قوله تعالى : { وإذا ما أنزلت سورة } ، فيها عيب المنافقين وتوبيخهم ، { نظر بعضهم إلى بعض } ، يريدون الهرب يقول بعضهم لبعض إشارة ، { هل يراكم من أحد } ، أي : أحد من المؤمنين ، إن قمتم ، فإن لم يرهم أحد خرجوا من المسجد وإن علموا أن أحدا يراهم أقاموا وثبتوا ، { ثم انصرفوا } ، عن الإيمان بها . وقيل : انصرفوا عن مواضعهم التي يسمعون فيها ، { صرف الله قلوبهم } ، عن الإيمان . قال أبو إسحاق الزجاج : أضلهم الله مجازاة على فعلهم ذلك ، { بأنهم قوم لا يفقهون } ، عن الله دينه . قال ابن عباس رضي الله عنهما : { لا تقولوا إذا صليتم انصرفنا من الصلاة فإن قوما انصرفوا فصرف الله قلوبهم ولكن قولوا قد قضينا الصلاة } .
فأما الصورة الحية أو المشهد المتحرك فترسمه الآية الأخيرة ، في شريط متحرك دقيق :
( وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض : هل يراكم من أحد ? ثم انصرفوا . صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون ! ) .
وإننا - حين نتلو الآية - لنستحضر مشهد هؤلاء المنافقين وقد نزلت سورة . فإذا بعضهم ينظر إلى بعض ويغمز غمزة المريب :
ثم تلوح لهم غرة من المؤمنين وانشغال فإذا هم يتسللون على أطراف الأصابع في حذر :
تلاحقهم من العين التي لا تغفل ولا تنشغل دعوة قاصمة تناسب فعلتهم المريبة :
صرفها عن الهدى فإنهم يستحقون أن يظلوا في ضلالهم يعمهون : ( بأنهم قوم لا يفقهون )
عطلوا قلوبهم عن وظيفتها فهم يستحقون !
إنه مشهد كامل حافل بالحركة ترسمه بضع كلمات ، فإذا هو شاخص للعيون كأنها تراه !
وقوله : { وَإِذَا مَا أُنزلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ } {[14020]} هذا أيضا إخبار عن المنافقين أنهم إذا أنزلت سورة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، { نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ } أي : تَلَفَّتُوا ، { هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا } أي : تولوا عن الحق وانصرفوا عنه ، وهذا حالهم في الدين لا يثبتون عند الحق ولا يقبلونه ولا يقيمونه كما قال تعالى : { فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ . كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ . فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ } [ المدثر : 49 - 51 ] ، وقال تعالى : { فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ . عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ } [ المعارج : 36 ، 37 ] ، أي : ما لهؤلاء القوم يتقللون عنك يمينا وشمالا هروبا من الحق ، وذهابا إلى الباطل .
وقوله : { ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } كقوله : { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } [ الصف : 5 ] ،
{ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ } أي : لا يفهمون عن الله خطابه ، ولا يقصدون لفهمه ولا يريدونه ، بل هم في شده{[14021]} عنه ونفور منه فلهذا صاروا إلى ما صاروا إليه .
عطف على جملة : { وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً } [ التوبة : 124 ] والظاهر أن المقصود عطف جملة : { نظر بعضهم إلى بعض } على جملة : { فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً } [ التوبة : 124 ] . وإنما أعيدت جملة الشرط لبعد ما بين الجملة المعطوفة وجملة الجزاء ، أو للإشارة إلى اختلاف الوقت بالنسبة للنزول الذي يقولون عنده { أيكم زادته هذه إيماناً } [ التوبة : 124 ] وبالنسبة للسورة التي عند نزولها ينظر بعضهم إلى بعض ، أو لاختلاف السورتين بأن المراد هنا سورة فيها شيء خاص بهم .
وموجب زيادة ( ما ) بعد ( إذا ) في الآيتين متحد لاتحاد مقتضيه .
