محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{إِلَّا مَنۡ خَطِفَ ٱلۡخَطۡفَةَ فَأَتۡبَعَهُۥ شِهَابٞ ثَاقِبٞ} (10)

{ إلا من خطف الخطفة } أي اختلس الكلمة { فأتبعه شهاب } أي لحقه شعلة نارية تنقض من السماء { ثاقب } أي مضيء . كأنه يثقب الجوّ بضوئه .

تنبيه :

ذكر المفسرون أن الشياطين كانوا يصعدون إلى قرب السماء . فربما سمعوا كلام الملائكة وعرفوا به ما سيكون من الغيوب ، وكانوا يخبرونهم به ويوهمونهم أنهم يعلمون الغيب . فمنعهم الله تعالى من الصعود إلى قرب السماء بهذه الشهب . فإنه تعالى يرميهم بها فيحرقهم .

قال ابن كثير : يعني إذا أراد الشيطان أن يسترق السمع ، أتاه شهاب ثاقب فأحرقه . ولهذا قال جل جلاله { لا يسمّعون إلى الملإ الأعلى } أي : لئلا يصلوا إلى الملإ الأعلى ، وهي السماوات ومن فيها من الملائكة ، إذا تكلموا بما يوحيه الله تعالى بما يقوله من شرعه وقدره . / كما وردت الأخبار بذلك في تفسير قوله تعالى {[6348]} { حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم ، قالوا الحق ، وهو العلي الكبير } . انتهى .

قال بعض علماء الفلك : كما أن العرش تحفه الأرواح الغيبية- حسبما تقدم بيانه في آية {[6349]} { ثم استوى على العرش } في الأعراف- فكذلك الكواكب الأخرى مسكونة مع الحيوانات والدوات بأرواح ، منها الصالح ( الملك ) ومنها الطالح ( الشيطان ) وكذلك أرضنا هذه ففيها من الملائكة ومن الشياطين ما لا نبصره {[6350]} { إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم } ولا يخفى أن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود . فعدم إدراكنا لهذه الأرواح لا يدل على عدم وجودها . كما أن عدم معرفة القدماء للميكروبات وللكهرباء التي تشاهد الآن آثارها العظيمة ، لم يكن يدل على عدم وجودها إذ ذاك في العالم . فمن الجهل الفاضح إنكار الشيء لعدم معرفته أو العثور عليه . على أن لنا الآن من مسألة استحضار الأرواح أكبر دليل على وجود أرواح في هذه الأرض ، لا نبصرها ولا نشعر بها . وقد قدر الله تعالى أن الحيوانات في هذه الأرض ، إذا خرجت عنها إلى حيث ينقطع الهواء ويبطل التنفس ، تموت في الحال . وكذلك قدر أن الأرواح الطالحة التي في أرضنا هذه ، إذا أرادت الصعود إلى السماء والاختلاط بالأرواح التي في الكواكب الأخرى ، انقضّ عليها ، قبل أن تخرج من جوّ الأرض ، شهاب من هذه الكواكب أو من غيرها ، فأحرقها وأهلكها ، بإفساد تركبيها ومادتها . حتى لا يحصل اتصال بين هذه وتلك ، ولا تطلع على أسرار العوالم الأخرى . وهذه الشهب التي تنقضّ ، إن كانت صادرة من أجرام ملتهبة ، كانت ملتهبة . وإن كانت صادرة من أجرام غير ملتهبة ، التهبت فيما بعد لشدة سرعتها واحتكاكها بالغازات التي تمر فيها في جوّنا هذا . ولعل في مادة الشياطين ما يجتذب إليه هذه الشهب ويتّحد بها . كما تجتذب العناصر الكيماوية / بعضها بعضا ( مثال ذلك عنصر الصوديم فإنه يجتذب إليه الأوكسجين من الماء فيحلله ) ولا نقول إن جميع الشهب تنقض لهذا السبب ، بل منها ما ينقض لأسباب أخرى . كاجتذاب بعض الأجرام السماوية له . ومنها ما ينقض لإهلاك الشياطين ، كما بينا هنا . والشياطين مخلوقة من مواد غازية كانت ملتهبة {[6351]} { والجان خلقناه من قبل من نار السموم } والمراد ( بالسماء الدنيا ) في هذه الآية الفضاء المحيط بنا القريب منا . أي هذا الجو الذي نشاهده وفيه العوالم كلها . أما ما وراءه من الجواء البعيدة عنا ، التي لا يمكن أن نصل إليها بأعيننا ولا بمناظيرنا ، فهو فضاء محض لا شيء فيه . فلفظ ( السماء ) له معان كثيرة كلها ترجع إلى معنى السموّ وتفسّر في كل مقام بحسبه .

ثم قال : فكل مسألة جاء بها القرآن حق ، لا يوجد في العلم الطبيعيّ ما يكذبها . لأنه وحي الله حقا ، والحق لا يناقضه الحق {[6352]} { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ، أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد } اه .

وقال أيضا : يعتقد الآن علماء الفلك أن أكثر الشهب تنشأ من ذوات الأذناب . ويحتمل أن بعضها ناشئ من بعض الشموس المنحلّة ، أو الباقية الملتهبة ، أو من براكين بعض السيارات ، أو مما لم ينطفئ من السيارات للآن . ومتى علمنا أن ذوات الأذناب والسيارات جميعا مشتقة من الشموس ، كان مصدر جميع الشهب هو الشموس أو النجوم .

( قال ) : وهذا يفهمنا معنى هذه الآية . اه كلامه .

ونظير هذه الآية قوله تعالى : {[6353]} { ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين ، وأعتدنا لهم عذاب السعير } وقوله عز وجل{[6354]} : { ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين* وحفظناها من كل شيطان رجيم* إلا من استرق السمع/ فأتبعه شهاب مبين } وقوله : سبحانه إخبارا عن الجن {[6355]} { وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا* وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع ، فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا } .


[6348]:[34/سبأ/23].
[6349]:[7/الأعراف/54].
[6350]:[7/الأعراف/27].
[6351]:[10/ الحجر/27].
[6352]:[41/فصلت/53]
[6353]:[67/الملك/53].
[6354]:[15/الحجر/16-18].
[6355]:[72/الجن/8و9].