قوله تعالى : { وإذا ما أنزلت سورة } ، فيها عيب المنافقين وتوبيخهم ، { نظر بعضهم إلى بعض } ، يريدون الهرب يقول بعضهم لبعض إشارة ، { هل يراكم من أحد } ، أي : أحد من المؤمنين ، إن قمتم ، فإن لم يرهم أحد خرجوا من المسجد وإن علموا أن أحدا يراهم أقاموا وثبتوا ، { ثم انصرفوا } ، عن الإيمان بها . وقيل : انصرفوا عن مواضعهم التي يسمعون فيها ، { صرف الله قلوبهم } ، عن الإيمان . قال أبو إسحاق الزجاج : أضلهم الله مجازاة على فعلهم ذلك ، { بأنهم قوم لا يفقهون } ، عن الله دينه . قال ابن عباس رضي الله عنهما : { لا تقولوا إذا صليتم انصرفنا من الصلاة فإن قوما انصرفوا فصرف الله قلوبهم ولكن قولوا قد قضينا الصلاة } .
{ 127 } وقوله : { وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ }
يعني : أن المنافقين الذين يحذرون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم ، إذا نزلت سورة ليؤمنوا بها ، ويعملوا بمضمونها { نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ } جازمين على ترك العمل بها ، ينتظرون الفرصة في الاختفاء عن أعين المؤمنين ، ويقولون : { هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا } متسللين ، وانقلبوا معرضين ، فجازاهم اللّه بعقوبة من جنس عملهم ، فكما انصرفوا عن العمل { صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } أي : صدها عن الحق وخذلها .
{ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ } فقها ينفعهم ، فإنهم لو فقهوا ، لكانوا إذا نزلت سورة آمنوا بها ، وانقادوا لأمرها .
والمقصود من هذا بيان شدة نفورهم عن الجهاد وغيره ، من شرائع الإيمان ، كما قال تعالى عنهم : { فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ }
فأما الصورة الحية أو المشهد المتحرك فترسمه الآية الأخيرة ، في شريط متحرك دقيق :
( وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض : هل يراكم من أحد ? ثم انصرفوا . صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون ! ) .
وإننا - حين نتلو الآية - لنستحضر مشهد هؤلاء المنافقين وقد نزلت سورة . فإذا بعضهم ينظر إلى بعض ويغمز غمزة المريب :
ثم تلوح لهم غرة من المؤمنين وانشغال فإذا هم يتسللون على أطراف الأصابع في حذر :
تلاحقهم من العين التي لا تغفل ولا تنشغل دعوة قاصمة تناسب فعلتهم المريبة :
صرفها عن الهدى فإنهم يستحقون أن يظلوا في ضلالهم يعمهون : ( بأنهم قوم لا يفقهون )
عطلوا قلوبهم عن وظيفتها فهم يستحقون !
إنه مشهد كامل حافل بالحركة ترسمه بضع كلمات ، فإذا هو شاخص للعيون كأنها تراه !
{ وإذا ما أُنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض } تغامزوا بالعيون إنكارا لها وسخرية ، أو غيظا لما فيها من عيوبهم . { هل يراكم من أحد } أي يقولون هل يراكم أحد إن قمتم من حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فإن لم يرهم أحد قاموا وإن يرهم أحد أقاموا . { ثم انصرفوا } عن حضرته مخافة الفضيحة . { صرف الله قلوبهم } عن الإيمان وهو يحتمل الأخبار والدعاء . { بأنهم } بسبب أنهم . { قوم لا يفقهون } لسوء فهمهم أو لعدم تدبرهم .
الضمير في قوله { بعضهم } عائد على المنافقين ، والمعنى وإذا ما أنزلت سورة فيها فضيحة أسرارهم { نظر بعضهم إلى بعض } على جهة التقريب ، يفهم من تلك النظرة التقرير : هل معكم من ينقل عنكم ؟ هل يراكم من أحد حين تدبرون أموركم ؟ وقوله تعالى : { ثم انصرفوا } معناه عن طريق الاهتداء . وذلك أنهم حين ما يبين لهم كشف أسرارهم والإعلام بمغيبات أمورهم يقع لهم لا محالة تعجب وتوقف ونظر ، فلو اهتدوا لكان ذلك الوقت مظنة ذلك ، فهم إذ يصممون على الكفر ويرتبكون فيه{[5984]} كأنهم انصرفوا عن تلك الحال التي كانت مظنة النظر الصحيح والاهتداء ، وابتدىء بالفعل المسند إليهم إذ هو تعديد ذنب على ما قد بيناه ، وقوله { صرف الله قلوبهم } يحتمل أن يكون دعاء عليهم ، ويحتمل أن يكون خبراً أي استوجبوا ذلك { بأنهم قوم لا يفقهون } أي لا يفهمون عن الله ولا عن رسوله ، وأسند الطبري في تفسير هذه الآية عن ابن عباس أنه قال : لا تقولوا انصرفنا من الصلاة فإن قوماً انصرفوا فصرف الله قلوبهم ، ولكن قولوا قضينا الصلاة .
قال القاضي أبو محمد : فهذا النظر الذي في هذه الآية هو إيماء ، وحكى الطبري عن بعضهم أنه قال : نظر في هذه الآية في موضع قال .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.