تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير  
{فَسِيحُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَرۡبَعَةَ أَشۡهُرٖ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّكُمۡ غَيۡرُ مُعۡجِزِي ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱللَّهَ مُخۡزِي ٱلۡكَٰفِرِينَ} (2)

فقوله : { بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } أي : هذه براءة ، أي : تبرؤ من الله ورسوله { إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ }

اختلف المفسرون ها هنا اختلافا كثيرا ، فقال قائلون : هذه الآية لذوي العهود المطلقة غير المؤقتة ، أو من له عهد دون أربعة أشهر ، فيكمل له أربعة أشهر ، فأما من كان له عهد مؤقَّت فأجله إلى مدته ، مهما كان ؛ لقوله تعالى : { فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } [ التوبة : 4 ] ولما سيأتي في الحديث : " ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته " . وهذا أحسن الأقوال وأقواها ، وقد اختاره ابن جرير ، رحمه الله ، ورُوي عن الكلبي ومحمد بن كعب القُرَظِيّ ، وغير واحد .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ } قال : حد الله للذين عاهدوا رسوله أربعة أشهر ، يسيحون في الأرض حيثما شاءوا ، وأجل أجل من ليس له عهد ، انسلاخَ الأشهر الحرم ، [ من يوم النحر إلى انسلاخ المحرم ، فذلك خمسون ليلة ، فإذا انسلخ الأشهر الحرم ] {[13237]} أمره بأن يضع السيف فيمن لا عهد له .

وكذا رواه العوفي ، عن ابن عباس .

وقال [ الضحاك ]{[13238]} بعد قوله : فذلك خمسون ليلة : فأمر الله نبيه إذا انسلخ المحرم أن يضع السيف فيمن لم يكن بينه وبينه عهد ، يقتلهم حتى يدخلوا في الإسلام . وأمر ممن كان له عهد إذا انسلخ أربعة أشهر من يوم النحر إلى عشر خلون من ربيع الآخر ، أن يضع فيهم السيف{[13239]} حتى يدخلوا في الإسلام .

وقال أبو معشر المدني : حدثنا محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أميرا على الموسم سنة تسع ، وبعث علي بن أبي طالب بثلاثين آية أو أربعين آية من " براءة " فقرأها على الناس ، يؤجل المشركين أربعة أشهر يسيحون في الأرض ، فقرأها عليهم يوم عرفة ، أجَّل المشركين عشرين من ذي الحجة ، والمحرم ، وصفر ، وشهر ربيع الأول ، وعشرا من ربيع الآخر ، وقرأها عليهم في منازلهم ، وقال : لا يحجن بعد عامنا هذا مشرك ، ولا يطوفن بالبيت عريان .

وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : { بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } إلى أهل العهد : خزاعة ، ومُدْلِج ، ومن كان له عهد أو غيرهم . أقبل{[13240]} رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك حين فرغ ، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج ، ثم قال : " إنما يحضر المشركون فيطوفون عُرَاة ، فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك " . فأرسل أبا بكر وعليًا ، رضي الله عنهما ، فطافا بالناس في ذي المجَاز وبأمكنتهم التي كانوا يتبايعون بها بالمواسم كلها ، فآذنوا أصحاب العهد بأن يأمنوا أربعة أشهر ، فهي الأشهر المتواليات : عشرون من ذي الحجة إلى عشر يخلون من ربيع الآخر ، ثم لا عهد لهم ، وآذن الناس كلَّهم بالقتال إلا أن يؤمنوا .

وهكذا روي عن السدي : وقتادة .

وقال الزهري : كان ابتداء التأجيل من شوال وآخره سلخ المحرم .

وهذا القول غريب ، وكيف يحاسبون بمدة لم يبلغهم حكمها ، وإنما ظهر لهم أمرها يوم النحر ، حين نادى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ولهذا قال تعالى : { مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ }

/خ3


[13237]:- زيادة من ت ، م.
[13238]:- زيادة من ت ، م.
[13239]:- من ت : "السيف أيضا".
[13240]:- في ت ، ك : "إقبال" ، وفي د : "فقدم".