معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَعَجِبُوٓاْ أَن جَآءَهُم مُّنذِرٞ مِّنۡهُمۡۖ وَقَالَ ٱلۡكَٰفِرُونَ هَٰذَا سَٰحِرٞ كَذَّابٌ} (4)

قوله تعالى : { وعجبوا } يعني : الكفار الذين ذكرهم الله عز وجل في قوله : { بل الذين كفروا } { أن جاءهم منذر منهم } يعني : رسولاً من أنفسهم ينذرهم . { وقال الكافرون هذا ساحر كذاب * }

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَعَجِبُوٓاْ أَن جَآءَهُم مُّنذِرٞ مِّنۡهُمۡۖ وَقَالَ ٱلۡكَٰفِرُونَ هَٰذَا سَٰحِرٞ كَذَّابٌ} (4)

يطرق قلوبهم تلك الطرقة ، ويوقع عليها هذا الإيقاع قبل أن يعرض تفصيل تلك العزة وهذا الشقاق . . ثم يفصل الأمر ويحكي ما هم فيه من عزة وشقاق :

( وعجبوا أن جاءهم منذر منهم ، وقال الكافرون : هذا ساحر كذاب . أجعل الآلهة إلهاً واحداً ? إن هذا لشيء عجاب ! وانطلق الملأ منهم : أن امشوا واصبروا على آلهتكم . إن هذا لشيء يراد . ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة . إن هذا إلا اختلاق ) . .

هذه هي العزة : ( أأنزل عليه الذكر من بيننا ) . . وذلك هو الشقاق : ( أجعل الآلهة إلهاً واحداً . . ? ) . .

( ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة . . ! ) . . ( هذا ساحر كذاب ) . . ( إن هذا إلا اختلاق ) . . الخ . الخ . .

وقصة العجب من أن يكون الرسول بشراً قصة قديمة ، مكرورة معادة ، قالها كل قوم وتعللوا بها منذ بدء الرسالات . وتكرر إرسال الرسل من البشر ؛ وظل البشر مع هذا يكررون الاعتراض :

( وعجبوا أن جاءهم منذر منهم ) . .

وأوجب شيء وأقرب شيء إلى الحكمة والمنطق أن يكون المنذر منهم . بشراً يدرك كيف يفكر البشر وكيف يشعرون ؛ ويحس ما يعتلج في نفوسهم ، وما يشتجر في كيانهم ، وما يعانون من نقص وضعف ، وما يجدون من ميول ونزعات ، وما يستطيعون أو لا يستطيعون من جهد وعمل ، وما يعترضهم من عوائق وعقبات ، وما يعتريهم من مؤثرات واستجابات . .

بشراً يعيش بين البشر - وهو منهم - فتكون حياته قدوة لهم ؛ وتكون لهم فيه أسوة . وهم يحسون أنه واحد منهم ، وأن بينهم وبينه شبهاً وصلة . فهم مطالبون إذن بالمنهج الذي يأخذ به نفسه ، ويدعوهم لاتباعه . وهم قادرون على الأخذ بهذا المنهج فقد حققه أمامهم بشر منهم في واقع حياته . . .

بشراً منهم . من جيلهم . ومن لسانهم . يعرف مصطلحاتهم وعاداتهم وتقاليدهم وتفصيلات حياتهم . ويعرفون لغته ، ويفهمون عنه ، ويتفاهمون معه ، ويتجاوبون وإياه . ومن ثم لا تقوم بينه وبينهم جفوة من اختلاف جنسه . أو اختلاف لغته . أو اختلاف طبيعة حياته أو تفصيلات حياته .

ولكن أوجب شيء وأقربه إلى أن يكون ، هو الذي كان دائماً موضع العجب ، ومحط الاستنكار ، وموضوع التكذيب ! ذلك أنهم كانوا لا يدركون حكمة هذا الاختيار ؛ كما كانوا يخطئون تصور طبيعة الرسالة . وبدلاً من أن يروها قيادة واقعية للبشرية في الطريق إلى الله . كانوا يتصورونها خيالية غامضة محوطة بالأسرار التى لا يصح أن تكون مفهومة هكذا وقريبة ! كانوا يريدونها مثلاً خيالية طائرة لا تلمس بالأيدي ، ولا تبصر في النور ، ولا تدرك في وضوح ، ولا تعيش واقعية في دنيا الناس ! وعندئد يستجيبون لها كأسطورة غامضة كما كانوا يستجيبون للأساطير التي تؤلف عقائدهم المتهافتة !

ولكن الله أراد للبشرية - وبخاصة في الرسالة الأخيرة - أن تعيش بهذه الرسالة عيشة طبيعية واقعية . عيشة طيبة ونظيفة وعالية ، ولكنها حقيقة في هذه الأرض . لا وهماً ولا خيالاً ولا مثلاً طائراً في سماء الأساطير والأحلام ! يعز على التحقيق ويهرب في ضباب الخيالات والأوهام !

