قوله تعالى : { ذرهم } ، يا محمد ، يعني : الذين كفروا ، { يأكلوا } في الدنيا ، { ويتمتعوا } ، من لذاتهم { ويلههم } ، يشغلهم ، { الأمل } ، عن الأخذ بحظهم من الإيمان والطاعة ، { فسوف يعلمون } ، إذا وردوا القيامة وذاقوا وبال ما صنعوا ، وهذا تهديد ووعيد . وقال بعض أهل العلم : { ذرهم } تهديد ، وقوله : { فسوف يعلمون } تهديد آخر ، فمتى يهنأ العيش بين تهديدين . والآية نسختها آية القتال .
ربما . . ولكن حيث لا ينفع التمني ولا تجدي الودادة . . ربما . . وفيها التهديد الخفي ، والاستهزاء الملفوف ؛ وفيها كذلك الحث على انتهاز الفرصة المعروضة للإسلام والنجاة قبل أن تضيع ، ويأتي اليوم الذي يودون فيه لو كانوا مسلمين ؛ فما ينفعهم يومئذ أنهم يودون !
( ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون ) . .
ذرهم فيما هم فيه من حياة حيوانية محضة للأكل والمتاع . لا تأمل فيها ولا تدبر ولا استطلاع . ذرهم في تلك الدوامة : الأمل يلهي والمطامع تغر ، والعمر يمضي والفرصة تضيع . ذرهم فلا تشغل نفسك بهؤلاء الهالكين ، الذين ضلوا في متاهة الأمل الغرور ، يلوح لهم ويشغلهم بالأطماع ، ويملي لهم فيحسبون أن أجلهم ممدود ، وأنهم محصلون ما يطمعون لا يردهم عنه راد ، ولا يمنعهم منه مانع . وأن ليس وراءهم حسيب ؛ وأنهم ناجون في النهاية بما ينالون مما يطعمون !
وصورة الأمل الملهي صورة إنسانية حية . فالأمل البراق ما يزال يخايل لهذا الإنسان ، وهو يجري وراءه ، وينشغل به ، ويستغرق فيه ، حتى يجاوز المنطقة المأمونة ؛ وحتى يغفل عن الله ، وعن القدر ، وعن الأجل ؛ وحتى ينسى أن هنالك واجبا ، وأن هنالك محظورا ؛ بل حتى لينسى أن هنالك إلها ، وأن هنالك موتا ، وأن هناك نشورا .
وهذا هو الأمل القاتل الذي يؤمر الرسول [ ص ] أن يدعهم له . . ( فسوف يعلمون ) . . حيث لا ينفع العلم بعد فوات الأوان . . وهو أمر فيه تهديد لهم ، وفيه كذلك لمسة عنيفة لعلهم يصحون من الأمل الخادع الذي يلهيهم عن المصير المحتوم .
وقوله : { ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا } تهديد لهم شديد ، ووعيد أكيد ، كقوله تعالى : { قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ } [ إبراهيم : 30 ] وقوله : { كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ } [ المرسلات : 46 ] ولهذا قال : { وَيُلْهِهِمُ الأمَلُ } أي : عن التوبة والإنابة ، { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } أي : عاقبة أمرهم .
{ ذرهم } دعهم . { يأكلوا ويتمتّعوا } بدنياهم . { ويُلههم الأمل } ويشغلهم توقعهم لطول الأعمار واستقامة الأحوال عن الاستعداد للمعاد . { فسوف يعلمون } سوء صنيعهم إذا عاينوا جزاءه ، والغرض إقناط الرسول صلى الله عليه وسلم من أرعوائهم وإيذانه بأنهم من أهل الخذلان ، وإن نصحهم يعد اشتغال بما لا طائل تحته ، وفيه إلزام للحجة وتحذير عن ايثار التنعم وما يؤدي إليه طول الأمل .
وقوله : { ذرهم يأكلوا } الآية وعيد وتهديد ، وما فيه من المهادنة منسوخ بآية السيف . وقوله : { فسوف يعلمون } وعيد ثان ، وحكى الطبري عن بعض العلماء أنه قال : الأول في الدنيا ، والثاني في الآخرة ، فكيف تطيب حياة بين هذين الوعيدين ؟
ومعنى قوله : { ويلههم } أي يشغلهم أملهم في الدنيا والتزيد منها عن النظر والإيمان بالله ورسوله .
