معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{فَسِيحُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَرۡبَعَةَ أَشۡهُرٖ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّكُمۡ غَيۡرُ مُعۡجِزِي ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱللَّهَ مُخۡزِي ٱلۡكَٰفِرِينَ} (2)

قوله تعالى : { فسيحوا في الأرض } ، رجع من الخبر إلى الخطاب ، أي : قل لهم : سيحوا ، أي سيروا في الأرض ، مقبلين ومدبرين ، آمنين غير خائفين أحدا من المسلمين .

قوله تعالى : { أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله } ، أي : غير فائتين ولا سابقين ، { وأن الله مخزي الكافرين } . أي : مذلهم بالقتل في الدنيا والعذاب في الآخرة . واختلف العلماء في هذا التأجيل ، وفي هؤلاء الذي برئ الله ورسوله إليهم من العهود التي كانت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم : فقال جماعة : هذا تأجيل من الله تعالى للمشركين ، فمن كانت مدة عهده أقل من أربعة أشهر رفعه إلى أربعة أشهر ، ومن كانت مدة عهده أكثر من أربعة أشهر حطه إلى أربعة أشهر ، ومن كانت مدة عهده بغير أجل محدود حده بأربعة أشهر ، ثم هو حرب بعد ذلك لله ورسوله ، فيقتل حيث لا يدرك ويؤثر ، إلا أن يتوب ، وابتداء هذا الأجل يوم الحج الأكبر ، وانقضاؤه إلى عشر من شهر ربيع الآخر ، فأما من لم يكن له عهد فإنما أجله انسلاخ الأشهر الحرم ، وذلك خمسون يوما .

وقال الزهري : الأشهر الأربعة شوال ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، لأن هذه الآية نزلت في شوال ، والأول هو الأصوب . وعليه الأكثرون . وقال الكلبي : إنما كانت الأربعة الأشهر لمن كان له عهد دون أربعة أشهر فأتم له أربعة أشهر ، فأما من كان له عهد أكثر من أربعة أشهر فهذا أمر بإتمام عهده بقوله تعالى : { فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم } قال الحسن : أمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم بقتال من قاتله من المشركين ، فقال : { قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم } ، فكان لا يقاتل إلا من قاتله ، ثم أمره بقتال المشركين والبراءة منهم ، وأجلهم أربعة أشهر ، فلم يكن لأحد منهم أجل أكثر من أربعة أشهر ، لا من كان له عهد قبل البراءة ولا من لم يكن له عهد ، فكان الأجل لجميعهم أربعة أشهر ، وأحل دماء جميعهم من أهل العهد وغيرهم بعد انقضاء الأجل . وقيل : نزلت هذه قبل تبوك . قال محمد بن إسحاق و مجاهد ، وغيرهما : نزلت في أهل مكة ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاهد قريشا عام الحديبية ، على أن يضعوا الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس ، ودخلت خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودخل بنو بكر في عهد قريش ، ثم عدت بنو بكر على خزاعة فنالت منها ، وأعانتهم قريش بالسلاح ، فلما تظاهر بنو بكر وقريش على خزاعة ونقضوا عهدهم ، خرج عمرو بن سالم الخزاعي حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال :

