{ 42 - 44 ْ } { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ * إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ْ }
يخبر تعالى عن بعض المكذبين للرسول ، ولما جاء به ، و أن { منهم مَنْ يَسْتَمِعُونَ ْ } إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وقت قراءته للوحي ، لا على وجه الاسترشاد ، بل على وجه التفرج والتكذيب وتطلب{[399]} العثرات ، وهذا استماع غير نافع ، ولا مُجدٍ على أهله خيرًا ، لا جرم انسد عليهم باب التوفيق ، وحرموا من فائدة الاستماع ، ولهذا قال : { أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ ْ } وهذا الاستفهام ، بمعنى النفي المتقرر ، أي : لا تسمع الصم الذين لا يستمعون القول ولو جهرت به ، وخصوصًا إذا كان عقلهم معدومًا .
فإذا كان من المحال إسماع الأصم الذي لا يعقل للكلام ، فهؤلاء المكذبون ، كذلك ممتنع إسماعك إياهم ، إسماعًا ينتفعون به .
وأما سماع الحجة ، فقد سمعوا ما تقوم عليهم به حجة الله البالغة ، فهذا طريق عظيم من طرق العلم قد انسد عليهم ، وهو طريق المسموعات المتعلقة بالخير .
وقوله : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ } أي : يسمعون{[14243]} كلامك الحسن ، والقرآن العظيم ، والأحاديث الصحيحة الفصيحة{[14244]} النافعة في القلوب والأبدان والأديان ، وفي هذا كفاية عظيمة ، ولكن ليس ذلك إليك ولا إليهم ، فإنك لا تقدر على إسماع الأصم - وهو الأطرش - فكذلك لا تقدر على هداية هؤلاء ، إلا أن يشاء الله .
لما سبق تقسيم المشركين بالنسبة إلى اعتقادهم في الأصنام إلى من يتبع الظن ومن يوقن بأن الأصنام لا شيء ، وتقسيمهم بالنسبة لتصديق القرآن إلى قسمين : من يؤمن بصدقه ومن لا يؤمن بصدقه ؛ كمُل في هذه الآية تقسيمهم بالنسبة للتلقي من النبي صلى الله عليه وسلم إلى قسمين : قِسم يحضرون مجلسه ويستمعون إلى كلامه ، وقسم لا يحضرون مجلسه وإنما يتوسمونه وينظرون سمته . وفي كلا الحالين مسلك عظيم إلى الهدى لو كانوا مهتدين ؛ فإن سماع كلام النبي وإرشادِه ينير عقول القابلين للهداية ، فلا جرم أن كان استمرار المشركين على كفرهم مع سماعهم كلام النبي أو رؤية هديه مؤذناً ببلوغهم الغاية في الضلالة مَيئوساً من نفوذ الحق إليهم ، وليس ذلك لقصور كلامه عن قوة الإبلاغ إلى الاهتداء ، كما أن التوسم في سمته الشريف ودلائل نبوءته الواضحة في جميع أحواله كاف في إقبال النفس عليه بشراشرها ، فما عُدم انتفاع الكفار الذين يعاينون ذاته الشريفة بمعاينتها إلا لشدة بغضهم إياه وحسدهم ، وقد أفاد سياق الكلام أنهم يستمعون إليه وينظرون إليه ولا ينتفعون بذلك من جهة أن المستمعين إليه والناظرين إليه هنا استمروا على الكفر كما دل عليه قوله : { وَمِنْهُمْ } في الموضعين ، فطويت جملة : ولا ينتفعون أو نحوها لِلإيجاز بدلالة التقسيم . وجيء بالفعل المضارع دون اسم الفاعل للدلالة على تكرر الاستماع والنظر . والحرمان من الاهتداء مع ذلك التكرر أعجب .
فجملة : { أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ } تفريع على جملة : { مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ } مع ما طوي فيها . وفي هذا التفريع بيان لسبب عدم انتفاعهم بسماع كلام النبي صلى الله عليه وسلم وتسلية له وتعليم للمسلمين ، فقُربت إليهم هذه الحالة الغريبة بأن أولئك المستمعين بمنزلة صُم لا يعقلون في أنهم حُرموا التأثر بما يسمعون من الكلام فساووا الصم الذين لا يعقلون في ذلك ، وهذه استعارة مصرحة إذ جعلهم نفس الصم .
وبُني على ذلك استفهام عن التمكن من إسماع هؤلاء الصم وهدي هؤلاء العمي مع أنهم قد ضموا إلى صَممهم عدم العقل وضموا إلى عَماهم عدم التبصر . وهذان الاستفهامان مستعملان في التعجيب من حالهم إذ يستمعون إلى دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعقلونها ، وإذ ينظرون أعماله وسِيرته ولا يهتدون بها ، فليس في هذين الاستفهامين معنى الإنكار على محاولة النبي إبلاغهم وهديهم لأن المقام ينبُو عن ذلك .
وهذه المعاني المجازية تختلف باختلاف المقام والقرائن ، فلذلك لم يكن الاستفهامان إنكاراً ، ولذلك لا يتوهم إشكال بأن موقع ( لو ) الوصلية هنا بعدما هو بمعنى النفي بحيث تنتقض المبالغة التي اجتلبت لها ( لو ) الوصلية ، بل المعنى بالعكس .
وفي هذين الاستفهامين ترشيح لاستعارة الصم والعمي لهؤلاء الكافرين ، أي أن الله لما خلق نفوسهم مفطورة على المكابرة والعناد وبغضاء من أنعم الله عليه وحسده كانت هاته الخصال حوائل بينهم وبين التأثر بالمسموعات والمبصرات فجيء بصيغة الاستفهام التعجيبي المشتملة على تقَوّي الخبر بتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي بقوله : { أفأنت تسمع } وقوله : { أفأنت تهدي } دون أن يقال : { أتسمع الصم } و { أتهدي العمي } ، فكان هذا التعجيب مؤكداً مقوى .
و ( لو ) في قوله : { ولو كانوا لا يعقلون } وقوله : { ولو كانوا لا يبصرون } ، وصلية دالة على المبالغة في الأحوال ، وهي التي يكون الذي بعدها أقصى ما يعلق به الغرض . ولذلك يقدرون لتفسير معناها جملة قبل جملة ( لو ) مضمونها ضِد الجملة التي دخلت عليها ( لو ) ، فيقال هنا : أفأنت تسمع الصم لَوْ كانوا يعقلون بل ولو كانوا لا يعقلون .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.