معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{فَلَمَّآ ءَاتَىٰهُم مِّن فَضۡلِهِۦ بَخِلُواْ بِهِۦ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعۡرِضُونَ} (76)

قوله تعالى : { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن } الآية . أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، ثنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنا أبو عبد الله بن حامد الأصفهاني ، ثنا أحمد بن محمد بن إبراهيم السمرقندي ، ثنا محمد بن نصر ، حدثني أبو الأزهر أحمد بن الأزهر ، ثنا مروان بن محمد بن شعيب ثنا معان بن رفاعة عن علي بن زيد ، عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة الباهلي قال : " جاء ثعلبة بن حاطب الأنصاري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه ، ثم أتاه بعد ذلك ، فقال يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :أمالك في رسول الله أسوة حسنة ؟ والذي نفسي بيده لو أردت أن تسير الجبال معي ذهبا وفضة لسارت ثم أتاه بعد ذلك فقال : يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا فوالذي بعثك بالحق لئن رزقني الله مالا لأعطين كل ذي حق حقه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم ارزق ثعلبة مالا " . قال : فاتخذ غنما فنمت كما ينمو الدود ، فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها ، فنزل واديا من أوديتها وهى تنمو كالدود ، فكان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر ، ويصلي في غنمه سائر الصلوات ، ثم كثرت ونمت حتى تباعد بها عن المدينة ، فصار لا يشهد إلا الجمعة ، ثم كثرت فنمت فتباعد أيضا حتى كان لا يشهد جمعة ولا جماعة . فكان إذا كان يوم الجمعة خرج يتلقى الناس يسألهم عن الأخبار ، فذكره صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال : ما فعل ثعلبة ؟ قالوا : يا رسول الله اتخذ ثعلبة غنما ما يسعها واد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة . فأنزل الله آية الصدقات ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من بني سليم ورجلا من جهنية وكتب لهما أسنان الصدقة ، فكيف يأخذان ، وقال لهما : مرا بثعلبة بن حاطب ، وبفلان ، رجل من بني سليم فخذا صدقاتهما ، فخرجا حتى أتيا ثعلبة فسألاه الصدقة وقراه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ما هذه إلا جزية ما هذه إلا أخت الجزية ، انطلقا حتى تفرغا ثم عودا إلي ، فانطلقا وسمع بهما السلمي فنظر إلى خيار أسنان إبله فعزلها للصدقة ثم استقبلها بها فلما رأوها قالوا : ما هذه عليك . قال : خذاه فإن نفسي بذلك طيبة ، فمرا على الناس فأخذا الصدقات ، ثم رجعا إلى ثعلبة ، فقال : أروني كتابكما فقرأه ، ثم قال : ما هذه إلا أخت الجزية ، اذهبا حتى أرى رأيي . قال : فأقبلا رآهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يكلماه قال : يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة ، ثم دعا للسلمي بخير ، فأخبراه بالذي صنع ثعلبة ، فأنزل الله تعالى فيه : { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله } الآية ، إلى قوله : { وبما كانوا يكذبون } وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أقارب ثعلبة فسمع ذلك فخرج حتى أتاه فقال ويحك يا ثعلبة لقد أنزل الله فيك كذا وكذا ، فخرج ثعلبة حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله أن يقبل منه الصدقة ، فقال : إن الله عز وجل منعني أن أقبل منك صدقتك ، فجعل يحثو التراب على رأسه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا عملك وقد أمرتك فلم تطعني ، فلما أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبض صدقته ، رجع إلى منزله . وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم أتى أبا بكر فقال : اقبل صدقتي ، فقال أبو بكر : لم يقبلها منك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أنا أقبلها ؟ فقبض أبو بكر ولم يقبلها . فلما ولي عمر أتاه فقال : اقبل صدقتي ، فقال : لم يقبلها منك رسول الله ولا أبو بكر ، أنا أقبلها منك ؟ فلم يقبلها فلما ولي عثمان أتاه فلم يقبلها منه ، وهلك ثعلبة في خلافة عثمان . قال ابن عباس و سعيد بن جبير و قتادة : أتى مجلسا من الأنصار فأشهدهم لئن آتاني الله من فضله آتيت منه كل ذي حق حقه ، وتصدقت منه ، ووصلت الرحم ، وأحسنت إلى القرابة ، فمات ابن عم له فورثه مالا فلم يف بما قال ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . وقال الحسن و مجاهد : نزلت في ثعلبة بن حاطب ومعتب بن قشير ، وهما من بني عمرو بن عوف ، خرجا على ملأ قعود قالا : والله لئن رزقنا الله مالا لنصدقن ، فلما رزقهما الله عز وجل بخلا به ، فقوله عز وجل : { ومنهم } يعني : المنافقين { من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن } ولنؤدين حق الله منه . { ولنكونن من الصالحين } ، نعمل بعمل أهل الصلاح فيه ، من صلة الرحم والنفقة في الخير .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{فَلَمَّآ ءَاتَىٰهُم مِّن فَضۡلِهِۦ بَخِلُواْ بِهِۦ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعۡرِضُونَ} (76)

{ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ } لم يفوا بما قالوا ، بل { بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا } عن الطاعة والانقياد { وَهُمْ مُعْرِضُونَ } أي : غير ملتفتين إلى الخير .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَلَمَّآ ءَاتَىٰهُم مِّن فَضۡلِهِۦ بَخِلُواْ بِهِۦ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعۡرِضُونَ} (76)

هذه الآية نزلت في ثعلبة بن حاطب الأنصاري ، وقال الحسن : وفي معتب بن قشير معه ، واختصار ما ذكره الطبري وغيره من أمره «أنه جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ادع الله أن يجعل لي مالاً فإني لو كنت ذا مال لقضيب حقوقه وفعلت فيه الخير ، فراده رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه ، فعاود فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ألا تريد أن تكون مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو دعوت الله أن يسير الجبال معي ذهباً لسارت ، فأعاد عليه حتى دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ، فاتخذ غنماً فنمت كما ينمو الدود حتى ضاقت به المدينة ، فتنحى عنها وكثرت غنمه ، فكان لا يصلي إلا الجمعة ثم كثرت حتى تنحى بعيداً ونجم نفاقه ، ونزل خلال ذلك فرض الزكاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبعث مصدقين بكتابه في أخذ زكاة الغنم ، فلما بلغوا ثعلبة وقرأ الكتاب قال : هذه أخت الجزية ، ثم قال لهم : دعوني حتى أرى رأيي ، فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبروه ، قال » ويح ثعلبة «ثلاثاً ، ونزلت الآية فيه ، فحضر القصة قريب لثعلبة فخرج إليه فقال أدرك أمرك ، فقد نزل كذا وكذا ، فخرج ثعلبة حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرغب أن يؤدي زكاته فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال إن أمرني الله أن لا آخذ زكاتك » ، فبقي كذلك حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ورد ثعلبة على أبي بكر ثم على عمر ثم على عثمان يرغب إلى كل واحد منهم أن يأخذ منه الزكاة ، فكلهم رد ذلك وأباه اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبقي ثعلبة كذلك حتى هلك في مدة عثمان{[5794]} .


[5794]:- أخرجه الحسن بن سفيان، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والعسكري في الأمثال، والطبراني، وابن منده، والبارودي، وأبو نعيم في معرفة الصحابة، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، وابن عساكر عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه. (الدر المنثور- وفتح القدير).

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{فَلَمَّآ ءَاتَىٰهُم مِّن فَضۡلِهِۦ بَخِلُواْ بِهِۦ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعۡرِضُونَ} (76)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 75]