لا هم إني ناشد محمدا *** حلف أبينا وأبيه الأتلدا

كنت لنا أبا وكنا ولدا *** تمت أسلمنا ولم ننزع يدا

فانصر هداك الله نصرا أبدا *** وادع عباد الله يأتوا مددا

فيهم رسول الله قد تجردا *** في فيلق كالبحر يجري مزبدا

أبيض مثل الشمس يسمو صعدا *** إن سيم خسفا وجهه تربدا

إن قريشا أخلفوك الموعدا *** ونقضوا ميثاقك المؤكدا

هم بيوتنا بالهجير هجدا *** وقتلونا ركعا وسجدا

وزعموا أن لست تنجي أحدا *** وهم أذل وأقل عدادا

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا نصرت إن لم أنصركم " ، وتجهز إلى مكة سنة ثمان من الهجرة ، فلما كان سنة تسع أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحج ، ثم قال : إنه يحضر المشركون ، فيطوفون عراة ، فبعث أبا بكر تلك السنة أميرا على الموسم ليقيم للناس الحج ، وبعث معه بأربعين آية من صدر براءة ليقرأها على أهل الموسم ، ثم بعث بعده عليا ، كرم الله وجهه ، على ناقته العضباء ليقرأ على الناس صدر براءة ، وأمره أن يؤذن بمكة ومنى وعرفة : أن قد برئت ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم من كل مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان . فرجع أبو بكر فقال : يا رسول الله بأبي أنت وأمي أنزل في شأني شيء ؟ قال : لا ، ولكن لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا إلا رجل من أهلي ، أما ترضى يا أبا بكر أنك كنت معي في الغار وأنك صاحبي على الحوض ؟ قال : بلى يا رسول الله . فسار أبو بكر رضي الله عنه أميرا على الحاج ، وعلي رضي الله عنه ليؤذن ببراءة ، فلما كان قبل يوم التوبة بيوم خطب أبو بكر الناس وحدثهم عن مناسكهم ، وأقام للناس الحج ، والعرب في تلك السنة على منازلهم التي كانوا عليها في الجاهلية من الحج ، حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، فأذن في الناس بالذي أمر به ، وقرأ عليهم سورة براءة ، وقال زيد بن تبيع : سألنا عليا : بأي شيء بعثت في تلك الحجة ؟ قال : بعثت بأربع : لا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد فهو إلى مدته ، ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهر ، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ، ولا يجتمع المشركون والمسلمون بعد عامهم هذا ، ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم سنة عشر حجة الوداع ، فإن قال قائل : كيف بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه ثم عزله وبعث عليا رضي الله عنه ؟ قلنا : ذكر العلماء أن رسول الله لم يعزل أبا باكر رضي الله عنه ، وكان أميرا ، وإنما بعث عليا رضي الله عنه لينادي بهذه الآيات ، وكان السبب فيه : أن العرب تعارفوا فيما بينهم في عقد العهود ونقضها لأن لا يتولى ذلك إلا سيدهم ، أو رجل من رهطه ، فبعث عليا رضي الله عنه إزاحة للعلة لئلا يقولوا : هذا خلاف ما نعرفه فينا في نقض العهد ، والدليل على أن أبا بكر رضي الله عنه كان هو الأمير : ما أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، ثنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا إسحاق ، ثنا يعقوب بن إبراهيم ، ثنا ابن أخي ابن شهاب ، عن عمه ، أخبرني حميد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال : بعثني أبو بكر رضي الله عنه في تلك الحجة في مؤذنين يوم النحر نؤذن بمنى : ألا لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان .

وقال حميد بن عبد الرحمن : ثم أردف رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا فأمره أن يؤذن ببراءة ، قال أبو هريرة فأذن معنا علي في أهل منى يوم النحر : ألا لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَسِيحُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَرۡبَعَةَ أَشۡهُرٖ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّكُمۡ غَيۡرُ مُعۡجِزِي ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱللَّهَ مُخۡزِي ٱلۡكَٰفِرِينَ} (2)

1

{ فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ، واعلموا أنكم غير معجزي الله ، وأن الله مخزي الكافرين } . .

فهذا بيان للمهلة التي أجل الله المشركين إليها : أربعة أشهر يسيرون فيها ويتنقلون ويتاجرون ويصفون حساباتهم ، ويعدّلون أوضاعهم . . آمنين . . لا يؤخذون على غرة وهم آمنون إلى عهودهم . حتى أولئك الذين نقضوا عهودهم عند أول بادرة لاحت لهم ، وعند أول توقع بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين لن ينقلبوا إلى أهليهم من تبوك ؛ وأن الروم سيأخذونهم أسرى ! كما توقع المرجفون في المدينة والمنافقون ! ومتى كان ذلك ؟ كان بعد فترة طويلة من العهود التي ما تكاد تبرم حتى تنقض ؛ وبعد سلسلة طويلة من التجارب التي تقطع بأن المشركين لن يزالوا يقاتلون المسلمين حتى يردوهم عن دينهم إن استطاعوا . . وفي أي عصر تاريخي ؟ في العصر الذي لم تكن البشرية كلها تعرف لها قانوناً إلا قانون الغابة ؛ ولم يكن بين المجتمعات المختلفة إلا القدرة على الغزو أو العجز عنه ! بلا إنذار ولا إخطار ولا رعاية لعهد متى سنحت الفرصة ! . ولكن الإسلام هو الإسلام منذ ذلك الزمان . . ذلك أنه منهج الله الذي لا علاقة له بالزمان في أصوله ومبادئه . فليس الزمان هو الذي يرقيه ويطوره ؛ ولكنه هو الذي يرقي البشرية ويطورها حول محوره وداخل إطاره ؛ بينما هو يواجه واقعها المتطور المتغير - بتأثيره - بوسائل متجددة ومكافئة لما يطرأ عليها في أثناء تحركه بها قدماً من تطور وتغير .