( وقال الكافرون : هذا ساحر كذاب ) . .

قالوا كذلك استبعاداً لأن يكون الله قد أوحى إلى رجل منهم . وقالوه كذلك تنفيراً للعامة من محمد [ صلى الله عليه وسلم ] وتهويشاً على الحق الواضح في حديثه ، والصدق المعروف عن شخصه .

والحق الذي لا مرية فيه أن كبراء قريش لم يصدقوا أنفسهم لحظة وهم يقولون عن محمد بن عبدالله [ صلى الله عليه وسلم ] الذي يعرفونه حق المعرفة : إنه ساحر وإنه كذاب ! إنما كان هذا سلاحاً من أسلحة التهويش والتضليل وحرب الخداع التي يتقنها الكبراء ؛ ويتخذونها لحماية أنفسهم ومراكزهم من خطر الحق الذي يتمثل في هذه العقيدة ؛ ويزلزل القيم الزائفة والأوضاع الباطلة التي يستند إليها أولئك الكبراء !

ولقد نقلنا من قبل وننقل هنا واقعة الاتفاق بين كبراء قريش على استخدام حرب الدعاية ضد محمد [ صلى الله عليه وسلم ] والحق الذي جاء به ، لحماية أنفسهم وأوضاعهم بين الجماهير في مكة . ولصد القبائل التي كانت تفد إلى مكة في موسم الحج ، عن الدين الجديد وصاحبه [ صلى الله عليه وسلم ] .

قال ابن إسحاق : إن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش - وكان ذا سن فيهم - وقد حضر الموسم . فقال لهم : يا معشر قريش ، إنه قد حضر هذا الموسم ، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه ، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا ، فأجمعوا فيه رأياً واحداً ، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً ، ويرد قولكم بعضه بعضاً . قالوا : فأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأياً نقل به . قال : بل أنتم فقولوا أسمع . قالوا : نقول : كاهن . قال : لا والله ما هو بكاهن ، لقد رأينا الكهان ، فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه . قالوا : فنقول : مجنون . قال : ما هو بمجنون ، لقد رأينا الجنون وعرفناه ، فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته . قالوا : فنقول : شاعر . قال : ما هو بشاعر ، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه ، فما هو بالشعر . قالوا : فنقول : ساحر . قال : ما هو بساحر ، لقد رأينا السحار وسحرهم ، فما هو بنفثهم ولا عقدهم . قالوا : فما نقول يا أبا عبد شمس ? قال : والله إن لقوله لحلاوة ، وإن أصله لعذق ، وإن فرعه لجناة . وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل ، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا : هو ساحر ، جاء بقول هو سحر يفرق به بين المرء وأبيه ، وبين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجته ، وبين المرء وعشيرته . فتفرقوا عنه بذلك ، فجعلوا يجلسون بسبل الناس - حين قدموا الموسم - لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه ، وذكروا له أمره . .

فذلك كان شأن الملأ من قريش في قولهم : ساحر كذاب . وهم يعلمون أنهم يكذبون فيما يقولون . ويعرفون أنه لم يكن [ صلى الله عليه وسلم ] بساحر ولا كذاب !

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَعَجِبُوٓاْ أَن جَآءَهُم مُّنذِرٞ مِّنۡهُمۡۖ وَقَالَ ٱلۡكَٰفِرُونَ هَٰذَا سَٰحِرٞ كَذَّابٌ} (4)

يقول تعالى مخبرا عن المشركين في تعجبهم من بعثة الرسول بشرا ، كما قال تعالى : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ } وقال هاهنا : { وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ } أي : بشر مثلهم ، { وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ } .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَعَجِبُوٓاْ أَن جَآءَهُم مُّنذِرٞ مِّنۡهُمۡۖ وَقَالَ ٱلۡكَٰفِرُونَ هَٰذَا سَٰحِرٞ كَذَّابٌ} (4)

{ وعجبوا أن جاءهم منذر منهم } بشر مثلهم أو أمي من عدادهم . { وقال الكافرون } وضع فيه الظاهر موضع الضمير غضبا عليهم وذما لهم ، وإشعارا بأن كفرهم جسرهم على هذا القول . { هذا ساحر } فيما يظهره معجزة . { كذاب } فيما يقوله على الله تعالى .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَعَجِبُوٓاْ أَن جَآءَهُم مُّنذِرٞ مِّنۡهُمۡۖ وَقَالَ ٱلۡكَٰفِرُونَ هَٰذَا سَٰحِرٞ كَذَّابٌ} (4)