يقول تعالى ذكره: ومِن هؤلاء المنافقين الذين وصفت لك يا محمد صفتهم "مَنْ عَاهَدَ اللّهَ "يقول: أعطى الله عهدا، "لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ" يقول: لئن أعطانا الله من فضله، ورزقنا مالاً، ووسع علينا من عنده "لَنَصّدّقَنّ" يقول: لنخرجنّ الصدقة من ذلك المال الذي رزقنا ربنا، "وَلَنَكُونَنّ مِنَ الصّالِحِينَ" يقول: ولنعملنّ فيها بعمل أهل الصلاح بأموالهم؛ من صلة الرحم به وإنفاقه في سبيل الله. يقول الله تبارك وتعالى: فرزقهم الله وأتاهم من فضله = "فلما آتاهم الله من فضله بخلوا به"، بفضل الله الذي آتاهم، فلم يصدّقوا منه، ولم يصلوا منه قرابةً، ولم ينفقوا منه في حق الله. "وَتَوَلّوْا" يقول: وأدبروا عن عهدهم الذي عاهدوه الله، "وهُمْ مُعْرِضُونَ" عنه. "فَأعْقَبَهُمُ" الله "نِفاقا فِي قُلُوبِهِمْ" ببخلهم بحقّ الله الذي فرضه عليهم فيما آتاهم من فضله، وإخلافهم الوعد الذي وعدوا الله، ونقضهم عهده في قلوبهم "إلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أخْلَفُوا الله ما وَعَدُوهُ" من الصدقة والنفقة في سبيله، "وبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ" في قيلهم، وحرّمهم التوبة منه لأنه جلّ ثناؤه اشترط في نفاقهم أنه أعقبهموه إلى "يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ" وذلك يوم مماتهم وخروجهم من الدنيا...

في هذه الآية الإبانة من الله جلّ ثناؤه عن علامة أهل النفاق، أعني في قوله: "فأعْقَبَهُم نِفَاقا في قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أخْلَفُوا الله ما وَعَدُوهُ وبِما كانُوا يَكْذِبُونَ".

وبنحو هذا القول كان يقول جماعة من الصحابة والتابعين، ووردت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم... حدثني القاسم بن بشر بن معروف، قال: حدثنا أسامة، قال: حدثنا محمد المخرمي، قال: سمعت الحسن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثَلاثٌ مَنْ كُنّ فِيهِ فَهُوَ مُنافِقٌ وَإنْ صَلّى وَصَامَ وَزَعَمَ أنّهُ مُسْلِمٌ: إذَا حَدّثَ كَذَبَ، وإذَا وَعَدَ أخْلَفَ، وإذَا اؤتُمِنَ خانَ»...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 75]

منهم مَنْ أَكَّدَ العَقْدَ مع الله، ثم نَقَضَه، فَلَحِقَه شُؤْمُ ذلك؛ فَبقِي خالداً في نِفاقِه. ويقال تطلَّبَ إحسانَ ربِّه، وتقرَّبَ إليه بإبرام عهده فلمَّا حقَّق اللهُ مسؤولَه واستجاب مأموله، فَسخَ ما أبرمه، وانسلخ عما التزمه، واستولى عليه البُخْلُ، فَضَنَّ بإخراج حقه، فَلَحِقَه شؤمُ نِفاقِه، بأن بَقِيَ إلى الأبد في أَسْرِه. وحدُّ البخل -على لسان العلم- مَنْعُ الواجب. وبُخْلِ كلِّ أحدٍ على ما يليق بحاله، وكلُّ مَنْ آثر شيئاً من دون رضاء ربِّه فقد اتصف ببخله، فَمَنْ يَبْخَلْ بماله تَزلْ عنه البركةُ حتى يؤول إلى وارثٍ أو يزول بحارث. ومَنْ يبخلْ بنَفْسِه ويتقاعس عن طاعته تفارقه الصحةُ حتى لا يستمتع بحياته. والذي يبخل بروحِه عنه يُعاقَبُ بالخذلان حتى تكون حياتُه سبباً لشقائه...

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

قَوْله تَعَالَى {بَخِلُوا بِهِ}: اُخْتُلِفَ فِيهِ؛ فَقِيلَ: الْبُخْلُ مَنْعُ الْوَاجِبِ، وَالشُّحُّ مَنْعُ الْمُسْتَحَبِّ قَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ} إلَى: {الْقِيَامَةِ}. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ...} الآية. وَقِيلَ: هُمَا وَاحِدٌ. وَقَدْ سَبَقَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ فِي الْمُتَقَدِّمِ مِنَ الْقَوْلِ، وَمَا حَكَيْنَاهُ هَاهُنَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَعَلَيْهِ تَدُلُّ الْأَحَادِيثُ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِيهَا، وَظَوَاهِرُ الْقُرْآنِ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِيهَا.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

وهذا يدل على أنه تعالى وصفهم بصفات ثلاثة:

الصفة الأولى: البخل وهو عبارة عن منع الحق.