ومع المهلة التي يعطيها للمشركين يزلزل قلوبهم بالحقيقة الواقعة ؛ ويوقظهم إلى هذه الحقيقة ليفتحوا عيونهم عليها . إنهم بسياحتهم في الأرض لن يعجزوا الله في الطلب ! ولن يفلتوا منه بالهرب ! ولن يفلتوا من مصير محتوم قدره وقرره : أن يخزيهم ويفضحهم ويذلهم :

{ واعلموا أنكم غير معجزي الله ، وأن الله مخزي الكافرين } . .

وإلى أين يفلتون ويهربون فيعجزون الله عن طلبهم والإتيان بهم ؛ وهم في قبضته - سبحانه - والأرض كلها في قبضته كذلك ؟ ! وقد قدر وقرر أن يذلهم فيخزيهم ولا راد لقضائه ؟ !

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{فَسِيحُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَرۡبَعَةَ أَشۡهُرٖ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّكُمۡ غَيۡرُ مُعۡجِزِي ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱللَّهَ مُخۡزِي ٱلۡكَٰفِرِينَ} (2)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

... {فسيحوا في الأرض} يقول: سيروا في الأرض، {أربعة أشهر} آمنين حيث شئتم، ثم خوفهم، فقال: {واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين} فلم يعاهد النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية أحدا من الناس...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 1]

يعني بقوله جل ثناؤه:"بَرَاءَةٌ مِنَ اللّهِ وَرَسولِهِ:" هذه براءة من الله ورسوله... وقال: "بَرَاءَةٌ مِنَ اللّهِ وَرَسولِهِ إلى الّذِينَ عاهَدْتُمْ "والمعنى: إلى الذين عاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشركين، لأن العهود بين المسلمين والمشركين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يتولى عقدها إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من يعقدها بأمره، ولكنه خاطب المؤمنين بذلك لعلمهم بمعناه، وأن عقود النبيّ صلى الله عليه وسلم على أمته كانت عقودهم، لأنهم كانوا لكل أفعاله فيهم راضين، ولعقوده عليهم مسلمين، فصار عقده عليهم كعقودهم على أنفسهم، فلذلك قال: "إلى الّذِينَ عاهَدْتُم مِنَ المُشْرِكِينَ "لما كان من عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده.

وقد اختلف أهل التأويل فيمن برئ الله ورسوله إليه من العهد الذي كان بينه وبين رسول الله من المشركين فأذن له في السياحة في الأرض أربعة أشهر؛ فقال بعضهم: صنفان من المشركين: أحدهما: كانت مدة العهد بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أقلّ من أربعة أشهر، وأمهل بالسياحة أربعة أشهر، والآخر منهما كانت مدة عهده بغير أجل محدود فقصر به على أربعة أشهر ليرتاد لنفسه، ثم هو حرب بعد ذلك لله ولرسوله وللمؤمنين يقتل حيثما أدرك ويؤسر إلا أن يتوب... عن ابن إسحاق، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصدّيق رضي الله عنه أميرا على الحاجّ من سنة تسع ليقيم للناس حجهم، والناس من أهل الشرك على منازلهم من حجهم. فخرج أبو بكر ومن معه من المسلمين، ونزلت سورة براءة في نقض ما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين من العهد الذي كانوا عليه فيما بينه وبينهم: أن لا يصدّ عن البيت أحد جاءه، وأن لا يخاف أحد في الشهر الحرام. وكان ذلك عهدا عامّا بينه وبين الناس من أهل الشرك، وكانت بين ذلك عهود بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قبائل من العرب خصائص إلى أجل مسمى، فنزلت فيه وفي من تخلف عنه من المنافقين في تبوك وفي قول من قال منهم، فكشف الله فيها سرائر أقوام كانوا يستخفون بغير ما يظهرون، منهم من سمي لنا، ومنهم من لم يسمّ لنا، فقال: "بَرَاءَةٌ مِنَ اللّهِ وَرَسولِهِ إلى الّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ أي لأهل العهد العام من أهل الشرك من العرب، فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ..." إلى قوله: "أنّ اللّهَ بَرِيءٌ مِنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ" أي بعد هذه الحجة.

