ثم قال تعالى : { تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق } أي : بالصدق الذي لا ريب فيها المتضمن للاعتبار والاستبصار وبيان حقائق الأمور { وإنك لمن المرسلين } فهذه شهادة من الله لرسوله برسالته التي من جملة أدلتها ما قصه الله عليه من أخبار الأمم السالفين والأنبياء وأتباعهم وأعدائهم التي لولا خبر الله إياه لما كان عنده بذلك علم بل لم يكن في قومه من عنده شيء من هذه الأمور ، فدل أنه رسول الله حقا ونبيه صدقا الذي بعثه بالحق ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون .
وفي هذه القصة من الآيات والعبر ما يتذكر به أولو الألباب ، فمنها : أن اجتماع أهل الكلمة والحل والعقد وبحثهم في الطريق الذي تستقيم به أمورهم وفهمه ، ثم العمل به ، أكبر سبب لارتقائهم وحصول مقصودهم ، كما وقع لهؤلاء الملأ حين راجعوا نبيهم في تعيين ملك تجتمع به كلمتهم ويلم متفرقهم ، وتحصل له الطاعة منهم ، ومنها : أن الحق كلما عورض وأوردت عليه الشبه ازداد وضوحا وتميز وحصل به اليقين التام كما جرى لهؤلاء ، لما اعترضوا على استحقاق طالوت للملك أجيبوا بأجوبة حصل بها الإقناع وزوال الشبه والريب . ومنها : أن العلم والرأي : مع القوة المنفذة بهما كمال الولايات ، وبفقدهما أو فقد أحدهما نقصانها وضررها . ومنها : أن الاتكال على النفس سبب الفشل والخذلان ، والاستعانة بالله والصبر والالتجاء إليه سبب النصر ، فالأول كما في قولهم لنبيهم { وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا } فكأنه نتيجة ذلك أنه لما كتب عليهم القتال تولوا ، والثاني في قوله : { ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فهزموهم بإذن الله } ومنها : أن من حكمة الله تعالى تمييز الخبيث من الطيب ، والصادق من الكاذب ، والصابر من الجبان ، وأنه لم يكن ليذر العباد على ما هم عليه من الاختلاط وعدم التمييز . ومنها : أن من رحمته وسننه الجارية أن يدفع ضرر الكفار والمنافقين بالمؤمنين المقاتلين ، وأنه لولا ذلك لفسدت الأرض باستيلاء الكفر وشعائره عليها .
ثم قال تعالى : { تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ } أي : هذه آيات الله التي قصصناها عليك من{[4263]} أمر الذين ذكرناهم بالحق أي : بالواقع الذي كان عليه الأمر ، المطابق لما بأيدي أهل الكتاب من الحق الذي يعلمه علماء بني إسرائيل { وَإِنَّكَ } يا محمد { لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ } وهذا توكيد وتوطئة للقسم .
والإشارة ب " تلك " إلى ما سلف من القصص والأنباء ، وفي هذه القصة بجملتها مثال عظيم للمؤمنين ومعتبر ، وقد كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم معدين( {[8]} ) لحرب الكفار ، فلهم في هذه النازلة معتبر يقتضي تقوية النفوس والثقة بالله وغير ذلك من وجوه العبرة .
الإشارة إلى ما تضمنته القصص الماضية وما فيها من العبر ، ولكن الحكم العالية في قوله : { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض } [ البقرة : 251 ] ، وقد نَزَّلَها منزِلةَ المشاهد لوضوحها وبيانها وجعلت آيات لأنها دلائل على عظم تصرف الله تعالى وعلى سعة علمه .
