غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{فَسِيحُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَرۡبَعَةَ أَشۡهُرٖ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّكُمۡ غَيۡرُ مُعۡجِزِي ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱللَّهَ مُخۡزِي ٱلۡكَٰفِرِينَ} (2)

1

روي أنهم كانوا عاهدوا المشركين من غير أهل مكة وغيرهم من العرب فنكثوا إلا ناساً منهم وهم بنو ضمرة وبنو كنانة ، فنبذ العهد إلى الناكثين وأمروا أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر آمنين أين ساروا . والأشهر هي الحرم لقوله { فإذا انسلخ الأشهر الحرم } والسياحة الضرب في الأرض والاتساع في السير والبعد عن المدن وموضع العمارة مع الإقلال من الطعام والشراب منه يقال للصائم سائح لتركه المطعم والمشرب . والمعنى في هذا الأمر إباحة الذهاب مع الأمان وإزالة الخوف . روي أن فتح مكة كان سنة ثمان من الهجرة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولّى عتاب بن أسيد الوقوف بالناس في الموسم ، فاجتمع في تلك السنة في المواقف ومعالم الحج المسلمون والمشركون ونزلت هذه السورة سنة تسع ، وكان أمر فيها أبا بكر على الموسم فلما نزلت السورة أتبعه علياً راكب العضباء ليقرأها على أهل الموسم فقيل له : لو بعثت بها إلى أبي بكر ؟ فقال : لا يؤدي عني إلا رجل مني ، فلما دنا علي سمع أبو بكر الرغاء فوقف وقال : هذا رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما لحقه قال : أمير أو مأمور ؟ قال : مأمور . وروي أن أبا بكر لما كان ببعض الطريق هبط جبريل عليه السلام وقال : يا محمد لا يبلغن رسالتك إلا رجل منك فأرسل علياً فرجع أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله أشيء نزل من السماء ؟ قال : نعم . فسر وأنت على الموسم وعلي ينادي بالآي . فلما كان قبل التروية خطب أبو بكر وحدّثهم عن مناسكهم وقام علي يوم النحر عند جمرة العقبة فقال : يا أيها الناس إني رسول رسول الله إليكم . فقالوا : بماذا ؟ فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية . وعن مجاهد ثلاث عشرة . ثم قال : أمرت بأربع : أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة ، وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده . فقالوا عند ذلك : يا علي أبلغ ابن عمك أنا قد نبذنا العهد وراء ظهورنا ، وأنه ليس بيننا وبينه عهد إلا طعن بالرماح وضرب السيوف . استدلت الإمامية بهذه القصة على تفضيل علي كرم الله وجهه وعلى تقديمه . وأجاب أهل السنة بأنه أمر أبا بكر على الموسم وبعث علياً خلفه لتبليغ هذه الرسالة حتى يصلي علي خلف أبي بكر ويكون ذلك جارياً مجرى التنبيه على إمامة أبي بكر . وأما قوله : «لا يبلغ عني إلا رجل مني » فذلك لأن المتعارف بين العرب أنه إذا عقد السيد الكبير منهم لقوم حلفاً أو عاهد عهداً لم يحل ذلك العهد إلا هو أو رجل من ذوي قرابته كأخ أو عم . فلو تولاه أبو بكر لجاز أن يقولوا هذا خلاف ما يعرف فينافي نقص العهد فأزيلت علتهم بتولية ذلك علياً . وقيل : لما أحضر أبا بكر لتولية أمر الموسم أحضر علياً لهذا التبليغ تطبيباً للقلوب ورعاية للجوانب . ولنرجع إلى التفسير . قال ابن الأنباري : في الكلام إضمار التقدير : فقل لهم سيحوا . ويكون ذلك رجوعاً من الغيبة إلى الحضور كقوله { وسقاهم ربهم شراباً طهوراً إن هذا كان لكم جزاء } [ الدهر : 21 ، 22 ] واختلفوا في الأشهر الأربعة . فعن الزهري أن براءة نزلت في شوال والمراد شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم . وقيل : هي عشرون من ذي الحجة والمحرم وصفر وربيع الأول وعشر من ربيع الآخر . وكانت حرماً لأنهم أومنوا فيها وحرم قتلهم وقتالهم ، أو سميت حرماً على التغليب لأن ذا الحجة والمحرم منها . وقيل : ابتداء المدّة من عشر ذي القعدة إلى عشر من ربيع الأول لأن الحج في تلك السنة كان في ذلك الوقت للنسيء الذي كان فيهم ، ثم صار في السنة الثانية في ذي الحجة . قال المفسرون : هذا تأجيل من الله للمشركين فمن كانت مدة عهده أكثر من أربعة أشهر حطت إلى أربعة ومن كانت مدته أقل رفعت إليها . والمقصود من هذا التأجيل أن يتفكروا في أنفسهم ويحتاطوا في الأمر ويعلموا أنه ليس لهم بعد هذه المدة إلا أحد أمور ثلاثة : الإسلام أو قبول الجزية أو السيف . فيصير ذلك حاملاً لهم على قبول الإسلام ظاهراً وإلى هذا المعنى أشار بقوله { واعلموا أنكم غير معجزي الله } أي اعلموا أن هذا الإمهال ليس لعجز ولكن لمصلحة ولطف ليتوب من تاب ، وفيه ضرب من التهديد كأنه قيل : افعلوا في هذه المدة كل ما أمكنكم من إعداد الآلات والأدوات فإنكم لا تفوتون الله وهو مخزيكم أي مذلكم في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالعذاب . وقوله { مخزي الكافرين } من باب الالتفاف من الحضور إلى الغيبة . ومن وضع الظاهر موضع المضمر ليكون فيه إشارة إلى أن سبب الإخزاء هو الكفر .

/خ16