والصفة الثانية: التولي على العهد.

والصفة الثالثة: الإعراض عن تكاليف الله وأوامره.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{فلما آتاهم} وكرر قوله: {من فضله} تقريراً لما قاله المعاهد تأكيداً للإعلام بأنه لا حق عليه لأحد ولا صنع فيما ينعم به ولا قدرة عليه بوجه {بخلوا به} أي كذبوا فيما عاهدوا عليه وأكدوه غاية التأكيد، فلم يتصدقوا بل منعوا الحق الواجب إظهاره فضلاً عن صدقة السر {وتولوا} أي كلفوا أنفسهم الإعراض عن الطاعة لمن تفضل عليهم مع معرفتهم بقبح نقض العهد؛ ولما كان التولي قد يحمل على ما بالجسد فقط قال: {وهم معرضون*} أي بقلوبهم، والإعراض وصف لهم لازم لم يتجدد لهم، بل كان غريزة فيهم ونحن عالمون بها من حين أوقعوا العهد...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

{فلما آتاهم من فضله} ما طلبوا من سعة رزقه. {بخلوا به وتولوا} أي ما لبثوا أن بخلوا بما آتاهم عقب حصوله، وأمسكوه فلم يتصدقوا بشيء منه، وتولوا وانصرفوا عن الاستعانة به على الطاعة وإصلاح حالهم وحال أمتهم كما عاهدوا وأقسموا، ولم يكن توليهم هذا أمرا عارضاً شغلهم عنه شاغل يزول بزواله، بل تولوا {وهم معرضون} بكل قواهم عن الصدقة والعمل الصالح، فكان الإعراض صفة راسخة فيهم حاكمة عليهم، بحيث إذا ذكروا بما يجب عليهم لا يذكرون، وإذا دعوا إليه لا يستجيبون...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

(فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) فلما أن استجاب اللّه له ورزقه من فضله نسي عهده، وتنكر لوعده، وأدركه الشح والبخل فقبض يده، وتولى معرضاً عن الوفاء بما عاهد. فكان هذا النكث بالعهد مع الكذب على اللّه فيه سبباً في التمكين للنفاق في قلبه، والموت مع هذا النفاق، ولقاء اللّه به. والنفس البشرية ضعيفة شحيحة، إلا من عصم اللّه؛ ولا تطهر من هذا الشح إلا أن تعمر بالإيمان، وترتفع على ضرورات الأرض، وتنطلق من قيود الحرص على النفع القريب، لأنها تؤمل في خلف أعظم، وتؤمل في رضوان من اللّه أكبر. والقلب المؤمن يطمئن بالإيمان، فلا يخشى الفقر بسبب الإنفاق، لأنه يثق بأن ما عند الناس ينفد وما عند اللّه باق. وهذا الاطمئنان يدفع به إلى إنفاق المال في سبيل اللّه تطوعاً ورضى وتطهراً، وهو آمن مغبته. فحتى لو فقد المال وافتقر منه، فإن له عوضاً أعظم عند اللّه. فأما حين يقفر القلب من الإيمان الصحيح، فالشح الفطري يهيج في نفسه كلما دعي إلى نفقة أو صدقة، والخوف من الفقر يتراءى له فيقعد به عن البذل. ثم يبقى سجين شحه وخوفه بلا أمن ولا قرار...

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

{فَلَمَّآ آتَاهُمْ مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ} لأن العهد لم يكن منطلقاً من حالة تقوى وموقف إيمان، بل من حالةٍ استعراضيّةٍ تمنحهم فرصة الهروب من الموقف الصعب آنذاك من جهة، وتهيئ لهم الظهور بمظهر التقوى والصلاح من جهة أخرى، فإذا جاءت التجربة الحيّة التي تتحدى فيهم صدق الموقف، سقطوا أمامها، وامتنعوا عن الوفاء بما عاهدوا الله عليه، وبخلوا بالمال الذي رزقهم الله إياه {وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ} عن كل ما قالوه، وعن كل ما التزموا به...

أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري 1439 هـ :

من الهداية: -وجوب الوفاء بالعهود وخاصة عهود الله تعالى.