وقوله : { وإنك لمن المرسلين } خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم تنويهاً بشأنه وتثبيتاً لقلبه ، وتعريضاً بالمنكرين رسالته . وتأكيد الجملة بإنَّ للاهتمام بهذا الخبر ، وجيء بقوله ( من المرسلين ) دون أن يقول : وإنك لرسول الله ، للرد على المنكرين بتذكيرهم أنه ما كان بدْعاً من الرسل ، وأنه أرسله كما أرسل من قبله ، وليس في حاله ما ينقص عن أحوالهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{تلك آيات الله}، يعني القرآن، {نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"تِلْكَ آياتُ اللّهِ": هذه الآيات التي اقتصّ الله فيها أمر الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، وأمر الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى الذين سألوا نبيهم أن يبعث لهم طالوت ملكا وما بعدها من الآيات إلى قوله: "وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ على العالَمِينَ". ويعني بقوله: "آياتُ اللّهِ": حججه وأعلامه وأدلته. يقول الله تعالى ذكره: فهذه الحجج التي أخبرتك بها يا محمد، وأعلمتك من قدرتي على إماتة من هرب من الموت في ساعة واحدة وهم ألوف، وإحيائي إياهم بعد ذلك، وتمليكي طالوت أمر بني إسرائيل... وصرفي ملكه إلى داود لطاعته إياي، ونصرتي أصحاب طالوت، مع قلة عددهم، وضعف شوكتهم على جالوت وجنوده، مع كثرة عددهم، وشدة بطشهم، حُجَج على من جحد نعمتي، وخالف أمري، وكفر برسولي من أهل الكتابين التوراة والإنجيل، العالمين بما اقتصصت عليك من الأنباء الخفية، التي يعلمون أنها من عندي لم تتخرّصها ولم تتقوّلها أنت يا محمد، لأنك أميّ، ولست ممن قرأ الكتب، فيلتبس عليهم أمرك، ويدّعوا أنك قرأت ذلك فعلمته من بعض أسفارهم، ولكنها حُجَجي عليهم أتلوها عليك يا محمد بالحقّ اليقين كما كان، لا زيادة فيه، ولا تحريف، ولا تغيير شيء منه عما كان. وإنّكَ يا محمد لمن المُرْسَلين يقول: إنك لمرسل متبع في طاعتي، وإيثار مرضاتي على هواك، فسالك في ذلك من أمرك سبيل من قَبْلك من رسلي الذين أقاموا على أمري، وآثروا رضاي على هواهم، ولم تغيرهم الأهواء، ومطامع الدنيا، على ما عندي لأهل ولايتي، ولكنك مؤثر أمري كما آثره المرسلون الذين قبلك.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين}؛ يحتمل قوله: {آيات الله} ما ذكره من قتل داوود جالوت... مع ضعف داوود وقوة جالوت... ويحتمل ما ذكر من قيام القليل للكثير لأنه قيل... وذلك من الآيات. ويحتمل جميع ما قص الله عليه في القرآن من خبر الأمم السالفة، والله أعلم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لم يكن في علمك ولا في وسع احتيالك الوقوف على هذه الغائبات من الكائنات التي سلفت، وإنما وقَفْتَ عليها بتعريفٍ من قِبَلِ الله سبحانه.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
في هذه القصة بجملتها مثال عظيم للمؤمنين ومعتبر، وقد كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم معدين لحرب الكفار، فلهم في هذه النازلة معتبر يقتضي تقوية النفوس والثقة بالله وغير ذلك من وجوه العبرة.
أحدها: أن المراد من ذكر هذه القصص أن يعتبر بها محمد صلى الله عليه وسلم، وتعتبر بها أمته في احتمال الشدائد في الجهاد، كما احتملها المؤمنون في الأمم المتقدمة.
وثانيها: {بالحق} أي باليقين الذي لا يشك فيه أهل الكتاب، لأنه في كتبهم، كذلك من غير تفاوت أصلا.
وثالثها: إنا أنزلنا هذه الآيات على وجه تكون دالة في نبوتك بسبب ما فيها من الفصاحة والبلاغة.
ورابعها: {تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق} أي يجب أن يعلم أن نزول هذه الآيات عليك من قبل الله تعالى، وليس بسبب إلقاء الشياطين، ولا بسبب تحريف الكهنة والسحرة...
