إنه يذكر أمهات العقيدة وأصولها :
( أن لا تعبدوا إلا الله ) . . فهو توحيد الدينونة والعبودية والاتباع والطاعة .
( إنني لكم منه نذير وبشير ) . . فهي الرسالة ، وما تضمنته من نذارة وبشارة .
( وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه ) . . فهي العودة إلى الله من الشرك والمعصية ، إلى التوحيد والدينونة .
( يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله ) . . فهو الجزاء للتائبين المستغفرين .
( وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير ) . . فهو الوعيد للمتولين .
( إلى الله مرجعكم ) . . فهي الرجعة إلى الله في الدنيا والآخرة .
( وهو على كل شيء قدير ) . . فهي المقدرة المطلقة والسلطان الشامل .
هذا هو الكتاب . أو هو آيات الكتاب . فهذه هي القضايا الهامة التي جاء ليقررها ويقيم عليها بناءه كله بعد تقريرها .
وما كان لدين أن يقوم في الأرض ، وأن يقيم نظاما للبشر ، قبل أن يقرر هذه القواعد .
فتوحيد الدينونة لله وحده هو مفرق الطريق بين الفوضى والنظام في عالم العقيدة ؛ وبين تحرير البشرية من عقال الوهم والخرافة والسلطان الزائف ، أو استعبادها للأرباب المتفرقة ونزواتهم ، وللوسطاء عند الله من خلقه ! وللملوك والرؤساء والحكام الذين يغتصبون أخص خصائص الألوهية - وهي الربوبية والقوامة والسلطان والحاكمية - فيعبدون الناس لربوبيتهم الزائفة المغتصبة .
وما من نظام اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي أو أخلاقي أو دولي ، يمكن أن يقوم على أسس واضحة فاصلة ثابتة ، لا تخضع للهوى والتأويلات المغرضة ، إلا حين تستقر عقيدة التوحيد هكذا بسيطة دقيقة .
وما يمكن أن يتحرر البشر من الذل والخوف والقلق ؛ ويستمتعوا بالكرامة الحقيقة التي أكرمهم بها الله ، إلا حين يتفرد الله سبحانه بالربوبية والقوامة والسلطان والحاكمية ، ويتجرد منها العبيد في كل صورة من الصور .
وما كان الخلاف على مدار التاريخ بين الجاهلية والإسلام ؛ ولا كانت المعركة بين الحق والطاغوت ، على ألوهية الله - سبحانه - للكون ؛ وتصريف أموره في عالم الأسباب والنواميس الكونية : إنما كان الخلاف وكانت المعركة على من يكون هو رب الناس ، الذي يحكمهم بشرعه ، ويصرفهم بأمره ، ويدينهم بطاعته ؟
لقد كان الطواغيت المجرمون في الأرض يغتصبون هذا الحق ويزاولونه في حياة الناس ، ويذلونهم بهذا الاغتصاب لسلطان الله ، ويجعلونهم عبيدا لهم من دون الله . وكانت الرسالات والرسل والدعوات الإسلامية تجاهد دائما لانتزاع هذا السلطان المغتصب من أيدي الطواغيت ورده إلى صاحبه الشرعي . . الله سبحانه .
والله - سبحانه - غني عن العالمين . لا ينقص في ملكه شيئا عصيان العصاة وطغيان الطغاة . ولايزيد في ملكه شيئا طاعة الطائعين وعبادة العابدين . . ولكن البشر - هم أنفسهم - الذين يذلون ويصغرون ويسفلون حين يدينون لغير الله من عباده ؛ وهم الذين يعزون ويكرمون ويستعلون حين يدينون لله وحده ، ويتحررونمن العبودية للعبيد . . ولما كان الله - سبحانه - يريد لعباده العزة والكرامة والاستعلاء فقد أرسل رسله ليردوا الناس إلى عبادة الله وحده . وليخرجوهم من عبادة العبيد . . لخيرهم هم أنفسهم . . والله غني عن العالمين .
إن الحياة البشرية لا تبلغ مستوى الكرامة الذي يريده الله للإنسان إلا بأن يعزم البشر أن يدينوا لله وحده ، وأن يخلعوا من رقابهم نير الدينونة لغير الله . ذلك النير المذل لكرامة الإنسان في أية صورة قد كان !