وقال آخرون: بل كان إمهال الله عزّ وجلّ بسياحة أربعة أشهر من كان من المشركين بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، فأما من لم يكن له من رسول الله عهد فإنما كان أجله خمسين ليلة، وذلك عشرون من ذي الحجة والمحرّم كله. قالوا: وإنما كان ذلك كذلك، لأن أجل الذين لا عهد لهم كان إلى انسلاخ الأشهر الحرم، كما قال الله: "فإذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُم"، قالوا: والنداء ببراءة كان يوم الحجّ الأكبر، وذلك يوم النحر في قول قوم وفي قول آخرين: يوم عرفة، وذلك خمسون يوما. قالوا: وأما تأجيل الأشهر الأربعة، فإنما كان لأهل العهد بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من يوم نزلت براءة. قالوا: ونزلت في أوّل شوّال، فكان انقضاء مدة أجلهم انسلاخ الأشهر الحرم. وقد كان بعض من يقول هذه المقالة يقول: ابتداء التأجيل كان للفريقين واحدا، أعني الذي له العهد والذي لا عهد له غير أن أجل الذي كان له عهد كان أربعة أشهر، والذي لا عهد له: انسلاخ الأشهر الحرم، وذلك انقضاء المحرّم...

وقال آخرون: كان ابتداء تأخير المشركين أربعة أشهر، وانقضاء ذلك لجميعهم وقتا واحدا. قالوا: وكان ابتداؤه يوم الحجّ الأكبر، وانقضاؤه انقضاء عشر من ربيع الآخر...

وقال آخرون ممن قال: «ابتداء الأجل لجميع المشركين وانقضاؤه كان واحدا». كان ابتداؤه يوم نزلت براءة، وانقضاؤه انقضاء الأشهر الحرم، وذلك انقضاء المحرم...

وقال آخرون: إنما كان تأجيل الله الأشهر الأربعة المشركين في السياحة لمن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد مدته أقلّ من أربعة أشهر، أما من كان له عهد مدته أكثر من أربعة أشهر فإنه أمر صلى الله عليه وسلم أن يتمّ له عهده إلى مدته... وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: الأجل الذي جعله الله لأهل العهد من المشركين وأذن لهم بالسياحة فيه بقوله: "فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ" إنما هو لأهل العهد الذين ظاهروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقضوا عهدهم قبل انقضاء مدته فأما الذين لم ينقضوا عهدهم ولم يظاهروا عليه، فإن الله جلّ ثناؤه أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بإتمام العهد بينه وبينهم إلى مدته بقوله: "إلا الذين عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكينَ ثُمّ لَمْ يُنْقُصُوكُمْ شِيْئا ولَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أحَدا فَأتمّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدّتِهِمْ إنّ الله يُحِبّ المُتّقِينَ".

فإن ظنّ ظانّ أن قول الله تعالى ذكره: "فإذا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ فاقْتُلُوا المُشْرِكينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ" يدلّ على خلاف ما قلنا في ذلك، إذ كان ذلك ينبئ عن أن الفرض على المؤمنين كان بعد انقضاء الأشهر الحرم قتل كل مشرك، فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظن، وذلك أن الآية التي تتلو ذلك تنبئ عن صحة ما قلنا وفساد ما ظنه من ظنّ أن انسلاخ الأشهر الحرم كان يبيح قتل كل مشرك كان له عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لم يكن له منه عهد، وذلك قوله: "كَيْفَ يَكُونُ للْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إلاّ الّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إنّ اللّهَ يُحِبّ المُتّقِينَ" فهؤلاء مشركون، وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالاستقامة لهم في عهدهم ما استقاموا لهم بترك نقض صلحهم وترك مظاهرة عدوّهم عليهم. وبعد: ففي الأخبار المتظاهرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حين بعث عليّا رضي الله عنه ببراءة إلى أهل العهود بينه وبينهم أمره فيما أمره أن ينادي به فيهم، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته أوضح الدليل على صحة ما قلنا وذلك أن الله لم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بنقض عهد قوم كان عاهدهم إلى أجل فاستقاموا على عهده بترك نقضه، وأنه إنما أجل أربعة أشهر من كان قد نقض عهده قبل التأجيل أو من كان له عهد إلى أجل غير محدود، فأما من كان أجل عهده محدودا ولم يجعل بنقضه على نفسه سبيلاً، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بإتمام عهده إلى غاية أجله مأمورا، بذلك بعث مناديه ينادي به في أهل الموسم من العرب.

