ولقد يخطف الشيطان المارد خطفة سريعة مما يدور في الملأ الأعلى ، فيتبعه شهاب يلاحقه في هبوطه فيصيبه ويحرقه حرقاً .
ونحن لا نعرف كيف يتسمع الشيطان المارد ؛ ولا كيف يخطف الخطفة ؛ ولا كيف يرجم بالشهاب الثاقب . لأن هذه كلها غيبيات تعجز طبيعتنا البشرية عن تصور كيفياتها ؛ ومجالنا فيها هو تصديق ما جاء من عند الله فيها . وهل نعلم عن شيء في هذا الكون إلا القشور ? !
والمهم أن هذه الشياطين التي تمنع من الوصول إلى الملأ الأعلى ، ومن التسمع لما يدور فيه هي التي يدعي المدعون أن بينها وبين الله نسباً ، ولو كان شيء من هذا صحيحاً لتغير وجه المعاملة . ولما كان مصير الأنسباء والأصهار - بزعمهم - هو المطاردة والرجم والحرق أبداً !
وقوله : إلاّ مَنْ خَطِفَ الخَطْفَةَ يقول : إلا من استرق السمع منهم فأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ يعني : مضيء متوقد . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فأَتَبْعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ من نار وثقوبه : ضوؤه .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : شِهابٌ ثاقِبٌ قال : شهاب مضيء يحرقه حين يُرْمى به .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : فأَتْبَعَهُ شِهابٌ قال : كان ابن عباس يقول : لا يقتلون الشهاب ، ولا يموتون ، ولكنها تحرقهم من غير قتل ، وتُخَبّل وتُخْدِج من غير قتل .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ قال : والثاقب : المستوقد قال : والرجل يقول : أَثْقِب نارك ، ويقول : استثقِب نارك ، استوقد نارك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عبيد الله ، قال : سُئل الضحاك ، هل للشياطين أجنحة ؟ فقال : كيف يطيرون إلى السماء إلا ولهم أجنحة .
{ إلا من خطف الخطفة } استثناء من واو { يسمعون } ومن بدل منه ، والخطف الاختلاس والمراد اختلاس كلام الملائكة مسارقة ولذلك عرف الخطفة ، وقرئ " خطف " بالتشديد مفتوح الخاء ومكسورها وأصلهما اختطف . { فأتبعه شهاب } أتبع بمعنى تبع ، والشهاب ما يرى كأن كوكبا انقض ، وما قيل إنه بخار يصعد إلى الأثير فيشتعل فتخمين إن صح لم يناف ذلك إذ ليس فيه ما يدل على أنه ينقض من الفلك ولا في قوله { ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين } فإن كل نير يحصل في الجو العالي فهو مصباح لأهل الأرض وزينة للسماء من حيث إنه يرى كأنه على سطحه ، ولا يبعد أن يصير الحادث كما ذكر في بعض الأوقات رجما لشياطين تتصعد إلى قرب الفلك للتسمع ، وما روي أن ذلك حدث بميلاد النبي صلى الله عليه وسلم إن صح فلعل المراد كثرة وقوعه ، أو مصيره { دحورا } . واختلف في أن المرجوم يتأذى به فيرجع أو يحترق به لكن قد يصيب الصاعد مرة وقد لا يصيب كالموج لراكب السفينة ولذلك لا يرتدعون عنه رأسا ، ولا يقال إن الشيطان من النار فلا يحترق ، لأنه ليس من النار الصرف كما أن الإنسان ليس من التراب الخالص مع أن النار القوية إذا استولت على الضعيفة استهلكتها . { ثاقب } مضيء كأنه يثقب الجو بضوئه .
وقرأ جمهور القراء «خَطِف » بفتح الخاء وكسر الطاء وتخفيفها ، وقرأ الحسن وقتادة «خِطِّف » بكسر الخاء والطاء وتشديد الطاء ، قال أبو حاتم : يقال إنها لغة بكر بن وائل وتميم بن مر ، وروي عن ابن عباس «خِطِف » بكسر الخاء والطاء مخففة ، و «الثاقب » النافذ بضوئه وشعاعه المنير ، قاله قتادة والسدي وابن زيد ، وحسب ثاقب إذا كان سنياً منيراً .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إلا من خطف} من الشياطين {الخطفة} يخطف من الملائكة.
{فأتبعه شهاب ثاقب} من الملائكة الكواكب، يعني بالشهاب الثاقب، نارا مضيئة...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"إلاّ مَنْ خَطِفَ الخَطْفَةَ" يقول: إلا من استرق السمع منهم "فأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ "يعني: مضيء متوقد... عن السديّ، قوله: "شِهابٌ ثاقِبٌ" قال: شهاب مضيء يحرقه حين يُرْمى به...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ثم الخطفة إما أن تكون على التمثيل أي موضع الخطف، وإما على حقيقة الخطفة، وهي الاستلاب والأخذ على السرعة.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ}: مسارق فسمع الكلمة.
{فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ}: تبعه ولحقه كوكب مضيء قوي لا يخطئه يقتل أو يحرق أو يحيل، وإنما يعودون إلى استراق السمع مع علمهم بأنهم لا يصلون إليه؛ طمعاً في السلامة ونيل المراد...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
لما أخبر الله تعالى أن الشياطين لا يستمعون إلى الملإ الأعلى ولا يصغون إليهم، أخبر أنهم متى راموا رُمُوا من كل جانب دفعا لهم على أشد الوجوه.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ} أي: إلا من اختطف من الشياطين الخطفة، وهي الكلمة يسمعها من السماء فيلقيها إلى الذي تحته، ويلقيها الآخر إلى الذي تحته، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها وربما ألقاها بقدر الله قبل أن يأتيه الشهاب فيحرقه، فيذهب بها الآخر إلى الكاهن.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ثبت بهذا حراسة القرآن بقدرة الملك الديان عن لبس الجان، وكان بعضهم مع هذا يسمع في بعض الأحايين ما أراد الله أن يسمعه ليجعله فتنة لمن أراد من عباده مع تميز القرآن بالإعجاز، استثنى من فاعل {يسمعون} قوله: {إلا من خطف} ودل على قلة ذلك بعد إفراد الضمير بقوله: {الخطفة} أي اختلس الكلمة أو أكثر، مرة من المرات منهم، ودل على قوة انقضاض الكواكب في أثره بالهمزة في قوله: {فأتبعه} مع تعديه بدونها، أي تبعه بغاية ما يكون من السرعة حتى كأنه يسوق نفسه ويتبعها له، كأن الله سبحانه وعز شأنه هيأها لئلا تنقض إلا في أثر من سمع منهم حين سماعه سواء لا يتخلف {شهاب} أي شعلة نار من الكوكب أو غيره
{ثاقب} أي يثقب ما صادفه من جني وغيره، وإن كان الجني من نار فإنه ليس ناراً خالصة، وعلى التنزل فربما كان الشيء الواحد أنواعاً بعضها أقوى من بعض، فيؤثر أقواه في أضعفه كالحديد، وتارة يخطئ الجني وتارة يصيبه، وإذا أصابه فتارة يحرقه فيتلفه وتارة يضعفه...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ} أي تبعَه ولحقَه، وقرئ فأتبعَه، والشِّهابُ ما يُرى منقضاً من السَّماءِ.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
لولا أنه [تعالى] استثنى، لكان ذلك دليلا على أنهم لا يستمعون شيئا أصلا، ولكن قال: {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ} أي: إلا من تلقف من الشياطين المردة، الكلمة الواحدة على وجه الخفية والسرقة...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
نحن لا نعرف كيف يتسمع الشيطان المارد ولا كيف يخطف الخطفة ولا كيف يرجم بالشهاب الثاقب؛ لأن هذه كلها غيبيات تعجز طبيعتنا البشرية عن تصور كيفياتها، ومجالنا فيها هو تصديق ما جاء من عند الله فيها، وهل نعلم عن شيء في هذا الكون إلا القشور؟!
المهم أن هذه الشياطين التي تمنع من الوصول إلى الملأ الأعلى، ومن التسمع لما يدور فيه هي التي يدعي المدعون أن بينها وبين الله نسباً، ولو كان شيء من هذا صحيحاً لتغير وجه المعاملة، ولما كان مصير الأنسباء والأصهار -بزعمهم- هو المطاردة والرجم والحرق أبداً!...
{إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ}
المعنى: أن بعض هؤلاء المردة سيستطيعون خطف بعض الأخبار، لكن لن يتمكنوا من الفرار بها، وتوصيلها إلى أوليائهم. والخطف نوع من حيازة الملكية بدون وجه حق، فلكُلٍّ مِنَّا حيازة وملكية، ولا يُخرِجه عن ملكيته إلا مَنْ يأخذها منه اعتداءً وظلماً، ولهذا الاعتداء والظلم وسائل متعددة منها: الخطف وهو أنْ يُؤخَذ منك الشيء خَطْفاً يعني بسرعة، لكن على مَرْأَىً منك ولا تستطيع منعه؛ لأن الشيء بعيد عن متناول يدك، كالولد الصغير يخطف شيئاً من البائع ويجرى به.
فإنْ كان صاحب الشيء قريباً واستطاع الإمساك به فنازعه المعتدى وتغلَّب عليه وأخذه فهو غَصْب، فإنْ أخذ الشيء دون علم صاحبه فهو سرقة، أما إنْ كان مؤتمناً على المال وأخذ منه فهو اختلاس.. هذه كلها وسائل لحيازة أموال الغير دون وجه حق.
كذلك يخطف الشيطان بعض الأخبار ويحاول الفرار بها، لكن هيهات له ذلك {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} يعني: كوكب ينقضُّ عليه، ومعنى {ثَاقِبٌ} يعني: نافذ يخترق الأجواء، حتى يصل إلى هدفه في أسرع وقت.
فإنْ قُلْتَ: فلماذا لا يُمنع بدايةً من استراق السمع؟ قالوا: فَرْقٌ بين أنْ يُمنَع من الشيء أصلاً، وبين أنْ يناله ثم لا ينفذ به ولا يستفيد منه، إن الله يُمكِّنه من بعض الأخبار بالفعل فيسمعها، لكن تُعاجله الزاجرات والشُّهب من كل ناحية، فتكون حسرته أعظمَ، حسرة أنه تعب وتحمَّل المشاقَّ في استراق السمع والخطف، وحسرة أنه لم ينتفع بما سمع.