القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ إِنّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوّلُ الْمُسْلِمِينَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قُلْ يا محمد لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام ، الذين يسألونك أن تتّبع أهواءهم على الباطل من عبادة الاَلهة والأوثان : إنّ صَلاتي ونُسُكي يقول : وذبحي . وَمحْيايَ يقول : وحياتي . وَمَماتِي يقول : ووفاتي . لِلّهِ رَبّ العالَمِينَ يعني أن ذلك كله له خالصا دون ما أشركتم به أيها المشركون من الأوثان . لا شَرِيكَ لَهُ في شَيْءٍ من ذلك من خلقه ، ولا لشيء منهم فيه نصيب ، لأنه لا ينبغي أن يكون ذلك إلا له خالصا . وبذلكَ أُمِرْتُ يقول : وبذلك أمرني ربي . وأنا أوّلُ المُسْلِمِينَ يقول : وأنا أوّل من أقرّ وأذعن وخضع من هذه الأمة لربه ، بأن ذلك كذلك .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال : النسك في هذا الموضع : الذبح :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزّة ، عن مجاهد : إنّ صَلاتي ونُسُكي قال : النسك : الذبائح في الحجّ والعُمرة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : ونُسُكي : ذبيحتي في الحجّ والعُمرة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ونُسُكي : ذبيحتي في الحجّ والعُمرة .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن إسماعيل ، وليس بابن أبي خالد ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : صَلاتِي ونُسُكي قال : ذبحي .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوريّ ، عن إسماعيل ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : صَلاتي ونُسُكي قال : ذبيحتي .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن سفيان ، عن إسماعيل بن جبير ، قال ابن مهدي : لا أدري من إسماعيل هذا . صَلاتِي ونَسُكي قال : صلاتي وذبيحتي .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : حدثنا الثوريّ ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : صَلاتي ونُسُكي قال : وذبيحتي .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ونُسُكي قال ذبحي .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : ونُسُكي قال : ذبيحتي .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك : صَلاتي ونُسُكي قال : الصلاة : الصلاة ، والنسك : الذبح .
وأما قوله : وأنا أوّلُ المُسْلِمِينَ فإن :
محمد بن عبد الأعلى حدثنا ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر عن قتادة وأنا أوّلُ المُسْلِمِينَ قال : أوّل المسلمين من هذه الأمة .
{ وبذلك أمرت } عطف على جملة { إن صلاتي } إلخ . فهذا ممّا أمر بأن يقوله ، وحرف العطف ليس من المقول .
والإشارة في قوله : { وبذلك } إلى المذكور من قوله : { إن صلاتي ونسكي } إلخ ، أي أنّ ذلك كان لله بهدي من الله وأمرٍ منه ، فرجع إلى قوله : { إنَّني هداني ربي إلى صراط مستقيم } [ الأنعام : 161 ] يعني أنَّه كما هداه أمره بما هو شكر على تلك الهداية ، وإنَّما أعيد هنا لأنَّه لما أضاف الصّلاة وما عطف عليها لنفسه وجعلها لله تعالى أعقبها بأنّه هَدْي من الله تعالى ، وهذا كقوله تعالى : { قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين وأمرت لأن أكون أول المسلمين } [ الزمر : 11 ، 12 ] . وتقديم الجار والمجرور للاهتمام بالمشار إليه .
وقوله : { وأنا أول المسلمين } مثل قوله : { وبذلك أمرت } خبر مستعمل في معناه الكنائي ، وهو لازم معناه ، يعني قبول الإسلام والثّبات عليه والاغتباط به ، لأنّ من أحبّ شيئاً أسرع إليه فجاءه أوّل النّاس ، وهذا بمنزلة فعل السبق إذ يطلق في كلامهم على التمكّن والترجّح ، كما قال النّابغة :
سَبَقْتَ الرّجالَ الباهشين إلى العلا *** كسَبْق الجواد اصطادَ قبل الطوارد
لا يريد أنّه كان في المعالي أقدم من غيره لأنّ في أهل المعالي من هو أكبر منه سِنّاً ، ومن نال العلا قبل أن يولد الممدوح ، ولكنّه أراد أنّه تمكّن من نوال العلا وأصبح الحائز له والثّابت عليه .
وفي الحديث : " نحن الآخِرون السّابقون يوم القيامة " . وهذا المعنى تأييس للمشركين من الطّمع في التّنازل لهم في دينهم ولو أقَلّ تنازلٍ . ومن استعمال ( أوّل ) في مثل هذا قوله تعالى : { ولا تكونوا أول كافر به } كما تقدّم في سورة البقرة ( 41 ) . وليس المراد معناه الصّريحَ لقلّة جدوى الخبر بذلك ، لأنّ كلّ داع إلى شيء فهو أوّل أصحابه لا محالة ، فماذا يفيد ذلك الأعداء والأتباعَ ، فإن أريد بالمسلمين الذين اتَّبعوا حقيقة الإسلام بمعنى إسلام الوجه إلى الله تعالى لم يستقم ، لأنّ إبراهيم عليه السّلام كان مسلماً وكان بنوه مسلمين ، كما حكى الله عنهم إذ قال إبراهيم عليه السّلام : { فلا تموتنّ إلاّ وأنتم مسلمون } [ البقرة : 132 ] وكذلك أبناء يعقوب كانوا مسلمين إذ قالوا : { ونحن له مسلمون } [ البقرة : 136 ] .