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا قيس، عن مغيرة، عن الشعبيّ، قال: ثني محرر بن أبي هريرة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنت مع عليّ رضي الله عنه حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم ينادي، فكان إذا صَحِلَ صوته ناديت، قلت: بأي شيء كنتم تنادون؟ قال: بأربع: لا يطف بالكعبة عريان، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يحجّ بعد عامنا هذا مشرك...

وأما الأشهر الأربعة فإنها كانت أجلَ من ذكرنا، وكان ابتداؤها يوم الحجّ الأكبر وانقضاؤها انقضاء عشر من ربيع الآخر، فذلك أربعة أشهر متتابعة، جعل لأهل العهد الذين وصفنا أمرهم فيها السياحة في الأرض، يذهبون حيث شاءوا، لا يعرض لهم فيها من المسلمين أحد بحرب ولا قتل ولا سلب.

فإن قال قائل: فإذا كان الأمر في ذلك كما وصفت، فما وجه قوله: "فإذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُموهُمْ" وقد علمت أن انسلاخها انسلاخ المحرم، وقد زعمت أن تأجيل القوم من الله ومن رسوله كان أربعة أشهر، وإنما بين الحج الأكبر وانسلاخ الأشهر الحرم خمسون يوما أكثره، فأين الخمسون يوما من الأشهر الأربعة؟ قيل: إن انسلاخ الأشهر الحرم إنما كان أجل من لا عهد له من المشركين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأشهر الأربعة لمن له عهد، إما إلى أجل غير محدود وإما إلى أجل محدود قد نقضه، فصار بنقضه إياه بمعنى من خيف خيانته، فاستحق النبذ إليه على سواء غير أنه جعل له الاستعداد لنفسه والارتياد لها من الأجل الأربعة الأشهر، ألا ترى الله يقول لأصحاب الأشهر الأربعة، ويصفهم بأنهم أهل عهد "بَرَاءةٌ مِنَ الله وَرَسُولِهِ إلى الّذِينَ عاهَدْتُمُ مِنَ المُشْرِكينَ فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أنّكُمْ غيرُ مُعْجِزِي الله" ووصف المجعول لهم انسلاخ الأشهر الحرام أجلاً بأنهم أهل شرك لا أهل عهد، فقال: "وأذَانٌ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إلى النّاسِ يَوْمَ الحَجّ الأكْبَرِ أنّ الله بَرِيءٌ مِنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ... إلاّ الّذينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ..."، ثم قال: "فإذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ فاقْتُلُوا المُشْرِكيِنَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ"؟ فأمر بقتل المشركين الذين لا عهد لهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم، وبإتمام عهد الذين لهم عهد إذا لم يكونوا نقضوا عهدهم بالمظاهرة على المؤمنين وإدخال النقص فيه عليهم.

فإن قال قائل: وما الدليل على أن ابتداء التأجيل كان يوم الحجّ الأكبر دون أن يكون كان من شوّال على ما قاله قائلو ذلك؟ قيل له: إن قائلي ذلك زعموا أن التأجيل كان من وقت نزول براءة، وذلك غير جائز أن يكون صحيحا لأن المجعول له أجل السياحة إلى وقت محدود إذا لم يعلم ما جعل له، ولا سيما مع عهد له قد تقدم قبل ذلك بخلافه، فكمن لم يجعل له ذلك لأنه إذا لم يعلم ماله في الأجل الذي جعل له وما عليه بعد انقضائه فهو كهيئته قبل الذي جعل له من الأجل، ومعلوم أن القوم لم يعلموا بما جعل لهم من ذلك إلا حين نودي فيهم بالموسم، وإذا كان ذلك كذلك صحّ أن ابتداءه ما قلنا وانقضاءه كان ما وصفنا.

وأما قوله: "فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ" فإنه يعني: فسيروا فيها مقبلين ومدبرين، آمنين غير خائفين من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه، يقال منه: ساح فلان في الأرض يسيح سياحة وسُيُوحا وسيحانا.

وأما قوله: "واعْلَمُوا أنّكُمْ غيرُ مَعْجِزي الله" فإنه يقول لأهل العهد من الذين كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد قبل نزول هذه الآية: اعملوا أيها المشركون أنكم إن سحتم في الأرض واخترتم ذلك مع كفركم بالله على الإقرار بتوحيد وتصديق رسوله، "غَيْرُ مُعْجِزي الله" يقول: غير مفيتيه بأنفسكم لأنكم حيث ذهبتم وأين كنتم من الأرض ففي قبضته وسلطانه، لا يمنعكم منه وزير ولا يحول بينكم وبينه إذا أرادكم بعذاب معقل ولا موئل إلا الإيمان به وبرسوله والتوبة من معصيته. يقول: فبادروا عقوبته بتوبة، ودعوا السياحة التي لا تنفعكم.

وأما قوله: "وأنّ اللّهَ مُخْزي الكافِرِينَ" يقول: واعلموا أن الله مذلّ الكافرين، ومورثهم العار في الدنيا والنار في الآخرة.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

وقوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ) أي اعلموا أيها المشركون وإن أعطي لكم العهد في وقت فإنكم (غير معجزي الله) أوليائه، ولا فائتين عنه في تلك المدة. وقوله تعالى: (وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ): الخزي هو العذاب الفاضح الذي يفضحهم، ويظهر عليهم. ويحتمل أن يكون ذلك العذاب والإخزاء الذي ذكره في الآخرة...

الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :

{فَسِيحُواْ} رجع من الخبر إلى الخطاب أي قل لهم: سيحوا أي سيروا {فِي الأَرْضِ} مقبلين ومدبرين، آمنين غير خائفين من أحد من المسلمين بحرب ولا سلب ولا قتل ولا أسر. {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ}... {وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ} أي غير فائتين ولا سابقين {وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ} أي مذلّهم ومورثهم العار في الدنيا وفي الآخرة...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

والإشارةُ فيه: أنهم إِنْ أقلعوا في هذه المهلة عن الغَيِّ والضلال وجدوا في المآل ما فقدوا من الوصال...

أحكام القرآن لإلكيا الهراسي 504 هـ :

{واعلَمُوا أَنّكُم غَيْرُ مُعجِزِي اللهِ}، ومعناه: غير معجزيه، بتمكين نبيه منهم، ونصرته عليهم، أو نفاذ مراد الله تعالى فيهم بما شاء، وهو معنى قوله تعالى: {وأَنَّ اللهَ مُخزِي الكَافِرينَ}، فكان المقصود من التسمح بهذه المدة، التوصل إلى هذه البغية، وهو رجاء الإسلام.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 1]

فقوله {فسيحوا في الأرض أربعة أشهر} هو أجل ضربه لمن كان بينه وبينهم عهد وتحسس منهم نقضه، وأول هذا الأجل يوم الأذان وآخره انقضاء العشر الأول من ربيع الآخر، وقوله {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين}، هو حكم مباين للأول حكم به في المشركين الذين لا عهد لهم البتة، فجاء أجل تأمينهم خمسين يوماً أولها يوم الأذان وآخرها انقضاء المحرم وقوله {إلى الذين عاهدتم}، يريد به الذين لهم عهد ولم ينقضوا ولا تحسس منهم نقض

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

الْمَعْنَى: لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مَسِيرُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَاخْتَبِرُوا فِيهَا، وَحَرِّرُوا أَعْمَالَكُمْ، وَانْظُرُوا مَآلَكُمْ، فَإِنْ دَخَلْتُمْ فِي الْإِسْلَامِ فَلَكُمْ الْأَمَانُ وَالِاحْتِرَامُ، وَإِنْ اسْتَمْرَرْتُمْ عَلَى الْكُفْرِ عُومِلْتُمْ بِمُعَامَلَةِ الْكُفَّارِ من الْقَتْلِ وَالْإِسَارِ.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

وأما قوله: {فسيحوا في الأرض أربعة أشهر} ففيه أبحاث:

الأول: أصل السياحة الضرب في الأرض والاتساع في السير والبعد عن المدن وموضع العمارة. قال المفسرون: {فسيحوا في الأرض} يعني اذهبوا فيها كيف شئتم وليس ذلك من باب الأمر، بل المقصود الإباحة والإطلاق والإعلام بحصول الأمان وإزالة الخوف، يعني أنتم آمنون من القتل والقتال في هذه المدة.

