التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{فَسِيحُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَرۡبَعَةَ أَشۡهُرٖ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّكُمۡ غَيۡرُ مُعۡجِزِي ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱللَّهَ مُخۡزِي ٱلۡكَٰفِرِينَ} (2)

{ بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ( 1 ) فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَأَنَّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ ( 2 ) } ( 1 – 2 ) .

تعليق على الآيتين الأوليين من السورة ومتناولهما

عبارة الآيتين واضحة . والخطاب في الآية الأولى موجه إلى المسلمين يخبرون به بأن الله ورسوله يعلنان براءتهما من الذين عاهدوهم من المشركين وتنصلهما من عهدهم . وفي الثانية موجه إلى المشركين يؤذون به بأن لهم أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر بأمان . مع إنذارهم بأنهم غير معجزين لله وغير فالتين منه ، وأنه مخزي الكافرين في أي حال .

وتوجيه الخطاب في الآية الأولى إلى المسلمين قد يبدو غريبا لأول وهلة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي كان يعقد العهود مع غير المسلمين . والمتبادر أن حكمة التنزيل لما اقتضت أن يقرن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع الله عز وجل في إعلان البراءة والتنصل من هذه العهود جاءت العبارة القرآنية على النحو الذي جاءت عليه ؛ لأن العهود وإن كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي يعقدها فإنها كانت أيضا بين المسلمين والمشركين .

ولقد قال الطبري : إن أهل التأويل – وقد ذكر في سياق كلامه ابن عباس والضحاك وقتادة والسدي ومحمد بن كعب القرظي – اختلفوا في من برئ الله ورسوله إليه من العهد فقال بعضهم : هم صنفان . أحدهما : كانت مدة عهده أقل من أربعة أشهر فأمهل أربعة أشهر ؛ لأن الآيات نزلت في شوال الذي يعقبه الأشهر الحرم الثلاثة ذو القعدة وذو الحجة والمحرم . وثانيهما : كانت مدته أكثر من أربعة أشهر فقصرت على أربعة أشهر ليرتاء لنفسه ويعلم أنه على حرب إن لم يسلم . وقال بعضهم : إن الآيات براءة من العهود مع المشركين عامة ؛ لأن الله تعالى علم سرائرهم وأنهم كانوا يخفون غير ما يظهرون من نية الغدر والعداء .

وهذه الأقوال تتعارض كما هو المتبادر مع استثنائين وردا في آيتين تردان بعد قليل . أولهما : لمن عاهدهم المسلمون ووفوا بعهودهم . وقد أمر المسلمون بإتمام عهدهم إلى مدتهم التي كانت على الأرجح أكثر من أربعة أشهر ؛ لأن حكمة الأمر إنما تكون في ذلك . وثانيهما لمن عاهدهم المسلمون عند المسجد الحرام واستقاموا على عهدهم . وقد أمر المسلمون بالاستقامة لهم ما استقاموا لهم دون تحديد وتوقيت . وهذا فضلا عن تعارضها مع تكرر إيجاب الوفاء بالعهود والعقود على المسلمين في سور عديدة مكية ومدنية .

ولقد لاحظ الطبري هذا . وعقب على الأقوال التي رواها قائلا : إن أولى الأقوال بالصواب أن الأجل الذي جعله الله لأهل العهد من المشركين إنما هو لأهل العهد الذين ظاهروا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونقضوا عهدهم قبل انقضاء مدته دون الذين لم ينقضوا ؛ لأن الله أمر بإتمام العهد معهم وبالاستقامة لهم ما استقاموا عليه .

وفي تفسير البغوي رواية عن ابن إسحاق ومجاهد تذكر أن الآيات نزلت قبل تبوك ، وأنها نزلت في أهل مكة . وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عاهد قريشا عام الحديبية على وضع الحرب عشر سنين ودخلت خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبنو بكر في عهد قريش ، ثم عدا بنو بكر على خزاعة فنالوا منها ، وأعانتهم قريش بالسلاح وحينئذ خرج عمرو بن سالم الخزاعي إلى المدينة ، وناشد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم النصر فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا نصرت إن أنصركم وتجهز إلى مكة .

والرواية تقتضي أن تكون الآيات قد نزلت قبل فتح مكة ، في حين أن الآية التالية لها المنسجمة معها كل الانسجام تدل على أن الآيات نزلت بعد فتح مكة .

ولقد روى المفسر إلى روايته المذكورة رواية أخرى . جاء فيها : ( إن المفسرين – ويقصد أهل التفسير والتأويل في الصدر الأول – قالوا : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما خرج إلى تبوك أرجف المنافقون وأخذ المشركون ينقضون عهودهم فأنزل الله الآيات بالنسبة لهؤلاء مع إمهالهم أربعة أشهر إن كانت مدة عهدهم أقل أو قصرها على أربعة أشهر كانت أكثر ) . وهذا متساوق مع ما ذهب إليه الطبري وصوبه ، وهو أن الآيات نزلت في شأن الذين بدرت منهم بوادر نقض من المشركين . والرواية تفيد أن ذلك كان بعد فتح مكة ؛ لأن سفرة تبوك كانت بعد الفتح . وهو الحق والصواب اللذان يزول بهما وهم التعارض والتناقض .

وليس في كتب التفسير الأخرى شيء مهم آخر في صورة الآيتين . فاكتفينا بما أورده الطبري والبغوي ؛ لأنهما من أقدم من وصل إلينا كتبهم ومعظم من أتى بعدهم من المفسرين نقلوا عنهم .