قوله تعالى : { إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله } أي : رسول الله صلى الله عليه وسلم { وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئاً } إنما يضرون أنفسهم ، { وسيحبط أعمالهم } فلا يرون لها ثواباً في الآخرة ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : هم المطعمون يوم بدر ، نظيرها قوله عز وجل : { إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله { ( الأنفال-36 ) الآية .
( إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ، وشاقوا الرسول - من بعد ما تبين لهم الهدى - لن يضروا الله شيئا ، وسيحبط أعمالهم ) . .
إنه قرار من الله مؤكد ، ووعد منه واقع : أن الذين كفروا ، ووقفوا في وجه الحق أن يبلغ إلى الناس ؛ وصدوا الناس عنه بالقوة أو المال أو الخداع أو أية وسيلة من الوسائل ، وشاقوا الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] في حياته بإعلان الحرب عليه ، والمخالفة عن طريقه ، والوقوف في غير صفه . أو بعد وفاته بمحاربة دينه وشريعته ومنهجه والمتبعين لسنته والقائمين على دعوته . وذلك ( من بعد ما تبين لهم الهدى ) . . وعرفوا أنه الحق ؛ ولكنهم اتبعوا الهوى ، وجمح بهم العناد وأعماهم الغرض ، وقادتهم المصلحة العاجلة . .
قرار من الله مؤكد ، ووعد من الله واقع أن هؤلاء ( لن يضروا الله شيئا ) . . وهم أضأل وأضعف من أن يذكروا في مجال إلحاق ضرر بالله سبحانه وتعالى . فليس هذا هو المقصود إنما المقصود أنهم لن يضروا دين الله ولا منهجه ولا القائمين على دعوته . ولن يحدثوا حدثا في نواميسه وسننه . مهما بلغ من قوتهم ، ومهما قدروا على إيذاء بعض المسلمين فترة من الوقت . فإن هذا بلاء وقتي يقع بإذن الله لحكمة يريدها ؛ وليست ضرا حقيقيا لناموس الله وسنته ونظامه ونهجه وعباده القائمين على نظامه ونهجه . والعاقبة مقررة : ( وسيحبط أعمالهم ) . . فتنتهي إلى الخيبة والدمار . كما تنتهي الماشية التي ترعى ذلك النبات السام !
وقوله : إنّ الّذِينَ كَفَرُوا وَصَدّوا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ يقول تعالى ذكره : إن الذين جحدوا توحيد الله ، وصدّوا الناس عن دينه الذي ابتعث به رسله وَشاقّوا الرّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُمُ الهُدَى يقول : وخالفوا رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم ، فحاربوه وآذَوه من بعد ما علموا أنه نبيّ مبعوث ، ورسول مرسل ، وعرفوا الطريق الواضح بمعرفته ، وأنه لله رسول .
وقوله : لَنْ يَضُرّوا اللّهَ شَيْئا لأن الله بالغ أمره ، وناصر رسوله ، ومُظهره على من عاداه وخالفه وسَيُحْبِطُ أعمالَهُمْ يقول : وسيذهب أعمالهم التي عملوها في الدنيا فلا ينفعهم بها في الدنيا ولا الاَخرة ، ويبطلها إلا مما يضرّهم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"إنّ الّذِينَ كَفَرُوا وَصَدّوا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ" يقول تعالى ذكره: إن الذين جحدوا توحيد الله، وصدّوا الناس عن دينه الذي ابتعث به رسله، "وَشاقّوا الرّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُمُ الهُدَى "يقول: وخالفوا رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم، فحاربوه وآذَوه من بعد ما علموا أنه نبيّ مبعوث، ورسول مرسل، وعرفوا الطريق الواضح بمعرفته، وأنه لله رسول.
وقوله: "لَنْ يَضُرّوا اللّهَ شَيْئا" لأن الله بالغ أمره، وناصر رسوله، ومُظهره على من عاداه وخالفه، "وسَيُحْبِطُ أعمالَهُمْ" يقول: وسيذهب أعمالهم التي عملوها في الدنيا فلا ينفعهم بها في الدنيا ولا الآخرة، ويبطلها إلا مما يضرّهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... {وصدّوا عن سبيل الله} يحتمل قوله: {وصدّوا} أي أعرضوا بأنفسهم عن دين الله، ويحتمل {وصدّوا} أي صرفوا الناس عن دين الله، والله أعلم وقوله تعالى: {وشاقّوا الرسول} أي عادوه، وعاندوه {من بعد ما تبين لهم الهدى}. وقوله تعالى: {لن يضروا الله شيئا} يحتمل لن يضرّوا الله بكفرانهم نعمه أو بكُفرهم بوحدانيته؛ ومعناه، والله أعلم، أنه ليس يأمر، وينهى لحاجة أنفس أولئك ولمنافعهم. فهم بتركهم اتّباع أمره والانتهاء عن نهيه ضرّوا أنفسهم، والله أعلم. وجائز أن يكون المراد من قوله: {لن يضرّوا الله شيئا} أي لن يضرّوا أولياء الله بما كفروا، وصدّوهم عن سبيله، بل ضرّوا أنفسهم كقوله تعالى: {إن تنصروا الله ينصركم} [محمد: 7] أي إن تنصروا أولياء الله ينصركم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَسَيُحْبِطُ أعمالهم} التي عملوها في دينهم يرجون بها الثواب؛ لأنها مع كفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم باطلة، وهم قريظة والنضير. أو سيحبط أعمالهم التي عملوها، والمكايد التي نصبوها في مشاقة الرسول، أي: سيبطلها فلا يصلون منها إلى أغراضهم، بل يستنصرون بها ولا يثمر لهم إلا القتل والجلاء عن أوطانهم. وقيل: هم رؤساء قريش، والمطعمون يوم بدر...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{إن الذين كفروا} أي غطوا من دلت عليه عقولهم من ظاهر آيات الله لا سيما بعد إرسال الرسول المؤيد بواضح المعجزات صلى الله عليه وسلم {وصدوا} أي امتنعوا ومنعوا غيرهم زيادة في كفرهم {عن سبيل الله} أي الطريق الواضح الذي نهجه الملك الأعظم...
