التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱللَّهِ نَتۡلُوهَا عَلَيۡكَ بِٱلۡحَقِّۚ وَإِنَّكَ لَمِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ} (252)

ثم ختم - سبحانه - قصة هؤلاء القوم من بني إسرائيل بقوله : { تِلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين } .

أي : تلك الآيات التي حدثناك فيها عن قصة أولئك القوم وما جرى لهم هي آيات الله التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها ، ونتلوها عليك يا محمد عن طريق جبريل الأمين تلاوة ملتبسة بالحق الثابت الذي لا يحوم حوله الباطل ، وإنك يا محمد { لَمِنَ المرسلين } الذين أرسلهم الله - تعالى - { بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المشركون } فالإِشارة في قوله : { تِلْكَ آيَاتُ الله } إلى الآيات المتلوة من قوله - تعالى - : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الملإ مِن بني إِسْرَائِيلَ } إلى آخر القصة . وقيل إليها وإلى القصة التي قبلها وهي قصة القوم { الذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الموت } وكانت الإِشارة للبعيد ، لما في ذلك من معنى الاستقصاء للآيات ، ولعلو شأنها ، وكمال معانيها ، والوفاء في مقاصدها .

وأضيفت الآيات إلى الله لأنها جزء من هذا القرآن الذي أنزله - سبحانه - على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ليكون هداية للناس ، وليحملهم على تدبرها والاعتبار بها لأنها من عند الله الذي شرع لهم ما يسعدهم .

وجعل - سبحانه - تلاوة جبريل للقرآن تلاوة له فقال : { نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق } للإِشعار بشرف جبريل ، وأنه ما خرج في تلاوته عما أمره الله به ، فهو رسوله الأمين إلى رساله المكرمين .

وجملة { نَتْلُوهَا عَلَيْكَ } في محل نصب حال من الآيات والعامل فيها معنى الإِشارة .

وقوله : { بالحق } في موضع نصب حال من مفعول نتلوها أي ملتبسة باليقين الذي لا يرتاب فيه عاقل . أو من فاعله أي : نتلوها عليك ملتبسين بالحق والصواب .

وأكد - سبحانه - قوله { لَمِنَ المرسلين } بحرف " إن " وباللام في " لمن " وبالجملة الأسمية ، للرد على من شكك في صدق رسالته صلى الله عليه وسلم ولتسليته عما يقوله الجاحدون في شأنه .

وبعد : فهذه قصة الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى ، وإن فيها لعبرا متعددة ، وعظات متنوعة لقوم يعقلون . من العبر التي تؤخذ منها :

1 - أن الشعور بالظلم والهوان ، والابتلاء بالمحن والهزائم ، والوقوع تحت أيدي المعتدي ، كل ذلك من شأنه أن يصهر النفوس الحرة الكريمة ، وأن يدفعها بقوة إلى الذود عن كرامتها المسلوبة ، وعزتها المغصوبة ، حتى تنال حقها ممن سلبه منها أو تموت دونه ، لأن النفوس الأبية تشعر دائماً بأن الموت مع العزة خير من الحياة مع الذلة . يدل على ذلك قوله - تعالى - : { قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ الله وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا }

2 - أن الناس في كل زمان ومكان ، يلجأون - خصوصاً عندما تنزل بهم الشدائد إلأى من يتوسمون فيهم الخير والصلاح ، لكي يرشدوهم إلى ما يأخذ بيدهم إلى طريق السعادة ، ولكي يهدوهم إلى أفضل السبل التي تنقذهم مما هم فيه من بلاء ، ولكي يختاروا لهم من يقودهم إلى النصر والفلاح . ألا ترى إلى الملأ من بني إسرائيل كيف لجأوا إلى نبي لهم ليقولوا له بعد أن أصابهم من الذل ما أصابهم : { ابعث لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله } إنهم لم يلجأوا إلى زعيم من زعمائهم ، أو إلى أمير من أمرائهم ، وإنما لجأوا إلى نبيهم يبثون إليه شكواهم ، ويطلبون منه أن يختار لهم من يقودهم للقتال في سبيل الله ، لأنهم يرون فيه الأمل المرتجى ، والعقل السليم ، والخلق القويم ، والأسوة الحسنة .