ونظَرُ بعضهم إلى بعض عند نزول السورة يدل على أنهم كانوا حينئذٍ في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم لأن نظر بعضهم إلى بعض تعلقت به أداة الظرفية ، وهي ( إذا ) . فتعين أن يكون نظرُ بعضهم إلى بعض حاصلاً وقت نزول السورة . ويدل لذلك أيضاً قوله : { ثُم انصرفوا } أي عن ذلك المجلس . ويدل أيضاً على أن السورة مشتملة على كشف أسرارهم وفضح مكرهم لأن نظر بعضهم إلى بعض هو نظر تعجب واستفهام . وقد قال تعالى في الآية السابقة : { يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون } [ التوبة : 64 ] . ويدل أيضاً على أنهم كاتمون تعجُّبَهم من ظهور أحوالهم خشية الاعتراف بما نسب إليهم ولذلك اجتزوا بالتناظر دون الكلام . فالنظر هنا نظر دال على ما في ضمير الناظر من التعجب والاستفهام .
وجملة : { هل يراكم من أحد } بيان لجملة { نظر بعضهم إلى بعض } لأن النظر تفاهموا به فيما هو سِرّ بينهم ؛ فلما كان النظر نظر تفاهم صح بيان جملته بما يدل على الاستفهام التعجيبي ، ففي هذا النظم إيجازُ حذف بديعٌ دلت عليه القرينة . والتقدير : وإذا ما أنزلت سورة فيها فضيحةُ أمرهم نظر بعضهم إلى بعض بخائنة الأعين مستفهمين متعجبين من اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على أسرارهم ، أي هل يراكم من أحد إذا خلوتم ودبرتم أموركم ، لأنهم بكفرهم لا يعتقدون أن الله أطْلع نبيه عليه الصلاة والسلام على دخيلة أمرهم .
وزيادة جملة : { ثم انصرفوا } لإفادة أنهم لم يكتسبوا من نزول السورة التي أطلعت المؤمنين على أسرارهم عبرةً ولا قُرباً من الإيمان ، بل كان قصارى أمرهم التعجب والشك في أن يكون قد اطلع عليهم من يبوح بأسرارهم ثم انصرفوا كأن لم تكن عبرة . وهذا من جملة الفتن التي تحل بهم ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون .
وجملة : { صرف الله قلوبهم } مستأنفة استئنافاً بيانياً ، لأن ما أفاده قوله : { ثم انصرفوا } من عدم انتفاعهم بما في تلك السورة من الإخبار بالمغيبات الدال على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم يثير سؤال من يسأل عن سَبب عدم انتفاعهم بذلك واهتدائهم ، فيجاب بأن الله صرف قلوبهم عن الفهم بأمر تكويني فحُرموا الانتفاع بأبلغ واعظ .
وكان ذلك عقاباً لهم بسبب أنهم { قوم لا يفقهون } ، أي لا يفهمون الدلائل ، بمعنى لا يتطلبون الهدى بالتدبر فيفهموا .
وجعل جماعة من المفسرين قولَه : { صرف الله قلوبهم } دعاء عليهم ، ولا داعي إليه لأن دعاء الله على مخلوقاته تكوين كما تقدم ، ولأنه يأباه تسْبيبه بقوله : { بأنهم قوم لا يفقهون } .
وقد أعرض المفسرون عن تفسير هذه الآية تفسيراً يبين استفادة معانيها من نظم الكلام فأتوا بكلام يخاله الناظر إكراهاً لها على المعنى المراد وتقديرات لا ينثلج لها الفؤاد .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإذا ما أنزلت سورة نظر} المنافقون {بعضهم إلى بعض} يسخرون بينهم، يعنى: يتغامزون، فقالوا: {هل يراكم من أحد} يعني أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، {ثم انصرفوا} عن الإيمان بالسورة، يقول: أعرضوا عن الإيمان بها، {صرف الله قلوبهم} عن الإيمان بالقرآن...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وإذا ما أنزلت سورة من القرآن فيها عيب هؤلاء المنافقين الذين وصف جلّ ثناؤه صفتهم في هذه السورة، وهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم "نظر بعضهم إلى بعض"، فتناظروا "هل يراكم من أحد؟ "إن تكلمتم أو تناجيتم بمعايب القوم يخبرهم به، ثم قاموا فانصرفوا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يستمعوا قراءة السورة التي فيها معايبهم. ثم ابتدأ جلّ ثناؤه قوله: "صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ" فقال: صرف الله عن الخير والتوفيق والإيمان بالله ورسوله قلوب هؤلاء المنافقين ذلك "بأنّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ" يقول: فعل الله بهم هذا الخذلان، وصرف قلوبهم عن الخيرات من أجل أنهم قوم لا يفقهون عن الله مواعظه، استكبارا ونفاقا...