لما دلّت ( رُبّ ) على التقليل اقتضت أن استمرارهم على غلوائهم هو أكثر حالهم ، وهو الإعراض عما يدعوهم إليه الإسلام من الكمال النفسي ، فبإعراضهم عنه رضوا لأنفسهم بحياة الأنعام ، وهي الاقتصار على اللذات الجسدية ، فخوطب الرسول صلى الله عليه وسلم بما يُعرّض لهم بذلك من أن حياتهم حياة أكل وشرب . وذلك مما يتعيّرون به في مجاري أقوالهم كما في قول الحطيئة :
دَع المكارم لا تنهض لبُغيتها *** واقعُدْ فإنك أنتَ الطاعم الكاسي
وهم منغمسون فيما يتعيّرون به في أعمالهم قال تعالى : { والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم } [ سورة محمد : 12 ] .
و { ذر } أمر لم يسمع له ماض في كلامهم . وهو بمعنى الترك . وتقدم في قوله : { وذر الذين اتّخذوا دينهم لعباً ولهواً } في سورة الأنعام ( 70 ) .
والأمر بتركهم مستعمل في لازمه وهو قلة جدوى الحرص على إصلاحهم . وليس مستعملاً في الإذن بمتاركتهم لأن النبي مأمور بالدوام على دعائهم . قال تعالى : { وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً } إلى قوله : { وذكّر به أن تبسل نفس بما كسبت } [ سورة الأنعام : 70 ] . فما أمره بتركهم إلا وقد أعقبه بأمره بالتذكير بالقرآن ؛ فعلم أن الترك مستعمل في عدم الرجاء في صلاحهم . وهذا كقول كبشة أُخت عمرو بن معد يكرب في قتل أخيها عبد الله تستنهض أخاها عمراً للأخذ بثأره :
وَدَعْ عنك عمرا إن عَمْرا مُسالِم *** وهل بَطن عَمرو غيرُ شِبر لمَطْعَم
وقد يستعمل هذا الفعل وما يراد به كناية عن عدم الاحتياج إلى الإعانة أو عن عدم قبول الوساطة كقوله تعالى : { ذرني ومن خلقت وحيدا } [ سورة المدثر : 11 ] ، وقوله : { وذرني والمكذبين } [ سورة المزمل : 11 ] .
وقد يستعمل في الترك المجازي بتنزيل المخاطب منزلة المتلبّس بالضدّ كقول أبي تمام :
دعوني أنُحْ من قبل نوح الحمائم *** ولا تجعلوني عُرضة للوَائِم
إذ مثل هذا يقال عند اليأس والقنوط عن صلاح المرء .
وقد حذف متعلق الترك لأن الفعل نزل منزلة ما لا يحتاج إلى متعلق ، إذ المعني به ترك الاشتغال بهم والبعد عنهم ، فلذلك عدّي فعل الترك إلى ذواتهم ليدل على اليأس منهم .
و{ يأكلوا } مجزوم بلام الأمر محذوفة كما تقدم بيانه عند قوله تعالى : { قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة } في سورة إبراهيم ( 31 ) . وهو أمر للتوبيخ والتوعد والإنذار بقرينة قوله : { فسوف يعلمون } . وهو كقوله : { كلوا وتمتعوا قليلاً إنكم مجرمون } سورة المرسلات ( 46 ) .
ولا يحسن جعله مجزوماً في جواب ذرهم } لأنهم يأكلون ويتمتعون سواء ترك الرسول صلى الله عليه وسلم دعوتهم أم دعاهم .
والتمتع : الانتفاع بالمتاع . وقد تقدم غير مرة ، منها قوله : { ومتاع إلى حين } في سورة الأعراف ( 24 ) .
وإلهاء الأمل إياهم : هو إنساؤه إياهم ما حقهم أن يتذكروه ؛ بأن يصرفهم تطلب ما لا ينالون عن التفكير في البعث والحياة الآخرة .
و { الأمَلُ } : مصدر . وهو ظن حصول أمر مرغوب في حصوله مع استبعاد حصوله . فهو واسطة بين الرجاء والطمع . ألا ترى إلى قول كعب :
أرجو وآمُل أن تدنو مودتها *** وما إخال لدينا منك تنويل
وتفرع على التعريض التصريح بالوعيد بقوله : { فسوف يعلمون } بأنه مما يستعمل في الوعيد كثيراً حتى صار كالحقيقة . وفيه إشارة إلى أن لإمهالهم أجلاً معلوماً كقوله : { وسوف يعلمون حين يرون العذاب } [ سورة الفرقان : 42 ] .