3 - أن القائد يجب ن تتوفر فيه صفتان : قوة العقل ، وقوة الجسم لأنه متى توفرت فيه هاتان الصفتان استطاع أن يقود أتباعه بنجاح ، وأنه قبل أن يلتقى بأعدائه يجب عليه أن يختبر جنده ليعرف مبلغ إيمانهم وقوتهم وطاعتهم وثباتهم وألا يلكفهم بما لا يستطيعونه حتى يحارب أعداءه وهو على بينة من أمره . انظر إلى طالوت كيف اختبر جنده قبل أن يخوض المعركة بأن قال لهم : { إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني إِلاَّ مَنِ اغترف غُرْفَةً بِيَدِهِ } وهكذا القود العقلاء يقدمون على حرب أعدائهم وهم على بصيرة من أمرهم .

4 - إن الفئة القليلة المؤمنة كثيراً ما تنتصر على الفئة الكثيرة الكافرة ؛ لأن المؤمنين الصادقين يحملهم إيمانهم على اليقين بلقاء الله ، وعلى التضحية من أجل إعلاء كلمته ، وعلى الإقدام الذي يرعب الكافرين ، ويخيف الفاسقين ، وصدق الله إذ يقول { كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله والله مَعَ الصابرين } .

5 - أن هزائم الأمم يمكن إزالتها متى توفر لتلك الأمم القادة العقلاء والأقوياء ، والجند الأشداء على أعدائهم ، الرحماء فيما بينهم ، وأن من شأن المؤمنين حقا أنهم مع مباشرتهم للأسباب ، وإحكامهم لكل ما يحتاج إليه القتال ، وإحسانهم لكل وسيلة تعينهم على النصر ، مع كل ذلك لا يغترون ولا يتطاولون بل يعتمدون على - تعالى - اعتماداً تاماً ، ويتجهون إليه بالضراعة والدعاء ويلتمسون منه النصر على أعدائه وأعدائهم انظر إلى الصفوة المؤمنة من جند طاولت ماذا قالت عندما برزت لجالوت وجنوده ، لقد قالت كما حكى القرآن عنها : { قَالُواْ رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصرنا عَلَى القوم الكافرين فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ الله } .

6 - أن من سنن الله في خلقه أنه - سبحانه - جعل الحياة صراعاً دائماً بين الحق والباطل ، ونزاعاً موصولا بين الأخيار والأشرار ، ولولا أن الله - تعالى - يدفع بعض الناس الفاسقين ببعض الناس الصالحين لفسدت الأرض ، لأن الفاسقين لو تركوا من غير أن يدافعوا ويقاوموا لنشروا فسوقهم وفجورهم وطغيانهم في الأرض ، ولكنه - سبحانه - أعطى لعباده الصالحين من القوة والثبات ما جعلهم يقاومون الظالمين ويعملون على نشر الخير والصلاح بين الناس .

7 - أن القصة الكريمة تصور لنا ما جبل عليه بنو إسرائيل من نقض للعهد وكذب في القول { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ } ومن تطاول على أنبيائهم ، وعصيان لأوامرهم ، واعتراض على توجيهاتهم ، وتفضيل للجاه والمال على العقل والعلم { قالوا أنى يَكُونُ لَهُ الملك عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بالملك مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ المال } ومن خور عند الابتلاء والاختبار ، وحماس في ساعة السلم ونكوص في ساعة الجد ، تأمل قوله - تعالى - { فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ والذين آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ } وبعد هذا الحديث الحكيم عن الملإِ من بني إسرائيل من بعد موسى . وبعد أن شهد الله - تعالى - لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بأنه من المرسلين الذين أرسلوا لينصروا الحق ، وليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور ، بعد كل ذلك ، بين الله – تعالى أن الرسل وإن كانوا قد بعثوا جميعاً لهداية البشر إلا أنهم يتفاضلون فيما بينهم فقال - تعالى - :

{ تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا . . . . }