مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي - النسفي  
{فَسِيحُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَرۡبَعَةَ أَشۡهُرٖ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّكُمۡ غَيۡرُ مُعۡجِزِي ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱللَّهَ مُخۡزِي ٱلۡكَٰفِرِينَ} (2)

{ فَسِيحُواْ فِى الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ } فسيروا في الأرض كيف شئتم . والسيح : السير على مهل . روي أنهم عاهدوا المشركين من أهل مكة وغيرهم من العرب فنكثوا إلا ناساً منهم وهم بنو ضمرة وبنو كنانة فنبذ العهد إلى الناكثين وأمروا أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر آمنين أين شاءوا لا يتعرض لهم ، وهي الأشهر الحرم في قوله { فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين } وذلك لصيانة الأشهر الحرم من القتل والقتال فيها . وكان نزولها سنة تسع من الهجرة وفتح مكة سنة ثمان ، وكان الأمير فيها عتاب بن أسيد ، وأمّر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر على موسم سنة تسع ، ثم أتبعه علياً راكب العضباء ليقرأها على أهل الموسم فقيل له : لو بعثت بها إلى أبي بكر . فقال : لا يؤدّي عني إلا رجل مني . فلما دنا علي سمع أبو بكر الرغاء فوقف وقال : هذا رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

فلما لحقه قال : أمير أو مأمور ؟ قال : مأمور . فلما كان قبل التروية خطب أبو بكر وحثهم على مناسكهم وقال عليّ يوم النحر عند جمرة العقبة فقال : يا أيها الناس ، إني رسول رسول الله إليكم فقالوا : بماذا ؟ فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية ، ثم قال : أمرت بأربع : أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة ، وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده ، فقالوا عند ذلك : يا علي أبلغ ابن عمك أنا قد نبذنا العهد وراء ظهورنا ، وأنه ليس بيننا وبينه عهد إلا طعن بالرماح وضرب بالسيوف ؛ والأشهر الأربعة : شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، أو عشرون من ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الأول وعشر من ربيع الآخر ، وكانت حرماً لأنهم أمنوا فيها وحرم قتلهم وقتالهم ، أو على التغليب لأن ذا الحجة والمحرم منها . والجمهور على إباحة القتال في الأشهر الحرم وأن ذلك قد نسخ { واعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله } لا تفوتونه وإن أمهلكم { وَأَنَّ الله مُخْزِى الكافرين } مذلهم في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالعذاب .