أي أعرضوا عن سبيل الله . أي الإسلام ، أو هو من صَدّ المتعدي الذي قياس مضارعه بضمّ الصاد ، أي صدّوا النّاس . وحذف المفعول لقصد التكثير . فقد كان اليهود يتعرّضون للمسلمين بالفتنة ، ويقوون أوهام المشركين بتكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم ويجوز أن يكون المراد بالذين كفروا المشركين ، كما هو الغالب في إطلاق هذا الوصف في القرآن ، فتكون الجملة استئنافاً ابتدائياً ، انتقل إليه بمناسبة الخوض في مناواة أهل الكتاب للإسلام . وصدّهم عن سبيل الله ، أي صدّهم النّاس عن الدخول في الإسلام مشهور .

والضلال الكفر لأنّه ضياع عن الإيمان ، الذي هو طريق الخير والسعادة ، فإطلاق الضلال على الكفر استعارة مبنيَّة على استعارة الطريق المستقيم للإيمان . ووصف الضلال بالبعيد مع أنّ البعد من صفات المسافات هو استعارة البعد لشدّة الضلال وكماله في نوعه ، بحيث لا يدرك مقداره ، وهو تشبيه شائع في كلامهم : أن يشبّهوا بلوغ الكمال بما يدلّ على المسافات والنهايات كقولهم : بَعيد الغور ، وبعيد القعر ، ولا نهاية له ، ولا غاية له ، ورجل بعيد الهمّة ، وبعيد المرمَى ، ولا منتهى لكبارها ، وبحر لا ساحل له ، وقولهم : هذا إغراق في كذا .

ومن بديع مناسبته هنا أنّ الضلال الحقيقي يكون في الفيافي والموامِي ، فإذا اشتدّ التيه والضلال بَعُدَ صاحبه عن المعمور ، فكان في وصفه بالبعيد تعاهد للحقيقة ، وإيماء إلى أنّ في إطلاقه على الكفر والجهل نقلاً عرفياً .