عن ابن عباس، قال: لا تقولوا: انصرفنا من الصلاة، فإن قوما انصرفوا فصرف الله قلوبهم، ولكن قولوا: قد قضينا الصلاة...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وقوله تعالى: (وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) قال بعضهم: الآية صلة قوله: (وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً) أي كان (نظر بعضهم إلى بعض) ثم يقولون ما ذكر؛ (فمنهم من يقول) إذا كانت السورة التي نزلت حجة في إظهار الدين والإيمان يسمعون، ويقولون (أيكم زادته هذه إيمانا)، وإذا نزلت في إظهار نفاقهم وافتضاحهم (نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُوا) ولا يسمعون منه السورة إشفاقا لئلا يظهر نفاقهم. وقوله تعالى: (صرف الله قلوبهم)...عقوبة؛ أي عاقبهم الله بصرف قلوبهم باعتقادهم العناد وردهم الحجج وتركهم القبول...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
..."صرف الله قلوبهم" يعني عن رحمته عقوبة لهم "بأنهم قوم لا يفقهون" مواعظ الله ولا أمره ونهيه...
وإنما صرف قلوبهم عن السرور بالفائدة التي تحصل للمؤمنين بسماع الوحي، فيحرمون ما للمؤمنين من الاستبشار بتلك الحال.
والفقه فهم موجب المعنى المضمن به... وكان القوم عقلاء يفقهون الأشياء، وإنما نفى الله عنهم ذلك لأنهم لم ينظروا فيه، ولم يعملوا بموجبه، فكأنهم لم يفقهوه، كما قال "صم بكم عمي" لما لم ينتفعوا بما سمعوه ورأوه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ}: تغامزوا بالعيون إنكاراً للوحي وسخرية...
{قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ}: لا يتدبرون حتى يفقهوا.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{نظر بعضهم إلى بعض} على جهة التقريب، يفهم من تلك النظرة التقرير: هل معكم من ينقل عنكم؟ هل يراكم من أحد حين تدبرون أموركم؟
وقوله تعالى: {ثم انصرفوا} معناه عن طريق الاهتداء. وذلك أنهم حين ما يبين لهم كشف أسرارهم والإعلام بمغيبات أمورهم يقع لهم لا محالة تعجب وتوقف ونظر، فلو اهتدوا لكان ذلك الوقت مظنة ذلك، فهم إذ يصممون على الكفر ويرتبكون فيه كأنهم انصرفوا عن تلك الحال التي كانت مظنة النظر الصحيح والاهتداء، وابتدئ بالفعل المسند إليهم إذ هو تعديد ذنب على ما قد بيناه..
وقوله {صرف الله قلوبهم} يحتمل أن يكون دعاء عليهم، ويحتمل أن يكون خبراً أي استوجبوا ذلك...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {نَظَرَ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ}: فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: إذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فِيهَا فَضِيحَتُهُمْ، أَوْ فَضِيحَةُ أَحَدٍ مِنْهُمْ جَعَلَ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ، يَقُولُ: هَلْ يَرَاكُمْ من أَحَدٍ إذَا تَكَلَّمْتُمْ بِهَذَا فَيَنْقُلُهُ إلَى مُحَمَّدٍ؟ وَذَلِكَ جَهْلٌ مِنْهُمْ بِنُبُوَّتِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ يُطْلِعُهُ عَلَى مَا شَاءَ من غَيْبِهِ. الثَّانِي: إذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فِيهَا الْأَمْرُ بِالْقِتَالِ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ نَظَرَ الرُّعْبِ، وَأَرَادُوا الْقِيَامَ عَنْهُ، لِئَلَّا يَسْمَعُوا ذَلِكَ، يَقُولُونَ: هَلْ يَرَاكُمْ إذَا انْصَرَفْتُمْ من أَحَدٍ؟ ثُمَّ يَقُومُونَ وَيَنْصَرِفُونَ، صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُكْرَهُ أَنْ يُقَالَ انْصَرَفْنَا مِنَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ قَوْمًا انْصَرَفُوا فَصَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَلَكِنْ قُولُوا قَضَيْنَا الصَّلَاةَ.
وَهَذَا كَلَامٌ فِيهِ نَظَرٌ، وَمَا أَظُنُّهُ يَصِحُّ عَنْهُ، فَإِنَّ نِظَامَ الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ: لَا يَقُلْ أَحَدٌ انْصَرَفْنَا مِنَ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ قَوْمًا قِيلَ فِيهِمْ: ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ مَقُولًا فِيهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ.