...

والرابع: أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يحج في السنة الآتية، فأمر بإظهار هذه البراءة لئلا يشاهد العراة...

والمقصود من هذا الإعلام أمور:

الأول: أن يتفكروا لأنفسهم ويحتاطوا في هذا الأمر، ويعلموا أنه ليس لهم بعد هذه المدة إلا أحد أمور ثلاثة: إما الإسلام أو قبول الجزية أو السيف، فيصير ذلك حاملا لهم على قبول الإسلام ظاهرا.

والثاني: لئلا ينسب المسلمون إلى نكث العهد،

والثالث: أراد الله أن يعم جميع المشركين بالجهاد، فعم الكل بالبراءة وأجلهم أربعة أشهر، وذلك لقوة الإسلام وتخويف الكفار، ولا يصح ذلك إلا بنقض العهود. وأما قوله: {واعلموا أنكم غير معجزي الله} فقيل: اعلموا أن هذا الإمهال ليس لعجز ولكن لمصلحة ولطف ليتوب من تاب. والمقصود: أني أمهلتكم وأطلقت لكم فافعلوا كل ما أمكنكم فعله من إعداد الآلات والأدوات، فإنكم لا تعجزون الله بل الله يعجزكم ويقهركم.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما كان الإسلام قد ظهر بعد أن كان خفياً، وقوي بعد أن كان ضعيفاً، افتتح وعظهم بالكلمة التي تقال أولاً لمن يراد تقريع سمعه وإيقاظ قلبه وتنبيهه على أن ما بعدها أمر مهم ينبغي مزيد الاعتناء به فقال: {واعلموا أنكم} أي أيها الكفرة وإن كثرتم {غير معجزي الله} لأن علمه محيط بكل شيء فهو قادر على كل ممكن {وأن الله} أي لما له من الإحاطة بالجلال والإكرام {مخزي الكافرين} أي كلهم منكم ومن غيركم في الدنيا والآخرة لأن قوله قد سبق بذلك، ولا يبدل القول لديه ولعل الالتفات إلى الخطاب إشارة إلى أن من ترك أمر الله حدباً على قريب أو عشير فهو منهم، وقد برئت منه الذمة...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

"فسيحوا في الأرض أربعة أشهر" خطاب للمؤمنين مرتب على البراءة مبين لما يجب أن يقولوه للمشركين الذين برئ الله ورسوله من عهودهم، ويجوز أن يكون خطابا للمشركين أنفسهم بطريق الالتفات. والسياحة في الأرض الانتقال والتجوال الواسع فيها، ورجل سائح وسياح، وهو مجاز من ساح الماء سيحا، وسيح الناس نهرا. والمراد من الأمر بالسياحة حرية السير والانتقال مع الأمان مدة أربعة أشهر، لا يعرض المسلمون لهم فيها بقتال، فلهم فيها سعة من الوقت للنظر في أمرهم والتفكر في عاقبتهم، والتخير بين الإسلام وبين الاستعداد للمقاومة والصدام، إذا هم أصروا على شركهم وعدوانهم. وهذا من غرائب رحمة هذا الدين، وإعذاره إلى أعدى أعدائه المحاربين، ولولاه لأمكن أن يقال إنه أخذهم على غرة، ودانهم بما كانوا يدينونه عند القدر، فإن كان هذا من العدل فأين ما امتاز به من الفضل؟

وهذه الأربعة الأشهر تبتدئ من عاشر ذي الحجة من سنة تسع -وهو عيد النحر الذي بلغوا فيه هذه الدعوة كما يأتي- وتنتهي في عاشر ربيع الآخر من سنة عشر. وقال الزهري: إنها الأشهر الحرم؛ لأن البراءة نزلت في أول شوال سنة تسع وتنتهي بانتهاء المحرم أول السنة العاشرة، وهو غلط يقتضي أن تكون مدة الأربعة الأشهر بعد التبليغ شهرين لما سيأتي من كون تبليغهم البراءة كان يوم النحر في منى، ولا يعقل أن يحاسبوا بالمدة قبل العلم بها.

