يطرق قلوبهم تلك الطرقة ، ويوقع عليها هذا الإيقاع قبل أن يعرض تفصيل تلك العزة وهذا الشقاق . . ثم يفصل الأمر ويحكي ما هم فيه من عزة وشقاق :
( وعجبوا أن جاءهم منذر منهم ، وقال الكافرون : هذا ساحر كذاب . أجعل الآلهة إلهاً واحداً ? إن هذا لشيء عجاب ! وانطلق الملأ منهم : أن امشوا واصبروا على آلهتكم . إن هذا لشيء يراد . ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة . إن هذا إلا اختلاق ) . .
هذه هي العزة : ( أأنزل عليه الذكر من بيننا ) . . وذلك هو الشقاق : ( أجعل الآلهة إلهاً واحداً . . ? ) . .
( ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة . . ! ) . . ( هذا ساحر كذاب ) . . ( إن هذا إلا اختلاق ) . . الخ . الخ . .
وقصة العجب من أن يكون الرسول بشراً قصة قديمة ، مكرورة معادة ، قالها كل قوم وتعللوا بها منذ بدء الرسالات . وتكرر إرسال الرسل من البشر ؛ وظل البشر مع هذا يكررون الاعتراض :
( وعجبوا أن جاءهم منذر منهم ) . .
وأوجب شيء وأقرب شيء إلى الحكمة والمنطق أن يكون المنذر منهم . بشراً يدرك كيف يفكر البشر وكيف يشعرون ؛ ويحس ما يعتلج في نفوسهم ، وما يشتجر في كيانهم ، وما يعانون من نقص وضعف ، وما يجدون من ميول ونزعات ، وما يستطيعون أو لا يستطيعون من جهد وعمل ، وما يعترضهم من عوائق وعقبات ، وما يعتريهم من مؤثرات واستجابات . .
بشراً يعيش بين البشر - وهو منهم - فتكون حياته قدوة لهم ؛ وتكون لهم فيه أسوة . وهم يحسون أنه واحد منهم ، وأن بينهم وبينه شبهاً وصلة . فهم مطالبون إذن بالمنهج الذي يأخذ به نفسه ، ويدعوهم لاتباعه . وهم قادرون على الأخذ بهذا المنهج فقد حققه أمامهم بشر منهم في واقع حياته . . .
بشراً منهم . من جيلهم . ومن لسانهم . يعرف مصطلحاتهم وعاداتهم وتقاليدهم وتفصيلات حياتهم . ويعرفون لغته ، ويفهمون عنه ، ويتفاهمون معه ، ويتجاوبون وإياه . ومن ثم لا تقوم بينه وبينهم جفوة من اختلاف جنسه . أو اختلاف لغته . أو اختلاف طبيعة حياته أو تفصيلات حياته .
ولكن أوجب شيء وأقربه إلى أن يكون ، هو الذي كان دائماً موضع العجب ، ومحط الاستنكار ، وموضوع التكذيب ! ذلك أنهم كانوا لا يدركون حكمة هذا الاختيار ؛ كما كانوا يخطئون تصور طبيعة الرسالة . وبدلاً من أن يروها قيادة واقعية للبشرية في الطريق إلى الله . كانوا يتصورونها خيالية غامضة محوطة بالأسرار التى لا يصح أن تكون مفهومة هكذا وقريبة ! كانوا يريدونها مثلاً خيالية طائرة لا تلمس بالأيدي ، ولا تبصر في النور ، ولا تدرك في وضوح ، ولا تعيش واقعية في دنيا الناس ! وعندئد يستجيبون لها كأسطورة غامضة كما كانوا يستجيبون للأساطير التي تؤلف عقائدهم المتهافتة !
ولكن الله أراد للبشرية - وبخاصة في الرسالة الأخيرة - أن تعيش بهذه الرسالة عيشة طبيعية واقعية . عيشة طيبة ونظيفة وعالية ، ولكنها حقيقة في هذه الأرض . لا وهماً ولا خيالاً ولا مثلاً طائراً في سماء الأساطير والأحلام ! يعز على التحقيق ويهرب في ضباب الخيالات والأوهام !
( وقال الكافرون : هذا ساحر كذاب ) . .