وَقَدْ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ الْبُسْتِيُّ الْوَاعِظُ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَضْلِ الْجَوْهَرِيُّ سَمَاعًا عَلَيْهِ، يَقُولُ: كُنَّا فِي جِنَازَةٍ، فَقَالَ الْمُنْذِرُ بِهَا: انْصَرِفُوا رَحِمَكُمْ اللَّهُ فَقَالَ: لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ انْصَرِفُوا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي قَوْمٍ ذَمَّهُمْ: {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} وَلَكِنْ قُولُوا: انْقَلِبُوا رَحِمَكُمْ اللَّهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي قَوْمٍ مَدَحَهُمْ: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ}...
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
فأخبر سبحانه عن فعلهم، وهو الانصراف، وعن فعله فيهم، وهو صرف قلوبهم عن القرآن وتدبره؛ لأنهم ليسوا أهلا لها، فالمحل غير صالح ولا قابل، فإن صلاحية المحل بشيئين: حسن فهم، وحسن قصد، وهؤلاء قلوبهم لا تفقه، وقصودهم سيئة، وقد صرح سبحانه بهذا في قوله: {ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} [الأنفال: 23] فأخبر سبحانه عن عدم قابلية الإيمان فيهم، وأنهم لا خير فيهم يدخل بسببه إلى قلوبهم فلم يسمعهم سماع إفهام ينتفعون به، وإن سمعوه سماعا تقوم به عليهم حجته فسماع الفهم الذي سمعه به المؤمنون لم يحصل لهم، ثم أخبر سبحانه عن مانع آخر قام بقلوبهم، يمنعهم من الإيمان لو أسمعهم، هذا السماع الخاص، وهو الكبر والتولي والإعراض. فالأول: مانع من الفهم. والثاني: مانع من الانقياد والإذعان، فإفهام سيئة وقصودهم رديئة وهذه سمة الضلال وعلم الشقاء، كما أن نسخة الهدى وعلم السعادة فهم صحيح، وقصد صالح. والله المستعان. وتأمل قوله سبحانه: {ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم} كيف جعل هذه الجملة الثانية سواء كانت خبرا أو إعادة -عقوبة لانصرافهم فعاقبهم عليه بصرف آخر غير الصرف الأول. فإن انصرافهم كان لعدم إرادته سبحانه ومشيئته لإقبالهم؛ لأنه لا صلاحية فيهم ولا قبول، فلم ينلهم الإقبال والإذعان، فانصرفت قلوبهم بما فيها من الجهل والظلم عن القرآن. فجازاهم على ذلك صرفا آخر غير الصرف الأول، كما جازاهم على زيغ قلوبهم عن الهدى إزاغة غير الزيغ الأول، كما قال: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} [الصف: 5] وهكذا إذا أعرض العبد عن ربه سبحانه جازاه بأن يعرض عنه، فلا يمكنه من الإقبال عليه، ولتكن قصة إبليس منك على ذكر تنتفع بها أتم انتفاع، فإنه لما عصى ربه تعالى ولم ينقد لأمره وأصر على ذلك عاقبة بأن جعله داعيا إلى كل معصية. فعاقبه على معصيته الأولى بأن جعله داعيا إلى كل معصية وفروعها، صغيرها وكبيرها، وصار هذا الإعراض والكفر منه عقوبة لذلك الإعراض والكفر السابق، فمن عقاب السيئة السيئة بعدها، كما أن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} هذا بيان لحال المنافقين الذين كانوا يكونون في مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم عند نزول سورة، وما يكون من فعلهم وقولهم عند تلاوته لها وما قبلها في بيان حالهم إذا بلغهم نزول سورة من حيث البحث عن تأثيرها، وقد يقال: إن الأولى تشمل من سمع منه ومن بلغ عنه، والعبرة بموضوعها، لا بطريقة العلم بها، وإن هذه أدل على رسوخهم في الكفر وعدم الطمع في رجوعهم عنه، بإثباتها أنهم يكرهون سماع القرآن من الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو أشد تأثيرا من سماعه من غيره في الهداية، ولذلك كان المشركون يمنعونه من تلاوته على الناس لئلا يهتدوا بسماعه منه، فإن لم يتمكنوا من إسكاته أعرضوا عن سماعه ولغوا فيه، ومنعوا صاحبه الصديق أيضا من الصلاة في المسجد الحرام، ثم من مسجده الخاص، لما رأوا النساء والصبيان يجتمعون لسماع القرآن منه، ويتأثرون بخشوعه فيه:
يقول: وإذا أنزلت سورة وهم في المجلس تسارقوا النظر، وتغامزوا بالعيون على حين تخشع أبصار المؤمنين، وتنحني رؤوسهم، وتجب قلوبهم، وترامقوا بالعيون يتشاورون في الانسلال من المجلس خفية لئلا يفتضحوا بما يظهر عليهم من الإنكار والسخرية بالوحي، قائلا بعضهم لبعض بالإشارة أو العبارة: {هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ} أي من الرسول والمؤمنين إذا نحن انصرفنا كارهين لسماعها.