والدينونة لله وحده تتمثل في ربوبيته للناس وحده . والربوبية تعني القوامة على البشر ، وتصريف حياتهم بشرع وأمر من عند الله ، لا من عند أحد سواه .
وهذا ما يقرر مطلع هذه السورة الكريمة أنه موضوع كتاب الله وفحواه :
( كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير : ألا تعبدوا إلا الله ) . .
وهذا هو معنى العبادة كما يعرفه العرب في لغتهم التي نزل بها كتاب الله الكريم .
والإقرار بالرسالة أساس للتصديق بهذه القضايا التي جاءت الرسالة لتقريرها وكل شك في أن هذا من عند الله ، كفيل بتحطيم احترامها الملزم في عالم الضمير . والذين يظنون أنها من عند محمد - مهما أقروا بعظمة محمد - لا يمكن أن تنال من نفوسهم الاحترام الملزم ، الذي يتحرجون معه أن يتفلتوا منها في الكبير أو الصغير . . إن الشعور بأن هذه العقيدة من عند الله هو الذي يطارد ضمائر العصاة حتى يثوبوا في النهاية إلى الله ، وهو الذي يمسك بضمائر الطائعين ، فلا تتلجلج ولا تتردد ولا تحيد .
كما إن الإقرار بالرسالة هو الذي يجعل هناك ضابطا لما يريده الله من البشر . كي يتلقى البشر في كل ما يتعلق بالدينونة لله من مصدر واحد ، هو هذا المصدر . وكي لا يقوم كل يوم طاغوت مفتر يقول للناس قولا ، ويشرع للناس شرعا ، ثم يزعم أنه شرع الله وأمره ! بينما هو يفتريه من عند نفسه !
وفي كل جاهلية كان يقوم من يشرع الشرائع ، ومن يقرر القيم والتقاليد والعادات . . ثم يقول : هذا من عند الله ! ! !
وما يحسم هذه الفوضى وهذا الاحتيال على الناس باسم الله ، إلا أن يكون هناك مصدر واحد - هو الرسول - لقول الله .
{ أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ } أي : نزل هذا القرآن المحكم المفصل لعبادة{[14463]} الله وحده لا شريك له ، كما قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 25 ] ، قال : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [ النحل : 36 ] .
وقوله : { إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ } {[14464]} أي : إني لكم نذير من العذاب إن خالفتموه ، وبشير بالثواب إن أطعتموه ، كما جاء في الحديث الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد الصفا ، فدعا بطون قريش الأقرب ثم الأقرب ، فاجتمعوا ، فقال{[14465]} يا معشر قريش ، أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا تصبحكم{[14466]} ، ألستم مصدقي ؟ " فقالوا : ما جربنا عليك كذبا . قال : " فإني نذير لكم بين{[14467]} يدي عذاب شديد " {[14468]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَلاّ تَعْبُدُوَاْ إِلاّ اللّهَ إِنّنِي لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ } .
يقول تعالى ذكره : ثم فصّلت بأن لا تعبدوا إلا الله وحده لا شريك له وتخلعوا الاَلهة والأنداد . ثم قال تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد للناس : إنني لكم من عند الله نذير ينذركم عقابه على معاصيه وعبادة الأصنام ، وبشير يبشركم بالجزيل من الثواب على طاعته وإخلاص العبادة والألوهة له .
{ أن لا تعبدوا } { أن } في موضع نصب إما على إضمار فعل وإما على تقدير ب «أن » وإسقاط الخافض ، وقيل على البدل من موضع الآيات ، وهذا معترض ضعيف لأنه موضع للآيات ، وإن نظر موضع الجملة فهو رفع : ويحتمل أن تكون في موضع رفع على تقدير : تفصيله ألا تعبدوا وقيل : على البدل من لفظ الآيات .
وقوله تعالى : { إنني لكم منه نذير وبشير } أي من عقابه وبثوابه : وإذا أطلقت هاتان اللفظتان فالنذارة في المكروه والبشارة في المحبوب وقدم النذير لأن التحذير من النار هو الأهم و { إن } معطوفة على التي قبلها .