ثم قال: {وإنك لمن المرسلين} وإنما ذكر هذا عقيب ما تقدم لوجوه
أحدها: أنك أخبرت عن هذه الأقاصيص من غير تعلم ولا دراسة، وذلك يدل على أنه عليه الصلاة والسلام إنما ذكرها وعرفها بسبب الوحي من الله تعالى. وثانيها: أنك قد عرفت بهذه الآيات ما جرى على الأنبياء عليهم السلام في بني إسرائيل من الخوف عليهم والرد لقولهم، فلا يعظمن عليك كفر من كفر بك، وخلاف من خالف عليك، لأنك مثلهم، وإنما بعث الكل لتأدية الرسالة ولامتثال الأمر على سبيل الاختيار والتطوع، لا على سبيل الإكراه، فلا عتب عليك في خلافهم وكفرهم والوبال في ذلك يرجع عليهم فيكون تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم فيما يظهر من الكفار والمنافقين، ويكون قوله: {وإنك لمن المرسلين} كالتنبيه على ذلك...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما علت هذه الآيات عن أقصى ما يعرفه البصراء البلغاء من الغايات، وتجاوزت إلى حد تعجز العقول عن مناله، وتضاءل نوافذ الأفهام عن الإتيان بشيء من مثاله، نبه سبحانه وتعالى على ذلك بقوله: {تلك} أي الآيات المعجزات لمن شمخت أنوفهم، وتعالت في مراتب الكبر هممهم ونفوسهم؛ والإشارة إلى ما ذكر في هذه السورة و لا سيما هذه القصة من أخبار بني إسرائيل والعبارة عن ذلك في هذه الأساليب الباهرة والأفانين المعجزة القاهرة {آيات الله} أي الذي علت عظمته وتمت قدرته وقوته.
ولما كانت الجلالة من حيث إنها اسم للذات جامعة لصفات الكمال والجمال ونعوت الجلال لفت القول إلى مظهر العظمة إشارة إلى إعجازهم عن هذا النظم بنعوت الكبر والتعالي فقال: {نتلوها} أي ننزلها شيئاً في إثر شيء بما لنا من العظمة {عليك} تثبيتاً لدعائم الكتاب الذي هو الهدى، وتشييداً لقواعده {بالحق} قال الإمام سعد الدين التفتازاني في شرح العقائد: الحق: الحكم المطابق للواقع، يطلق على الأقوال والعقائد والأديان والمذاهب باعتبار اشتمالها على ذلك ويقابله الباطل. وأما الصدق فقد شاع في الأقوال خاصة ويقابله الكذب، وقد يفرق بينهما بأن المطابقة تعتبر في الحق من جانب الواقع. وفي الصدق من جانب الحكم؛ فمعنى صدق الحكم مطابقته الواقع. ومعنى حقيته مطابقة الواقع إياه...