{ثُمَّ انصَرَفُواْ} يتسللون لواذا إلى مجامعهم الخاصة بهم، والتعبير بثم لبيان تراخي فعلهم عن وقت لقولهم، إلى سنوح فرصة الغفلة عنهم ولو أفرادا، فكلما لمح أحد منهم غفلة من المؤمنين عنه انصرف.
{صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُم} هذه الجملة تحتمل الدعاء والخبر، ومضمونها النهائي في كلام الله واحد كما تقدم نظيره قريبا. والمعنى صرف الله قلوبهم عن صدق الإيمان، والاهتداء بآيات الله في القرآن، المرشدة إلى آياته في الأكوان.
{بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون} أي بسبب أنهم قوم فقدوا صفة الفقاهة الفطرية وفهم الحقائق وما يترتب عليها من الأعمال، لعدم استعمال عقولهم فيها، فهم لا يفقهون ما يسمعون من هذه الآيات لعدم تدبرها، والإعراض عن النظر والتأمل في معانيها، وموافقتها للعقل، وهدايتها إلى الحق والعدل، ذلك بأنهم اتخذوا أنفسهم أعداء وخصوما للرسول، فوطنوا أنفسهم على الإعراض عن كل ما جاء به من غير بحث ولا تأمل فيه: أمعقول أم غير معقول؟ أحق أم باطل؟ أخير أم شر؟ أهدى أم ضلال؟ أنافع أم ضار؟ فأنى يرجى لهم وهذه حالهم أن يهتدوا بتعدد نزول الآيات والسور؟ إنما مثلهم كمثل أعداء الإسلام من أهل الملل التي جروا على نظام تعليمي وتربية وجدانية عملية في عصبيتهم الدينية والقومية وارتباط منافعهم الاجتماعية والسياسية بها: لقنهم رؤساؤهم أنه يوجد دين اسمه الإسلام بني أساسه على عداوتكم لذاتكم، فيجب عليكم أن لا تنظروا فيه إلا أن يكون للبحث عن مطعن ولو متكلف تلمزونه به، ولا تفكروا في شيء من حال أهله في دينهم ودنياهم إلا للعداوة والتحقير لهم، وتدبير المكايد للعدوان عليهم، وإذا ظهر لكم شيء حسن من دينهم فوجهوا كل قواكم العقلية وبلاغتكم الكلامية إلى تشويهه وذمه والصد عنه، وهذا ما يفعله رجال الكنائس النصرانية على اختلاف مذاهبهم كما بيناه في غير هذا الموضع...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف على جملة: {وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً} [التوبة: 124] والظاهر أن المقصود عطف جملة: {نظر بعضهم إلى بعض} على جملة: {فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً} [التوبة: 124]. وإنما أعيدت جملة الشرط لبعد ما بين الجملة المعطوفة وجملة الجزاء، أو للإشارة إلى اختلاف الوقت بالنسبة للنزول الذي يقولون عنده {أيكم زادته هذه إيماناً} [التوبة: 124] وبالنسبة للسورة التي عند نزولها ينظر بعضهم إلى بعض، أو لاختلاف السورتين بأن المراد هنا سورة فيها شيء خاص بهم. وموجب زيادة (ما) بعد (إذا) في الآيتين متحد لاتحاد مقتضيه.
