اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَمِنۡهُم مَّن يَسۡتَمِعُونَ إِلَيۡكَۚ أَفَأَنتَ تُسۡمِعُ ٱلصُّمَّ وَلَوۡ كَانُواْ لَا يَعۡقِلُونَ} (42)

قوله تعالى : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ } الآية .

لمَّا قسَّم الكفار في الآية الأولى إلى : " مَنْ يُؤمن ، ومن لا يُؤمن ، قسَّم من لا يؤمن ههنا إلى قسمين : منهم من يكُون في نهاية البغض والعداوة ، ومنهم من لا يكون كذلك ، فوصف ههنا القسم الأوَّل ، فقال : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ } مع أنَّه يكون كالأصمِّ ، من حيثُ إنَّه لا ينتفع ألبتَّة بذلك الكلام ، فإنَّ الإنسانَ إذا قوي بغضه لإنسانٍ آخر ، كان مُعرضاً عن سماع كلامه ، ولا يلتفتُ إليه ، كما أنَّ الصَّمَمَ في الأذن يمنع إدراك الصوت ، والعمى في العين يمنع إدراك البصر ، فكذا البغضُ الشديد يمنع من الوُقُوف على محاسن كلامه ، ويمنع الوقوف على محاسن من يعاديه .

قوله : " مَّن يَسْتمِعُونَ " : مبتدأ ، وخبره الجارُّ قبله ، وأعاد الضمير جمعاً ؛ مراعاة لمعنى " مَنْ " ، والأكثر مراعاة لفظه ، كقوله : { وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ } [ يونس : 43 ] .

قال ابن عطيَّة : " جاء ينظرُ على لفظ " مَنْ " ، وإذا جاء على لفظها ، فجائزٌ أن يعطف عليه آخرٌ على المعنى ، وإذا جاء أولاً على معناها ، فلا يجوز أن يعطف بآخر على اللفظ ؛ لأنَّ الكلام يُلبسُ حينئذٍ " .

قال أبو حيَّان{[18464]} : " وليس كما قال ، بل يجُوزُ أن تراعي المعنى أولاً ، فتعيدَ الضَّميرَ على حسبِ ما تريد به من المعنى : من تأنيثٍ ، وتثنيةٍ ، وجمع ، ثم تراعي اللفظ فتعيد الضمير مفرداً مذكراً ، وفي ذلك تفصيل تقدم أول البقرة [ البقرة8 ] .

فصل

أخبر - تعالى - في الآية أنَّ الإيمان ، والتَّوفيق به لا بغيره ، فقال : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ } بأسماعهم الظاهرة ، ولا ينفعهم ، { أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم } يريد : صمم القلب { وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ } : بعينه الظاهرة ولا ينفعه ، { أَفَأَنْتَ تَهْدِي العمي } يريد : عَمَى القلب ، { وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ } وهذه التَّسلية من الله - عزَّ وجلَّ - لنبيِّه - عليه الصلاة والسلام - يقول : إنَّك لا تقدر أن تسمع من سلبته السَّمع ، ولا أن تَهْدِي من سلبته البصر ، ولا أن توفق للإيمان من حكمتُ عليه بأنَّه لا يُؤمن . والمقصُود : إعلامُ الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - : بأنهم قد بلغُوا في معرض العقل ، إلى حيث لا يقبلُون العلاج ، فالطَّبيبُ إذا رأى مريضاً لا يقبل العلاج ، أعرض عنهُ ، ولم يستوحشْ من عدم قُبُولهِ للعلاج ، فكذلك أنت لا تستوحش من حالِ هؤلاءِ الكُفَّار .