فمعنى الآية على هذا: إنا عالمون بالواقع من هذه الآيات فأتينا بعبارة يطابقها ذلك الواقع لا يزيد عنها ولا ينقص، فتلك العبارة ثابتة ثبات الواقع لا يتمكن منصف عالم من إنكارها ولا إنكار شيء منها، كما لا يتمكن من إنكار الواقع المعلوم وقوعه، ويكون الخبر عنها صدقاً لأنه مطابق لذلك الواقع بغير زيادة ولا نقص؛ والحاصل أن الحق يعتبر من جانب المخبر، فإنه يأتي بعبارة يساويها الواقع فتكون حقاً، وأن الصدق يعتبر من جانب السامع، فإنه ينظر إلى الخبر، فإن وجده مطابقاً للواقع قال: هذا صدق، وليس ببعيد أن يكون من الشواهد على ذلك هذه الآية وقوله سبحانه وتعالى {والذي جاء بالصدق وصدق به} [الزمر: 33] وقوله {قال فالحق والحق أقول} [ص: 84] {بل جاء بالحق وصدق المرسلين} [الصافات: 37] و {هو الحق مصدقاً لما بين يديه} [فاطر: 31]، وكذا {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق} [الحجر: 85] أي أن هذا الفعل وهو خلقنا لها لسنا متعدين فيه، وهذا الواقع يطابق خلقها لا يزيد عليه بمعنى أنه كان علينا أن نزيد فيها شيئاً وليس لنا الاقتصار على ما وجد ولا ننقص عنه بمعنى أنه كان علينا أن نجعلها ناقصة عما هي عليه ولم يكن لنا إتمامها هكذا؛ أو بالحق الذي هو قدرتنا واختيارنا أو بسبب الحق أي إقامته وإثباته وإبطال الباطل ونفيه، وقوله (وآتيناك بالحق وإنا لصادقون} [الحجر: 64] أي أتيناك بالخبر بعذابهم وهو ثابت، لأن مضمونه إذا وقع فنسبتَه إلى الخبر علمت مطابقته له أي مطابقة الواقع إياه وإخبارنا عنه على ما هو به فنحن صادقون فيه، أي نسبنا وقوع العذاب إليهم نسبة تطابق الواقع فإذا وقع نظرت إلى إخبارنا فرأيته مطابقاً له فعلمت صدقنا فيه؛ والذي لا يدع في ذلك لبساً قوله سبحانه وتعالى حكاية عن يوسف عليه الصلاة والسلام {قد جعلها ربي حقاً} [يوسف: 100] أتى بمطابقة الواقع لتأويلها، وأما صدقه صلى الله عليه وسلم فهو بنسبة الخبر إلى الواقع وهو أنه رأى ما أخبر به وذلك موجود من حين إخباره صلى الله عليه وسلم فإن خبره كان حين إخباره به مطابقاً للواقع، وأما صدق الرؤيا فباعتبار أنه كان لها واقع طابقه تأويلها... ولعلك إذا اعتبرت آيات الكتاب الناطق بالصواب وجدتها كلها على هذا الأسلوب -والله سبحانه وتعالى الموفق.
ولما ثبت أن التلاوة عليه صلى الله عليه وسلم حق قال تعالى: {وإنك} أي والحال أنك {لمن المرسلين} بما دلت هذه الآيات عليه من علمك بها من غير معلم من البشر ثم بإعجازها الباقي على مدى الدهر.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ثم بين أن إيتاء النبي الأمي أمثال هذه القصص من دلائل نبوته فقال: {تلك آيات الله} يشير إلى قصة الذين خرجوا من ديارهم وقصة بني إسرائيل التي بعدها {نتلوها عليك بالحق} فيه تعريض بأن ما يقوله بنو إسرائيل مخالفا لهذا فهو باطل {وإنك لمن المرسلين} إذ لولا الرسالة لما عرفت شيئا من هذه القصص وأنت لم تكن في أزمنة وقوعها ولا تعلمت شيئا من التاريخ ولو تعلمته لجئت بها على النحو الذي عند أهل الكتاب أو غيرهم من القصاصين.
وقد قرر تعالى هذه الحجة على نبوته صلى الله عليه وسلم في سورة القصص بعد ذكر قصة موسى في مدين وذكر نبوته بقوله تعالى: {وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين*ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر، وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين} (القصص: 44- 45)
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وفي هذه القصة من الآيات والعبر ما يتذكر به أولو الألباب،
فمنها: أن اجتماع أهل الكلمة والحل والعقد وبحثهم في الطريق الذي تستقيم به أمورهم وفهمه، ثم العمل به، أكبر سبب لارتقائهم وحصول مقصودهم، كما وقع لهؤلاء الملأ حين راجعوا نبيهم في تعيين ملك تجتمع به كلمتهم ويلم متفرقهم، وتحصل له الطاعة منهم،
ومنها: أن الحق كلما عورض وأوردت عليه الشبه ازداد وضوحا وتميز وحصل به اليقين التام كما جرى لهؤلاء، لما اعترضوا على استحقاق طالوت للملك أجيبوا بأجوبة حصل بها الإقناع وزوال الشبه والريب.