{وشاقوا الرسول} أي الكامل في الرسلية المعروفة غاية المعرفة...
{من بعد ما تبين} أي غاية التبين بالمعجز {لهم الهدى} بحيث صار ظاهراً بنفسه غير محتاج بما أظهره الرسول من الخوارق إلى مبين...
{لن يضروا الله} أي ملك الملوك، ولم يقل: الرسول {شيئاً} أي كثيراً ولا قليلاً من ضرر بما تجمعوا عليه من الكفر والصد...
{وسيحبط} أي يفسد فيبطل بوعد لا خلق فيه {أعمالهم} من المحاسن لبنائها من المنافق على غير أساس ثابت، فهو إنما يرائي بها، ومن المجاهر على غير- أساس أصلاً، فلا ينفعهم شيء منها...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{وَسَيُحْبِطُ أعمالهم} أي مكايدَهُم التي نصبُوها في إبطالِ دينِه تعالى ومُشاقَّةِ رسولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فلا يصلونَ بَها إلى ما كانُوا يبغونَ من الغوائلِ ولا تُثمر لهم إلا القتلَ والجلاء عن أوطانِهم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إنه قرار من الله مؤكد، ووعد منه واقع: أن الذين كفروا، ووقفوا في وجه الحق أن يبلغ إلى الناس؛ وصدوا الناس عنه بالقوة أو المال أو الخداع أو أية وسيلة من الوسائل، وشاقوا الرسول [صلى الله عليه وسلم] في حياته بإعلان الحرب عليه، والمخالفة عن طريقه، والوقوف في غير صفه. أو بعد وفاته بمحاربة دينه وشريعته ومنهجه والمتبعين لسنته والقائمين على دعوته. وذلك (من بعد ما تبين لهم الهدى).. وعرفوا أنه الحق؛ ولكنهم اتبعوا الهوى، وجمح بهم العناد وأعماهم الغرض، وقادتهم المصلحة العاجلة.. قرار من الله مؤكد، ووعد من الله واقع أن هؤلاء (لن يضروا الله شيئا).. وهم أضأل وأضعف من أن يذكروا في مجال إلحاق ضرر بالله سبحانه وتعالى. فليس هذا هو المقصود إنما المقصود أنهم لن يضروا دين الله ولا منهجه ولا القائمين على دعوته. ولن يحدثوا حدثا في نواميسه وسننه...
(وسيحبط أعمالهم).. فتنتهي إلى الخيبة والدمار. كما تنتهي الماشية التي ترعى ذلك النبات السام!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الظاهر أن المعنيّ بالذين كفروا هنا الذين كفروا المذكورون في أول هذه السورة وفيما بعد من الآيات التي جرى فيها ذكر الكافرين، أي الكفار الصرحاء عاد الكلام إليهم بعد الفراغ من ذكر المنافقين الذين يخفون الكفر، عودا على بدء لتهوين حالهم في نفوس المسلمين...
وفعل {شاقُّوا} مشتق من كلمة شِق بكسر الشين وهو الجانب، والمشاقة المخالفة...
وقيل المراد بالذين كفروا في هذه الآية يهود قريظة والنضير، وعليه فمشاقتهم الرسول صلى الله عليه وسلم مشاقة خفية مشاقَّة كيد ومكْر، وتبيُّن الهدى لهم ظهور أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو الموعود به في التوّراة وكتب الأنبياء، فتكون الآية تمهيداً لغزو قريظة والنضير... والإحباط: الإبطال كما تقدم آنفاً... وحرف الاستقبال هنا لتحقيق حصول الإحباط في المستقبل وهو يدل على أن الله محبط أعمالهم من الآن إذ لا يعجزه ذلك حتى يترصد به المستقبل...
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
وروح هذه الآيات تلهم أن المقصودين هم كفار العرب. وما دام الوصف واحدا فيكون المقصودون هنا هم المقصودون هناك. وفي الآية الأخيرة تقرير أو توكيد جديد لما نبهنا عليه مرة أخرى من أن الحملات القرآنية على الكفار وتقرير عذابهم الأخروي، وكون الله لن يهديهم ولن يصلح بالهم وسيحبط أعمالهم إنما هي بالنسبة لمن يبقى على حاله كافرا صادا عن سبيل الله إلى أن يموت...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
هؤلاء يمكن أن يكونوا مشركي مكّة، أو الكفار من يهود المدينة، أو كليهما، لأنّ التعبير ب«الكفر»، و«الصد عن سبيل الله»، و (شاقّوا الرسول) قد ورد بحقّ الفريقين في آيات القرآن الكريم. أمّا «تبيّن الهدى»، فقد كان عن طريق المعجزات بالنسبة إلى مشركي مكّة، وعن طريق الكتب السماوية بالنسبة إلى أهل الكتاب. و«إحباط أعمالهم» إمّا أن يكون إشارة إلى أعمال الخير التي قد يقومون بها أحياناً كإقراء الضيف، والإنفاق، ومعونة ابن السبيل، أو أن يكون إشارة إلى عدم تأثير خطط هؤلاء ومؤامراتهم ضد الإسلام. وعلى أية حال، فقد كان هؤلاء الجماعة متّصفين بثلاث صفات: الكفر، والصد عن سبيل الله، والعداء للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، إذ كانت إحداها تتعلق بالله سبحانه، والأُخرى بعباد الله، والثالثة برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).