والضمير في : { عجبوا } لكفار قريش ، واستغربوا أن نبىء بشر منهم فأنذرهم ، وأن وحد إلهاً ، وقالوا : كيف يكون إله واحد يرزق الجميع وينظر في كل أمرهم ؟

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَعَجِبُوٓاْ أَن جَآءَهُم مُّنذِرٞ مِّنۡهُمۡۖ وَقَالَ ٱلۡكَٰفِرُونَ هَٰذَا سَٰحِرٞ كَذَّابٌ} (4)

{ وعجبوا أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ } : عطف على جملة { الذين كفروا في عزَّةٍ وشقاقٍ } [ ص : 2 ] فهو من الكلام الواقع الإِضراب للانتقال إليه كما وقع في قوله تعالى : { ق والقرآن المجيد بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم } [ ق : 1 - 2 ] .

والمعنى : أنه استقرّ في نفوسهم استحالة بعثة رسول منهم فذلك سبب آخر لانصرافهم عن التذكر بالقرآن .

والعجب حقيقته : انفعال في النفس ينشأ عن علم بأمر غير مترقب وقوعه عند النفس ، ويطلق على إنكار شيء نادر على سبيل المجاز بعلاقة اللزوم كما في قوله تعالى : { قالوا أتعجبين من أمر اللَّه } في سورة [ هود : 73 ] فإن محل العتاب هو كون امرأة إبراهيم أحالت أن تلد ، وهي عجوز وكذلك إطلاقه هنا . والمعنى : وأنكروا وأحالوا أن جاءهم منذر منهم .

والمنذر : الرسول ، أي منذر لهم بعذاب على أفعال هم متلبسون بها .

وعبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم بوصف المنذر : ووُصف بأنه منهم للإِشارة إلى سوء نظرهم من عجبهم لأن شأن النذير أن يكون من القوم ممن ينصح لهم فكونه منهم أولى من أن يكون من غيرهم .

ثم إن كان التبعيض المستفاد من حرف ( من ) مراداً به أنه بعض العرب أو بعض قريش فأمر تجهيلهم في عجبهم من هذا النذير بيّن ؛ وإن كان مراداً به أنه بعض البشر وهو الظاهر فتجهيلهم لأن من كان من جنسهم أجدرُ بأن ينصح لهم من رسول من جنس آخر كالملائكة ، وهذه جدارة عرفية . وهذا العجب تكرر تصريحهم به غير مرة فهو مستقر في قرارة نفوسهم ، وهو الأصل الداعي لهم إلى الإِعراض عن تصديقه فلذلك ابتُدئت به حكاية أقوالهم التي قالوها في مجلس شيخ الأباطح كما تقدم في ذكر سبب النزول .

{ وَقَالَ الكافرون هذا ساحر كَذَّابٌ } .

بعد أن كُشف ما انطوت عليه نفوسهم من العزة والشقاق وإحالة بعثة رسول للبشر من جنسهم ، حوسبوا بما صرحوا به من القول في مجلسهم ذلك ، إشارةً بهذا الترتيب إلى أن مقالتهم هذه نتيجة لعقيدتهم تلك .

وفي قوله : { الكافِرونَ } وضْعُ الظاهر موقع المضمر وكان مقتضى الظاهر أن يقال : « وقالوا هذا ساحر » الخ ، وهذا لقصد وصْفهم بأنهم كافرون بربهم مقابَلَة لما وَصَمُوا به النبي صلى الله عليه وسلم فوُصفوا بما هو شتم لهم يجمع ضروباً من الشتم تأصيلاً وتفريعاً وهو الكفر الذي هو جماع فساد التفكير وفاسد الأعمال . r

ولفظ { هذا } أشاروا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم استعملوا اسم الإِشارة لتحقير مثله في قولهم : { أهذا الذي يذكر آلهتكم } [ الأنبياء : 36 ] وإنما قالوا مقالتهم هذه حين انصرافهم من مجلس أبي طالب المذكورِ في سبب نزول السورة جعلوا النبي صلى الله عليه وسلم لقرب عهدهم بمحضره كأنه حاضر حين الإِشارة إليه .

وجَعلوا حالهُ سحراً وكذباً لأنهم لما لم تقبَل عقولهم ما كلمهم به زعموا ما لا يفهمون منه مثل كون الإله واحداً أو كونه يعيد الموتى أحياء سحراً إذ كانوا يألفون من السحر أقوالاً غير مفهومة كما تقدم عند قوله تعالى : { يعلمون الناس السحر } في سورة [ البقرة : 102 ] . وزعموا ما يفهمونه ويحيلونه مثل ادعاء الرسالة عن الله كذباً . وبينوا ذلك بجملتين : إحداهما { أجعل الآلهة إلها واحداً } ، والثانية جملة { أءُنزلَ عليه الذكر من بيننا } [ ص : 8 ] .