{واعلموا أنكم غير معجزي الله} أي وكونوا على علم قطعي بأنكم لا تعجزون الله تعالى بسياحتكم في الأرض، ولا تجدون لكم مهربا من رسوله وعباده المؤمنين إذا أصررتم على شرككم وعدوانكم لله ولرسوله، بل هو يسلطهم عليكم، ويؤيدهم بنصره الذي وعدهم، كما نصرهم في كل قتال لكم معهم بدءا أو انتهاء، والعاقبة للمتقين.

{وأن الله مخزي الكافرين} أي واعلموا كذلك أن الله تعالى هو المخزي لجميع الكافرين منكم ومن غيركم في معاداتهم وقتالهم لرسله وعباده المؤمنين، يخزيهم في الدنيا بذل الخيبة والفضيحة، ثم يخزيهم في الآخرة أيضا، فتلك سنته تعالى فيهم كما قال في مشركي مكة ومن اقتدى بهم: {كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون} [الزمر: 25، 26] وقال في عاد قوم هود {فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون} [فصلت:15] والظاهر أن المراد بالخزي هنا ما يكون لهم في الدنيا للتصريح بعذاب الآخرة في آخر قوله: {وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم (3)}.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

{فسيحوا في الأرض أربعة أشهر، واعلموا أنكم غير معجزي الله، وأن الله مخزي الكافرين}..

فهذا بيان للمهلة التي أجل الله المشركين إليها: أربعة أشهر يسيرون فيها ويتنقلون ويتاجرون ويصفون حساباتهم، ويعدّلون أوضاعهم.. آمنين.. لا يؤخذون على غرة وهم آمنون إلى عهودهم. حتى أولئك الذين نقضوا عهودهم عند أول بادرة لاحت لهم، وعند أول توقع بأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين لن ينقلبوا إلى أهليهم من تبوك؛ وأن الروم سيأخذونهم أسرى! كما توقع المرجفون في المدينة والمنافقون! ومتى كان ذلك؟ كان بعد فترة طويلة من العهود التي ما تكاد تبرم حتى تنقض؛ وبعد سلسلة طويلة من التجارب التي تقطع بأن المشركين لن يزالوا يقاتلون المسلمين حتى يردوهم عن دينهم إن استطاعوا.. وفي أي عصر تاريخي؟ في العصر الذي لم تكن البشرية كلها تعرف لها قانوناً إلا قانون الغابة؛ ولم يكن بين المجتمعات المختلفة إلا القدرة على الغزو أو العجز عنه! بلا إنذار ولا إخطار ولا رعاية لعهد متى سنحت الفرصة!. ولكن الإسلام هو الإسلام منذ ذلك الزمان.. ذلك أنه منهج الله الذي لا علاقة له بالزمان في أصوله ومبادئه. فليس الزمان هو الذي يرقيه ويطوره؛ ولكنه هو الذي يرقي البشرية ويطورها حول محوره وداخل إطاره؛ بينما هو يواجه واقعها المتطور المتغير -بتأثيره- بوسائل متجددة ومكافئة لما يطرأ عليها في أثناء تحركه بها قدماً من تطور وتغير.

ومع المهلة التي يعطيها للمشركين يزلزل قلوبهم بالحقيقة الواقعة؛ ويوقظهم إلى هذه الحقيقة ليفتحوا عيونهم عليها. إنهم بسياحتهم في الأرض لن يعجزوا الله في الطلب! ولن يفلتوا منه بالهرب! ولن يفلتوا من مصير محتوم قدره وقرره: أن يخزيهم ويفضحهم ويذلهم:

{واعلموا أنكم غير معجزي الله، وأن الله مخزي الكافرين}..

وإلى أين يفلتون ويهربون فيعجزون الله عن طلبهم والإتيان بهم؛ وهم في قبضته -سبحانه- والأرض كلها في قبضته كذلك؟! وقد قدر وقرر أن يذلهم فيخزيهم ولا راد لقضائه؟!

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

ومن سماحة هذا الدين الذي أنزله الحق تبارك وتعالى؛ أن المولى سبحانه يعطي مهلة لمن قطعت المعاهدة معهم، فأعطاهم مهلة أربعة أشهر حتى لا يقال إن الإسلام أخذهم على غرة، بل أعطاهم أربعة أشهر ومن كانت مدة عهده أكثر من أربعة أشهر فسوف يستمر العهد إلى ميعاده...