قالوا كذلك استبعاداً لأن يكون الله قد أوحى إلى رجل منهم . وقالوه كذلك تنفيراً للعامة من محمد [ صلى الله عليه وسلم ] وتهويشاً على الحق الواضح في حديثه ، والصدق المعروف عن شخصه .
والحق الذي لا مرية فيه أن كبراء قريش لم يصدقوا أنفسهم لحظة وهم يقولون عن محمد بن عبدالله [ صلى الله عليه وسلم ] الذي يعرفونه حق المعرفة : إنه ساحر وإنه كذاب ! إنما كان هذا سلاحاً من أسلحة التهويش والتضليل وحرب الخداع التي يتقنها الكبراء ؛ ويتخذونها لحماية أنفسهم ومراكزهم من خطر الحق الذي يتمثل في هذه العقيدة ؛ ويزلزل القيم الزائفة والأوضاع الباطلة التي يستند إليها أولئك الكبراء !
ولقد نقلنا من قبل وننقل هنا واقعة الاتفاق بين كبراء قريش على استخدام حرب الدعاية ضد محمد [ صلى الله عليه وسلم ] والحق الذي جاء به ، لحماية أنفسهم وأوضاعهم بين الجماهير في مكة . ولصد القبائل التي كانت تفد إلى مكة في موسم الحج ، عن الدين الجديد وصاحبه [ صلى الله عليه وسلم ] .
قال ابن إسحاق : إن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش - وكان ذا سن فيهم - وقد حضر الموسم . فقال لهم : يا معشر قريش ، إنه قد حضر هذا الموسم ، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه ، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا ، فأجمعوا فيه رأياً واحداً ، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً ، ويرد قولكم بعضه بعضاً . قالوا : فأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأياً نقل به . قال : بل أنتم فقولوا أسمع . قالوا : نقول : كاهن . قال : لا والله ما هو بكاهن ، لقد رأينا الكهان ، فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه . قالوا : فنقول : مجنون . قال : ما هو بمجنون ، لقد رأينا الجنون وعرفناه ، فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته . قالوا : فنقول : شاعر . قال : ما هو بشاعر ، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه ، فما هو بالشعر . قالوا : فنقول : ساحر . قال : ما هو بساحر ، لقد رأينا السحار وسحرهم ، فما هو بنفثهم ولا عقدهم . قالوا : فما نقول يا أبا عبد شمس ? قال : والله إن لقوله لحلاوة ، وإن أصله لعذق ، وإن فرعه لجناة . وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل ، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا : هو ساحر ، جاء بقول هو سحر يفرق به بين المرء وأبيه ، وبين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجته ، وبين المرء وعشيرته . فتفرقوا عنه بذلك ، فجعلوا يجلسون بسبل الناس - حين قدموا الموسم - لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه ، وذكروا له أمره . .
فذلك كان شأن الملأ من قريش في قولهم : ساحر كذاب . وهم يعلمون أنهم يكذبون فيما يقولون . ويعرفون أنه لم يكن [ صلى الله عليه وسلم ] بساحر ولا كذاب !
يقول تعالى مخبرا عن المشركين في تعجبهم من بعثة الرسول بشرا ، كما قال تعالى : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ } وقال هاهنا : { وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ } أي : بشر مثلهم ، { وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ } .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَعَجِبُوَاْ أَن جَآءَهُم مّنذِرٌ مّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هََذَا سَاحِرٌ كَذّابٌ } .
يقول تعالى ذكره : وعجب هؤلاء المشركون من قريش أن جاءهم منذر ينذرهم بأس الله على كفرهم به من أنفسهم ، ولم يأتهم مَلك من السماء بذلك وَقالَ الكافِرُونَ هَذا ساحِرٌ كَذّابٌ يقول : وقال المنكرون وحدانية الله : هذا ، يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم ، ساحر كذّاب . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( وَعَجِبْوا أنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ ) : يعني محمدا صلى الله عليه وسلم ، فقالَ الكافِرُونَ هَذَا ساحِرٌ كَذّابٌ .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : ( ساحِرٌ كَذّابٌ ) : يعني محمدا صلى الله عليه وسلم .