ومنها: أن العلم والرأي: مع القوة المنفذة بهما كمال الولايات، وبفقدهما أو فقد أحدهما نقصانها وضررها.
ومنها: أن الاتكال على النفس سبب الفشل والخذلان، والاستعانة بالله والصبر والالتجاء إليه سبب النصر،
فالأول كما في قولهم لنبيهم {وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا} فكأنه نتيجة ذلك أنه لما كتب عليهم القتال تولوا،
والثاني في قوله: {ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فهزموهم بإذن الله}
ومنها: أن من حكمة الله تعالى تمييز الخبيث من الطيب، والصادق من الكاذب، والصابر من الجبان، وأنه لم يكن ليذر العباد على ما هم عليه من الاختلاط وعدم التمييز. ومنها: أن من رحمته وسننه الجارية أن يدفع ضرر الكفار والمنافقين بالمؤمنين المقاتلين، وأنه لولا ذلك لفسدت الأرض باستيلاء الكفر وشعائره عليها...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وفي النهاية يجيء التعقيب الأخير على القصة:... تلك الآيات العالية المقام البعيدة الغايات {نتلوها عليك}.. الله -سبحانه وتعالى- هو الذي يتلوها وهو أمر هائل عظيم حين يتدبر الإنسان حقيقته العميقة الرهيبة.. {نتلوها عليك بالحق}.. تحمل معها الحق. ويتلوها من يملك حق تلاوتها وتنزيلها، وجعلها دستورا للعباد. وليس هذا الحق لغير الله سبحانه. فكل من يسن للعباد منهجا غيره إنما هو مفتات على حق الله، ظالم لنفسه وللعباد، مدع ما لا يملك، مبطل لا يستحق أن يطاع. فإنما يطاع أمر الله. وأمر من يهتدي بهدى الله.. دون سواه.. {وإنك لمن المرسلين}.. ومن ثم نتلو عليك هذه الآية؛ ونزودك بتجارب البشرية كلها في جميع أعصارها؛ وتجارب الموكب الإيماني كله في جميع مراحله، ونورثك ميراث المرسلين أجمعين.. بهذا ينتهي هذا الدرس القيم الحافل بذخيرة التجارب. وبهذا ينتهي هذا الجزء الذي طوف بالجماعة المسلمة في شتى المجالات وشتى الاتجاهات؛ وهو يربيها ويعدها للدور الخطير، الذي قدره الله لها في الأرض، وجعلها قيمة عليه، وجعلها أمة وسطا تقوم على الناس بهذا المنهج الرباني -إلى آخر الزمان.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
بعد ذكر تلك القصة المرشدة الهادية لكل مستبصر معتبر، بين الله سبحانه أن هذه الآيات المتلوة هي من عند الله وهي تتلى بالحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأنها تتلى على الرسول الكريم وهي معجزته وآية رسالته، وإنما ذلك بعد هذه القصة لما فيها من الدلائل الواضحة البينة التي تثبت رسالة النبي الكريم؛ لأن ذلك القصص الصادق جاء على لسان أمي لا يقرأ ولا يكتب، لم يجلس إلى معلم، ولم يأته علم لا بطريق كتاب يقرأه، لأنه ليس بقارئ، ولا بطريق معلم يعلمه، ولا بتلقين من أي جهة كان التلقين، إذ كان صلى الله عليه وسلم من أمة أمية ليس فيها علم مدون في كتب، ولا علماء يتدارسون، ولم يكن جو علمي ينال منه الأريب بالخلطة والاتصال، ولم يكن محمد صلى الله عليه وسلم في حياته ذا نجعة وأسفار، بل لم ينتقل من مكة إلا مرتين كانت أولاهما وهو غلام، وكانت الثانية وهو يقارب الخامسة والعشرين. فإذا كانت حال النبي كذلك والقصص جاء على ذلك النحو من الأحكام والإرشاد والتعليم وبيان سنن الاجتماع والحكم الأمثل والقيادة الرشيدة مع صدقه في ذاته، فهو دليل على أنه من عند الله.