ونظَرُ بعضهم إلى بعض عند نزول السورة يدل على أنهم كانوا حينئذٍ في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم لأن نظر بعضهم إلى بعض تعلقت به أداة الظرفية، وهي (إذا). فتعين أن يكون نظرُ بعضهم إلى بعض حاصلاً وقت نزول السورة. ويدل لذلك أيضاً قوله: {ثُم انصرفوا} أي عن ذلك المجلس. ويدل أيضاً على أن السورة مشتملة على كشف أسرارهم وفضح مكرهم لأن نظر بعضهم إلى بعض هو نظر تعجب واستفهام. وقد قال تعالى في الآية السابقة: {يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون} [التوبة: 64]. ويدل أيضاً على أنهم كاتمون تعجُّبَهم من ظهور أحوالهم خشية الاعتراف بما نسب إليهم ولذلك اجتزوا بالتناظر دون الكلام. فالنظر هنا نظر دال على ما في ضمير الناظر من التعجب والاستفهام.
وجملة: {هل يراكم من أحد} بيان لجملة {نظر بعضهم إلى بعض} لأن النظر تفاهموا به فيما هو سِرّ بينهم؛ فلما كان النظر نظر تفاهم صح بيان جملته بما يدل على الاستفهام التعجيبي، ففي هذا النظم إيجازُ حذف بديعٌ دلت عليه القرينة. والتقدير: وإذا ما أنزلت سورة فيها فضيحةُ أمرهم نظر بعضهم إلى بعض بخائنة الأعين مستفهمين متعجبين من اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على أسرارهم، أي هل يراكم من أحد إذا خلوتم ودبرتم أموركم، لأنهم بكفرهم لا يعتقدون أن الله أطْلع نبيه عليه الصلاة والسلام على دخيلة أمرهم.
وجملة: {صرف الله قلوبهم} مستأنفة استئنافاً بيانياً، لأن ما أفاده قوله: {ثم انصرفوا} من عدم انتفاعهم بما في تلك السورة من الإخبار بالمغيبات الدال على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم يثير سؤال من يسأل عن سَبب عدم انتفاعهم بذلك واهتدائهم، فيجاب بأن الله صرف قلوبهم عن الفهم بأمر تكويني فحُرموا الانتفاع بأبلغ واعظ. وكان ذلك عقاباً لهم بسبب أنهم {قوم لا يفقهون}، أي لا يفهمون الدلائل، بمعنى لا يتطلبون الهدى بالتدبر فيفهموا. وجعل جماعة من المفسرين قولَه: {صرف الله قلوبهم} دعاء عليهم، ولا داعي إليه لأن دعاء الله على مخلوقاته تكوين كما تقدم، ولأنه يأباه تسْبيبه بقوله: {بأنهم قوم لا يفقهون}.
...ومن قبل جاء قول الحق: {وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا} أي: أن هؤلاء المنافقين يشعرون بالضيق والحصار، ويخافون أن يتكلموا؛ لأنهم موجودون مع المسلمين، ولكنهم لا يعدمون وسيلة للتعبير عن كفرهم، فيغمز الواحد منهم بعينهن أو يشير إشارة بيده، فإذا ما كانوا قد تساءلوا من قبل ب {أيكم زادته هذه إيمانا} فقد كان هذا السؤال يتعلق بالتكاليف، أما التي نحن بصدد خواطرنا عنها فليس فيها تكاليف جديدة. لقد كانوا يريدون أن يقولوا شيئا، ولكنهم لم يستطيعوا أن يتكلموا بأفواههم، فتكلموا بأعينهم ونظراتهم، فكأن النظر نفسه كان في هذه الكلمة: {هل يراكم من أحد}، وهذا قد تراه من واحد يسمع خطبة الخطيب، ولكنه يرى بها أشياء لا تعجبه فتجده يعبر بانفعالات وجهه عن عدم رضاه. إذن: فهناك نظر، وهناك كلام، وهم قد يتساءلوا: هل يراكم من أحد؟ إن قوله: {هل يراكم أحد} دليل على أنهم في خوف من أن يضبطهم أحد، ومن بعد ذلك تجدهم يتسللون خارج دائرة الاستماع للقرآن أو للرسول؛ لأنهم لا يطيقون الاستمرار في الاستماع؛ لأن منطق الحق يلجم الباطل، والواحد منهم غير قادر على أن يؤمن بالحق وغير قادر على إعلان الكفر؛ فينسحبون، وينصرف كل واحد منهم؛ لذلك نجد أن بعضهم قد قال من قبل: {لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه} (فصلت 26).