وقرأ نافع وأبو جعفر بإثبات ألف « أنَا » إذا وقعت بعدها همزة ويجري مدّها على قاعدة المدّ ، وحذفَها الباقون قبل الهمزة ، واتَّفق الجميع على حذفها قبل غير الهمزة تخفيفاً جرى عليه العرب في الفصيح من كلامهم نحو : « أنا يُوسف » واختلفوا فيه قبل الهمزة نحو أنا أفعل ، وأحسب أنّ الأفصح إثباتها مع الهمز للتّمكّن من المدّ .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"لا شَرِيكَ لَهُ" في شَيْءٍ من ذلك من خلقه، ولا لشيء منهم فيه نصيب، لأنه لا ينبغي أن يكون ذلك إلا له خالصا. "وبذلكَ أُمِرْتُ" يقول: وبذلك أمرني ربي. "وأنا أوّلُ المُسْلِمِينَ" يقول: وأنا أوّل من أقرّ وأذعن وخضع من هذه الأمة لربه بأن ذلك كذلك...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وأنا أول المسلمين} يحتمل قوله تعالى: {وأنا أول المسلمين} أي وأنا أول من خضع، وأسلم بالذي أمِرت أن أبلغ؛ لأنه أمر بتبليغ ما أنزل إليه، فيقول: أنا أول من أسلم بالذي أمرت بالتبليغ... والإسلام، والله أعلم، هو جعل النفس وكلية الأشياء لله سالمة، أي أنا أول من جعل نفسه لله سالمة...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ} يعني من هذه الأمة حثّاً على اتباعه والمسارعة بالإٍسلام...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وبذلك} من الإخلاص {أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ المسلمين} لأنّ إسلام كل نبيّ متقدّم لإسلام أمّته...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}. وقوله: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} قال قتادة: أي من هذه الأمة. وهو كما قال، فإن جميع الأنبياء قبله كلهم كانت دعوتهم إلى الإسلام، وأصله عبادة الله وحده لا شريك له، كما قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]، وقد أخبر تعالى عن نوح أنه قال لقومه: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 72]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ. وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 130 -132]، وقال يوسف، عليه السلام: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101]، وَقَالَ مُوسَى {يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [يونس: 84- 86]، وقال تعالى: {إِنَّا أَنزلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ [بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} الآية [المائدة: 44]، وقال تعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة: 111]. فأخبر [الله] تعالى أنه بعث رسله بالإسلام، ولكنهم متفاوتون فيه بحسب شرائعهم الخاصة التي ينسخ بعضها بعضًا، إلى أن نسخت بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم التي لا تنسخ أبد الآبدين، ولا تزال قائمة منصورة، وأعلامها مشهورة إلى قيام الساعة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
وهذا أيضاً من باب الإحسان في الدعاء بالتقدم إلى ما يدعو إليه وأن يحب للمدعو ما يحب لنفسه ليكون أنفى للتهمة وأدل على النصيحة فيكون أدعى للقبول...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} أي لا شريك له تعالى في ربوبيته، فيستحق أن يكون له شركة ما في عبادته، بأن يتوجه إليه معه لأجل التأثير في إرادته، أو تذبح له النسائك لأجل شفاعته عنده {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} (البقرة 255) {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون} (الأنبياء 28) وبذلك التجريد في التوحيد والبراءة من الشرك الجلي والخفي، أمرني ربي، ولا يعبد الرب إلا بما أمر، دون أهواء الأنفس ونظريات العقول وتقاليد البشر، وأنا أول المسلمين أي على الإطلاق في علو الدرجة والرتبة، وأولهم في الزمن بالنسبة إلى هذه الأمة وبيان أنه صلى الله عليه وسلم أكمل المذعنين لأمر ربه ونهيه، بحسب ما أعطاه من الدرجات العلى التي فضله بها على جميع رسله، كما أنه أول من لقنه ربه الإسلام، في هذه الأمة الشاملة دعوتها لجميع الأنام، والموصوفة بعد إجابة الدعوة بأنها خير أمة أخرجت للناس، وقد يستلزم عموم بعثته وخيرية أمته وأوليته صلى الله عليه وسلم وأولويته بالتقدم على الرسل الذين بعثوا قبله أيضا، فيكون أولا في كل من مزاياه الخاصة ورسالته العامة المتعدية. وهذا التفسير للأول مما فتحه الله تعالى علي الآن وهو الفتاح العليم.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قوله: {وأنا أول المسلمين}... يعني قبول الإسلام والثّبات عليه والاغتباط به، لأنّ من أحبّ شيئاً أسرع إليه فجاءه أوّل النّاس، وهذا بمنزلة فعل السبق إذ يطلق في كلامهم على التمكّن والترجّح... وهذا المعنى تأييس للمشركين من الطّمع في التّنازل لهم في دينهم ولو أقَلّ تنازلٍ...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
لأنه أوّل من آمن بالإسلام الذي جاء به، فقد كانت دعوته الناس إلى الإيمان بهذا الدين، منطلقة من مبادرته إلى الإيمان به، فيكون ذلك إيحاءً بأن أيّة داعية إلى أيّة عقيدةٍ أو فكرةٍ، لا بدّ له من أن يعيش فكر العقيدة في نفسه، قبل أن يدعو الناس إليها، وربما تكون هذه الكلمة تعبيراً عما يجب أن يعيشه الإنسان المسلم في مستوى إيمانه بحيث يحاول أن يكون في الدرجة الأولى في الإسلام من بين المسلمين...