قوله تعالى : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ } الآية .
لمَّا قسَّم الكفار في الآية الأولى إلى : " مَنْ يُؤمن ، ومن لا يُؤمن ، قسَّم من لا يؤمن ههنا إلى قسمين : منهم من يكُون في نهاية البغض والعداوة ، ومنهم من لا يكون كذلك ، فوصف ههنا القسم الأوَّل ، فقال : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ } مع أنَّه يكون كالأصمِّ ، من حيثُ إنَّه لا ينتفع ألبتَّة بذلك الكلام ، فإنَّ الإنسانَ إذا قوي بغضه لإنسانٍ آخر ، كان مُعرضاً عن سماع كلامه ، ولا يلتفتُ إليه ، كما أنَّ الصَّمَمَ في الأذن يمنع إدراك الصوت ، والعمى في العين يمنع إدراك البصر ، فكذا البغضُ الشديد يمنع من الوُقُوف على محاسن كلامه ، ويمنع الوقوف على محاسن من يعاديه .
قوله : " مَّن يَسْتمِعُونَ " : مبتدأ ، وخبره الجارُّ قبله ، وأعاد الضمير جمعاً ؛ مراعاة لمعنى " مَنْ " ، والأكثر مراعاة لفظه ، كقوله : { وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ } [ يونس : 43 ] .
قال ابن عطيَّة : " جاء ينظرُ على لفظ " مَنْ " ، وإذا جاء على لفظها ، فجائزٌ أن يعطف عليه آخرٌ على المعنى ، وإذا جاء أولاً على معناها ، فلا يجوز أن يعطف بآخر على اللفظ ؛ لأنَّ الكلام يُلبسُ حينئذٍ " .
قال أبو حيَّان{[18464]} : " وليس كما قال ، بل يجُوزُ أن تراعي المعنى أولاً ، فتعيدَ الضَّميرَ على حسبِ ما تريد به من المعنى : من تأنيثٍ ، وتثنيةٍ ، وجمع ، ثم تراعي اللفظ فتعيد الضمير مفرداً مذكراً ، وفي ذلك تفصيل تقدم أول البقرة [ البقرة8 ] .
أخبر - تعالى - في الآية أنَّ الإيمان ، والتَّوفيق به لا بغيره ، فقال : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ } بأسماعهم الظاهرة ، ولا ينفعهم ، { أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم } يريد : صمم القلب { وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ } : بعينه الظاهرة ولا ينفعه ، { أَفَأَنْتَ تَهْدِي العمي } يريد : عَمَى القلب ، { وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ } وهذه التَّسلية من الله - عزَّ وجلَّ - لنبيِّه - عليه الصلاة والسلام - يقول : إنَّك لا تقدر أن تسمع من سلبته السَّمع ، ولا أن تَهْدِي من سلبته البصر ، ولا أن توفق للإيمان من حكمتُ عليه بأنَّه لا يُؤمن . والمقصُود : إعلامُ الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - : بأنهم قد بلغُوا في معرض العقل ، إلى حيث لا يقبلُون العلاج ، فالطَّبيبُ إذا رأى مريضاً لا يقبل العلاج ، أعرض عنهُ ، ولم يستوحشْ من عدم قُبُولهِ للعلاج ، فكذلك أنت لا تستوحش من حالِ هؤلاءِ الكُفَّار .
احتج أهلُ السُّنَّة بهذه الآية : على أنَّ أفعالَ العباد من الله ؛ لأنَّ الآية دلَّت على : أنَّ قلوب الكفار بالنسبة إلى الإيمان ، كالأصمِّ بالنسبة إلى استماع الكلام . وكالأعْمَى بالنسبة إلى نظر الأشياء ، فكما أنَّ هذا ممتنعٌ ؛ فكذلك حصول الإيمان في القلب ليس باختيارِ الإنسان ، واحتجَّ المعتزلةُ على صحَّة قولهم ، بقوله - تعالى - بعدها : { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئاً ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ يونس : 44 ] فدلَّ ذلك على : أنَّه - تعالى ما ألْجَأ أحداً إلى فِعْل القبائح ، ولكنَّهم يقدمُون عليها باختيارهم ، وأجاب الواحدي : " بأنَّه - تعالى - إنَّما نفى الظلم عن نفسه ؛ لأنَّه يتصرف في ملك نفسه ، ومن كان كذلك ، لم يكن ظالماً ، وإنَّما قال : { ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } لأنَّ الفعل منسوبٌ إليهم بسبب الكسب " .
احتجَّ ابن قتيبة بهذه الآية ، على أنَّ السَّمع أفضلُ من البصر ؛ لأنَّه - تعالى - قرن بذهاب السَّمع ، ذهاب العقل ، ولم يقرن بذهاب النَّظَر ، إلاَّ ذهاب البصر ، فكان السَّمْع أفضل من البصر ، وردَّه ابن الأنباري : بأنَّ الذي نفاهُ اللهُ من السَّمْع ، بمنزلة ما نفاهُ من البصر ؛ لأنَّه - تعالى - أراد إبصار القلوب ، ولم يُرِدْ إبصار العُيُون ، والذي يُبْصِره القلب ، هو الذي يعقله .
واحتجَّ ابن قتيبة بحجة أخرى ، فقال : كُلَّما ذكر الله السَّمع في القرآن ، فإنَّه غالباً يقدم السَّمع على البصر ، فدل على أنَّ السَّمع أفضلُ من البصر ، وذكر بعضُ النَّاس في تفضيل السمع على البصر وجوهاً أخر .
أحدها : أنَّ العمى قد وقع في حقِّ الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ، وأمَّا الصَّمم فغير جائز عليهم ؛ لأنَّه يخلُّ بأداء الرِّسالة ؛ لأنَّه إذا لم يسمع كلام السائلين ، تعذَّر عليه الجواب ، فيعجزُ عن تبليغ الشَّرائع .
وثانيها : أنَّ القوة السامعة تدرك المسموع من جميع الجهات ، والقوة الباصرة لا تدرك المرئي إلاَّ من الجهة المقابلة وحدها .
وثالثها : أنَّ الإنسانَ إنَّما يستفيد العلم من أستاذه ، وذلك لا يمكن إلاَّ بقوَّة السمع ، ولا يتوقفُ على قوَّة البصر ، فكان السَّمعُ أفضل .
ورابعها : أنَّه - تعالى - قال : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيدٌ } [ ق : 37 ] ، والمراد بالقلب ههنا : العقل ، فجعل السَّمع قريناً للعقل ، ويؤيِّده قوله - تعالى - : { وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا في أَصْحَابِ السعير } [ الملك : 10 ] فجعلوا السَّمع سبباً للخلاص من عذاب السَّعير .
وخامسها : أنَّ المعنى الذي به يمتاز الإنسان عن سائر الحيوانات ؛ هو النُّطق والكلام ، وإنما ينتفع بذلك القوَّة السَّامعة ، فمتعلق السمع : النطق الذي شرف الإنسان به ، ومتعلَّق البصر : إدراك الألوان والأشكال ، وذلك أمر يشترك فيه النَّاس ، وسائر الحيوانات ؛ فوجب أن يكون السمع أفضل من البصر .
وسادسها : أنَّ الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - يراهم النَّاس ، ويسمعُون كلامهم ؛ فنُبوَّتهم ما حصلت بما معهم من الصِّفات المرئيةَّ ، وإنما حصلت بما معهم من الأقوال المسموعة ، وهو تبليغ الشرائع والأحكام ؛ فوجب أن يكون المسموع أفضل من المرئيِّ ؛ فلزم كون السمع أفضل من البصر .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.