وقد قالوا ذلك لأن الكافر أو المنافق قد تأتيه لحظة غفلة عن الباطل، فيتسلل الإيمان إلى قلبه، كما أن المؤمن قد تأتيه لحظة غفلة عن الحق، لكنه يستغفر الله عنها. وإذا ما أتت للمنافق أو الكافر لحظة غفلة عن كفره أو نفاقه؛ فتأتيه هجمة الإيمان فيخافها، فيقول لمن هم مثله: من الأفضل أن نقول لمن معنا لا تسمعوا هذا القرآن. لماذا؟ حتى لا يصادف فترة غفلة عن النفاق، فإذا صادف فترة غفلة عن النفاق فمن الممكن أن يدخل الإيمان القلب. ولذلك قالوا: {لا تسمعوا لهذا القرآن}، ولم يقتصر الأمر على هذا، بل طلبوا من الأتباع أن يلغوا فيه، أي: أن يشوشوا عليه: {والغوا فيه لعلكم تغلبون (26)} (فصلت)..
إذن: لا غلبة لهم مطلقا إلا بعدم الاستماع إلى القرآن أو أن يشوشوا عند سماع القرآن؛ حتى لا ينفذ القرآن إلى القلوب.
{صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون} وذلك نتيجة لانصرافهم نفسيّا إلى النفاق؛ فيساعدهم سبحانه على ذلك، فما داموا لا يعرفون قيمة الإيمان؛ فليذهبوا بعيدا عنه، فالحق لم يصرفهم إلا باختيارهم، حتى لا يقول أحد: إن الله هو مصرف القلوب، فما ذنبهم؟ لا، لقد انصرفوا هم بما خلقه الله فيهم من اختيار، فصرف الله قلوبهم، لماذا؟ لأنهم {قوم لا يفقهون} أي: لا يفهمون. والفهم أول مرحلة من مراحل الذات الإنسانية، وهناك فرق بين الفهم والعلم؛ فالفهم يعني أنك تملك القدرة على تفهّم ذاتية الأشياء بملكة فيك، لكن العلم يعني أنك لا تفهم بذاتك، وإنما يفهم غيرك ويعلمك. فأنت قد تعلم جزئية لا من عندك وإنما من معلم لك. الذي لا يفهم عليه أن يتقبل التعليم، ولكن هؤلاء لم يفهموا ولو تعلّموا، وأصروا على عدم قبول العلم...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ثمّ تشير الآية إلى الموقف الإنكاري لهؤلاء في مقابل الآيات الإلهية، فتقول: (وإذا ما أُنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض).
إنّ خوف هؤلاء وقلقهم ناشئ، من أنّ تلك السورة تتضمن فضيحة جديدة لهم، أو لأنّهم لا يفهمون منها شيئاً لعمى قلوبهم، والإِنسان عدو ما يجهل.
وعلى كل حال، فإِنّهم كانوا يخرجون من المسجد حتى لا يسمعوا هذه الأنغام الإِلهية، إلاّ أنّهم كانوا يخشون أن يراهم أحد حين خروجهم، ولذلك كان أحدهم يهمس في أذن صاحبه ويسأله: (هل يراكم من أحد)؟ وإِذا ما أطمأنوا إِلى أن الناس منشغلون بسماع كلام النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وغير ملتفتين إِليهم خرجوا: (ثمّ انصرفوا).
إنّ جملة (هل يراكم من أحد)، كانوا يقولونها إمّا بألسنتهم، أو بإشارة العيون، في حين أن الجملة الثّانية (نظر بعضهم إلى بعض) تبيّن أمراً واحداً هو نفس ما عينته الجملة الأُولى، وفي الحقيقة فإنّ (هل يراكم أحد) تفسير لنظر بعضهم إلى البعض الآخر.
وتطرقت الآية في الختام إِلى ذكر علة هذا الموضوع فقالت: إِنّ هؤلاء إِنّما لا يريدون سماع كلمات الله سبحانه ولا يرتاحون لذلك لأنّ قلوبهم قد حاقت بها الظلمات لعنادهم ومعاصيهم فصرفها الله سبحانه عن الحق، وأصبحوا أعداءً للحق لأنّهم أناس جاهلون لا فكر لهم: (صرف الله قلوبهم بأنّهم قوم لا يفقهون).
وقد ذكر المفسّرون لقوله تعالى: (صرف الله قلوبهم) احتمالين:
الأوّل: إِنّها جملة خبرية، كما فسرناها قبل قليل.
الثّاني: إِنّها جملة إِنشائية، ويكون معناها اللعنة، أي إِنّ الله سبحانه يصرف قلوب هؤلاء عن الحق. إلاّ أن الاحتمال الأوّل هو الأقرب كما يبدو.