فصل

احتج أهلُ السُّنَّة بهذه الآية : على أنَّ أفعالَ العباد من الله ؛ لأنَّ الآية دلَّت على : أنَّ قلوب الكفار بالنسبة إلى الإيمان ، كالأصمِّ بالنسبة إلى استماع الكلام . وكالأعْمَى بالنسبة إلى نظر الأشياء ، فكما أنَّ هذا ممتنعٌ ؛ فكذلك حصول الإيمان في القلب ليس باختيارِ الإنسان ، واحتجَّ المعتزلةُ على صحَّة قولهم ، بقوله - تعالى - بعدها : { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئاً ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ يونس : 44 ] فدلَّ ذلك على : أنَّه - تعالى ما ألْجَأ أحداً إلى فِعْل القبائح ، ولكنَّهم يقدمُون عليها باختيارهم ، وأجاب الواحدي : " بأنَّه - تعالى - إنَّما نفى الظلم عن نفسه ؛ لأنَّه يتصرف في ملك نفسه ، ومن كان كذلك ، لم يكن ظالماً ، وإنَّما قال : { ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } لأنَّ الفعل منسوبٌ إليهم بسبب الكسب " .

فصل

احتجَّ ابن قتيبة بهذه الآية ، على أنَّ السَّمع أفضلُ من البصر ؛ لأنَّه - تعالى - قرن بذهاب السَّمع ، ذهاب العقل ، ولم يقرن بذهاب النَّظَر ، إلاَّ ذهاب البصر ، فكان السَّمْع أفضل من البصر ، وردَّه ابن الأنباري : بأنَّ الذي نفاهُ اللهُ من السَّمْع ، بمنزلة ما نفاهُ من البصر ؛ لأنَّه - تعالى - أراد إبصار القلوب ، ولم يُرِدْ إبصار العُيُون ، والذي يُبْصِره القلب ، هو الذي يعقله .

واحتجَّ ابن قتيبة بحجة أخرى ، فقال : كُلَّما ذكر الله السَّمع في القرآن ، فإنَّه غالباً يقدم السَّمع على البصر ، فدل على أنَّ السَّمع أفضلُ من البصر ، وذكر بعضُ النَّاس في تفضيل السمع على البصر وجوهاً أخر .

أحدها : أنَّ العمى قد وقع في حقِّ الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ، وأمَّا الصَّمم فغير جائز عليهم ؛ لأنَّه يخلُّ بأداء الرِّسالة ؛ لأنَّه إذا لم يسمع كلام السائلين ، تعذَّر عليه الجواب ، فيعجزُ عن تبليغ الشَّرائع .

وثانيها : أنَّ القوة السامعة تدرك المسموع من جميع الجهات ، والقوة الباصرة لا تدرك المرئي إلاَّ من الجهة المقابلة وحدها .

وثالثها : أنَّ الإنسانَ إنَّما يستفيد العلم من أستاذه ، وذلك لا يمكن إلاَّ بقوَّة السمع ، ولا يتوقفُ على قوَّة البصر ، فكان السَّمعُ أفضل .

ورابعها : أنَّه - تعالى - قال : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيدٌ } [ ق : 37 ] ، والمراد بالقلب ههنا : العقل ، فجعل السَّمع قريناً للعقل ، ويؤيِّده قوله - تعالى - : { وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا في أَصْحَابِ السعير } [ الملك : 10 ] فجعلوا السَّمع سبباً للخلاص من عذاب السَّعير .

وخامسها : أنَّ المعنى الذي به يمتاز الإنسان عن سائر الحيوانات ؛ هو النُّطق والكلام ، وإنما ينتفع بذلك القوَّة السَّامعة ، فمتعلق السمع : النطق الذي شرف الإنسان به ، ومتعلَّق البصر : إدراك الألوان والأشكال ، وذلك أمر يشترك فيه النَّاس ، وسائر الحيوانات ؛ فوجب أن يكون السمع أفضل من البصر .

وسادسها : أنَّ الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - يراهم النَّاس ، ويسمعُون كلامهم ؛ فنُبوَّتهم ما حصلت بما معهم من الصِّفات المرئيةَّ ، وإنما حصلت بما معهم من الأقوال المسموعة ، وهو تبليغ الشرائع والأحكام ؛ فوجب أن يكون المسموع أفضل من المرئيِّ ؛ فلزم كون السمع أفضل من البصر .


[18464]:ينظر: البحر المحيط 5/162.