التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{فَلَمَّآ ءَاتَىٰهُم مِّن فَضۡلِهِۦ بَخِلُواْ بِهِۦ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعۡرِضُونَ} (76)

{ وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ( 75 ) فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ ( 76 ) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ ( 77 ) أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ( 78 ) } ( 75 – 78 ) .

في هذه الآيات :

( 1 ) صورة أخرى من مواقف المنافقين ؛ حيث كان بعضهم يعاهد الله وينذر على نفسه إن آتاه الله من فضله ووسع عليه الدنيا بأن يتصدق ويخلص فلما حقق الله له أمنيته بخل وأخلف وعده .

( 2 ) وتعقيب على هذه الصورة يتضمن تقرير كون هذا الموقف قد أدى إلى اندماغ المخلف بالنفاق اندماغا مستمرا إلى يوم يلقى الله ؛ لأنه أخلف فيما وعد وكذب على الله تعالى فعاقبه الله على ذلك .

( 3 ) وسؤال استنكاري فيه إنذار ووعيد عما إذا كان المنافقون وهم يقفون مثل هذه المواقف الغادرة الكاذبة لا يعلمون أن الله يعلم سرهم ونجواهم ، وأنه علام الغيوب لا تفوته هاجسة ولا يغرب عن علمه شيء مما يدور في خلدهم ؟

تعليق على الآية :

{ وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ . . . . . . } الخ

والآية التالية لها وما فيهما من صور وتلقين

ولقد روى المفسرون{[1119]} ، أن شخصا اسمه ثعلبة بن حاطب طلب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يدعو الله ليرزقه مالا فقال له : ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه ، فأعاد عليه السؤال فقال له : أما ترضى أن تكون مثل نبي الله ، والذي نفسي بيده لو شئت أن تسير معي الجبال ذهبا وفضة لسارت . فقال له : والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله فرزقني مالا لأعطين كل ذي حق حقه . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اللهم ارزق ثعلبة مالا . فاتخذ غنما فنمت كما ينمو الدود حتى ضاقت عليه المدينة فتنحى عنها ، فنزل واديا وصار يقصر في واجبات الصلاة . وظل ماله ينمو وعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأمره فأرسل من يأخذ صدقة ماله منه فأبى وقال : ما هذه إلا جزية أو أختها ، فأنزل الله فيه الآيات . ورووا إلى هذه الرواية روايات أخرى منها أن ثعلبة نذر بما نذر أمام ملأ من قومه ثم ورث مالا فلم يف بما وعد . ومنها أن هذا النذر كان من جماعة من بني عوف فآتاهم الله من فضله فبخلوا . ومنها أنها نزلت في حاطب بن بلتعة . كان له مال في الشام فأبطأ عليه وجهد لذلك جهدا شديدا فحلف لئن أتاه ذلك المال ليصدقن فأتاه فلم يفعل .

وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب أحاديث معتبرة . ولقد روينا قصة لحاطب بن بلتعة في سياق سورة الممتحنة تفيد أنه كان مخلصا وممن شهدوا بدرا ؛ لذلك نستبعد صحة الرواية عنه . وفي الرواية التي ذكر فيها ثعلبة أن بعض أقاربه قال له : ويحك قد أنزل الله فيك قرآنا حتى أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسأله أن يقبل صدقته فقال له : إن الله منعني من ذلك فجعل يحثو التراب على رأسه فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : هذا عملك فقد أمرتك فلم تطعني . وقبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يقبض صدقته . فأتى أبا بكر فعرض عليه صدقته فقال له : لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أقبلها مستنكرا . وقبض أبو بكر ولم يقبضها ، فجاء إلى عمر فرفضها ، ثم جاء بعده إلى عثمان فرفضها . ومات في زمن عثمان . وهذا التفصيل عجيب . فالروايات لا تذكر أنه كان من المنافقين . والآية السابقة تشجع المنافقين على التوبة وتعدهم بالخير إذا فعلوا . والآية الثانية إلى كل هذا تلهم أن الذين عاهدوا الله وأخلفوه أكثر من واحد وأنهم كانوا من المنافقين .

وعلى كل حال فالآيات تضمنت حكاية مشهد أو صورة خبيثة من مشاهد المنافقين ومواقفهم . والذي نرجحه أن ذلك كان مما وقع قبل غزوة تبوك فاحتوت الآيات تذكيرا بذلك في معرض سرد أخلاق المنافقين كما هو الحال في الآيات السابقة ، وأن الآيات والحكمة هذه جزء من السلسلة ولم تنزل لحدتها في مناسبة إحدى الروايات المروية . والله تعالى أعلم .

وواضح أن الآيات تنطوي كسابقاتها على تلقين مستمر المدى بتقبيح هذه الصورة وتقرير كونها من أخلاق المنافقين .

ولقد أورد الطبري في سياقها بعض الأحاديث من ذلك حديث مرفوع رواه قتادة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( تكفلوا لي بست أتكفل لكم بالجنة . قالوا : ما هي يا رسول الله قال : إذا حدثتم فلا تكذبوا ، وإذا وعدتم فلا تخلفوا ، وإذا اؤتمنتم فلا تخونوا ، وكفوا أبصاركم وأيديكم وفروجكم : أبصاركم عن الخيانة ، وأيديكم عن السرقة ، وفروجكم عن الزنا ) وحديث مرفوع آخر رواه الحسن عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( ثلاث من كن فيه صار منافقا وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم : إذا حدث كذب وإذا اؤتمن خان وإذا وعد أخلف ) . وهناك حديثان من باب الثاني رواهما الشيخان والترمذي وأبو داود جاء في أحدهما : عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان ) ( 1 ){[1120]} . وثانيهما عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خلة منهن كانت فيه خلة من نفاق حتى يدعها : إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا وعد أخلف وإذا خاصم فجر ) ( 2 ){[1121]} .

وفي الأحاديث مقاييس بليغة لمنافقين ، ومن الحكمة المنطوية فيها كما هو المتبادر تقبيح هذه الصفات والتحذير منها وتقرير كونها لا يمكن أن تكون في مؤمن مخلص .


[1119]:انظر الطبري والبغوي والطبرسي.
[1120]:التاج ج 5 ص 41.
[1121]:المصدر نفسه.