و قوله تعالى: {نتلوها عليك بالحق} يفيد أمرين:
أولهما: أن القرآن كان يتلى على النبي صلى الله عليه وسلم ويتلقاه بالروح الأمين. وإسناد التلاوة إلى الله العلي القدير مع أن الذي كان يلقي القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم هو جبريل، للإشارة إلى أن تلاوة جبريل هي تلاوة الله فهو رسوله الأمين إلى رسله المكرمين.
الأمر الثاني: أن ما في القرآن حق دائما، أي أمر ثابت لا يقبل التغيير فليس لأحد أن يقول إن القرآن صالح لزمان دون زمان؛ لأنه الحق الثابت المستقر الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فعلى العقول أن تتفهمه وتتدبره ثم تخضع لأحكامه المستقرة الثابتة من غير محاولة للتغيير أو التبديل...
و التلاوة هي القراءة المتتابعة المفسرة الواضحة التي تتصل فيها المعاني وتتسابق فيها الألفاظ بحيث يكون الأداء ممثلا للمعنى مصورا له. وقد قال الراغب في مفرداته إن مادة "تلا "أصلها بمعنى تبع متابعة ليس بينها ما ليس منها، وذلك يكون تارة بالجسم، وتارة بالاقتداء في الحكم ومصدره تلو وتلو، وتارة بالقراءة وتدبر المعنى، ومصدره تلاوة.. ثم قال: "والتلاوة تختص باتباع كتب الله المنزلة تارة بالقراءة، وتارة بالارتسام لما فيها من أمر ونهي وترغيب وترهيب، وهي أخص من القراءة. فكل تلاوة قراءة وليس كل قراءة تلاوة". فالتلاوة خاصة بقراءة كلام الله سبحانه وتعالى بمقتضى التخصيص القرآني.
و قد ختم الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله تعالى: {وإنك لمن المرسلين}. و إن ذلك كالنتيجة؛ لأن الله سبحانه وتعالى يتلو عليه آياته بالحق والصدق، فإن تلك الآيات برهان النبوة ومعجزة الرسالة.
وقد أكد الله سبحانه وتعالى رسالة رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم بثلاثة مؤكدات:
أولها:"إن"، فإنها في أصل معناها للتأكيد، وهو يصحبها في دلالتها دائما.
و ثانيها: "اللام" في قوله تعالى [لمن].
و ثالثها: "الجملة الاسمية"، وإدخاله صلى الله عليه وسلم في عداد المرسلين.
و إن قوله تعالى: {وإنك لمن المرسلين} يدل على أمر آخر، وهو أن إرسال رسول من قبل رب العالمين أمر مقرر ثابت معروف عند أهل العلم فلم تكن رسالة محمد، وهو من البشر، بدعا، ولا أمرا غير مألوف أو معروف فلا يماري في أصل الرسالة إلا جهول، أو جحود. و إن القرآن وحده حقا هو الدلالة على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فهو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{تِلْكَ آيَاتُ اللّه نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} ويختم اللّه هذا الفصل وهذا الجزء، بالإشارة إلى آيات اللّه في الكون وفي الوحي، لتكون دليلاً للإنسان على اللّه الذي يفتح له آفاق الوعي في ما يفتح له من آفاق المعرفة بالحقّ. فلا بُدَّ للإنسان من أن ينفتح عليها ويسير في هداها ليحصل على المصير السعيد.
ثُمَّ يؤكد للنبيّ بعد ذلك أنه من المرسلين، {وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} ليؤكد في نفسه الشعور بالرسالة بعمق من أجل تعميق الشعور بالمسؤولية تجاهها، وليؤكد في نفوس النّاس الشعور الحي بضرورة اتباع الرسول في ما بلغهم وما دعاهم إليه، عندما يعرفون أنها رسالة اللّه على لسان رسول اللّه، ما يجعل طاعته طاعة للّه ومعصيته معصية للّه. والحمد للّه ربّ العالمين.