ومن ذلك ، أن ينظروا في حال محمد صلى الله عليه وسلم ، ويرمقوا أوصافه وأخلاقه ، لرأوا أمرا مثل الشمس يدلهم على أنه رسول الله حقا ، وأن ما جاء به تنزيل رب العالمين ، لا يليق أن يكون قول البشر{[1220]} بل هو كلام دال على عظمة من تكلم به ، وجلالة أوصافه ، وكمال تربيته لعباده ، وعلوه فوق عباده ، وأيضا ، فإن هذا ظن منهم بما لا يليق بالله وحكمته .
والذي يعين هذا المعنى هو كلمة رسول . أي مرسل به من عند ربه ، وليس شاعرا ولا كاهنا يقوله من عند نفسه . أو بمساعدة رئي أو شيطان . . إنما هو رسول يقول ما يحمله عمن أرسله . ويقرر هذا تقريرا حاسما ما جاء بعده : ( تنزيل من رب العالمين ) . .
والتعقيب : ( قليلا ما تؤمنون ) . . ( قليلا ما تذكرون ) . . مدلولة نفي الإيمان ، ونفي التذكر . وفق تعبيرات اللغة المألوفة . وفي الحديث في وصف رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] " إنه كان يقل اللغو " . أي لا يلغو أصلا . . فقد نفى عنهم أصل الإيمان وأصل التذكر . وإلا فما يقول مؤمن عن الرسول : إنه شاعر ، ولا يقول متذكر متدبر : إنه كاهن . إنما هما الكفر والغفلة ينضحان بهذا القول النكير !
{ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ } فأضافه تارة إلى قول الرسول الملكي ، وتارة إلى الرسول البشري ؛ لأن كلا منهما مبلغ عن الله ما استأمنه عليه من وحيه وكلامه ؛ ولهذا قال : { تَنزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ }
قال الإمام أحمد : حدثنا ابن المغيرة ، حدثنا صفوان ، حدثنا شُرَيح بن عبيد الله قال : قال عمر بن الخطاب : خرجت أتعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن أسلم ، فوجدته قد سبقني إلى المسجد ، فقمت خلفه ، فاستفتح سورة الحاقة ، فجعلت أعجب من تأليف القرآن ، قال : فقلت : هذا والله شاعر كما قالت قريش . قال : فقرأ : { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ } قال : فقلت : كاهن . قال فقرأ : { وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ تَنزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } إلى آخر السورة . قال : فوقع الإسلام في قلبي كل موقع{[29302]} .
فهذا من جملة الأسباب التي جعلها الله تعالى مؤثرة في هداية عمر بن الخطاب ، كما أوردنا كيفية إسلامه في سيرته المفردة ، ولله الحمد{[29303]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { تَنزِيلٌ مّن رّبّ الْعَالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ * لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ } .
يقول تعالى ذكره : ولكنه تَنْزِيلٌ من ربّ العالَمِينَ نزل عليه وَلَوْ تَقَوّلَ عَلَيْنا محمد بَعْضَ الأقاوِيلِ الباطلة ، وتكذب علينا لأَخَذْنا مِنْهُ باليَمِين يقول : لأخذنا منه بالقوّة منا والقدرة ، ثم لقطعنا منه نياط القلب . وإنما يعني بذلك أنه كان يعاجله بالعقوبة ، ولا يؤخره بها .
وقد قيل : إن معنى قوله لاَءَخَذْنَا مِنْهُ باليَمِينِ : لأخذنا منه باليد اليمنى من يديه قالوا : وإنما ذلك مثل ، ومعناه : إنا كنا نذله ونهينه ، ثم نقطع منه بعد ذلك الوتين قالوا : وإنما ذلك كقول ذي السلطان إذا أراد الاستخفاف ببعض من بين يديه لبعض أعوانه ، خذ بيده فأقمه ، وافعل به كذا وكذا قالوا : وكذلك معنى قوله : لأَخَذْنا مِنْهُ باليَمِين : أي لأهناه كالذي يفعل بالذي وصفنا حاله . وبنحو الذي قلنا في معني قوله الوَتِينَ قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني سليمان بن عبد الجبار ، قال : حدثنا محمد بن الصلت ، قال : حدثنا أبو كدينة ، عن عطاء ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس : لَقَطَعْنا مِنْهُ الوَتِينَ قال : نياط القلب .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس بمثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس بمثله .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، قال : قال ابن عباس الوَتِينَ : نِياط القلب .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير بنحوه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، قال : حدثنا سفيان ، عن سعيد بن جبير بمثله .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله ثُمّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الوَتِينَ يقول : عرق القلب .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله ثُمّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الوَتِينَ يعني : عرقا في القلب ، ويقال : هو حبل في القلب .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : الوَتِينَ قال : حبل القلب الذي في الظهر .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ثُمّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الوَتِينَ قال : حبل القلب .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : لَقَطَعْنا مِنْهُ الوَتِينَ وتين القلب : وهو عرق يكون في القلب ، فإذا قطع مات الإنسان .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله ثُمّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الوَتِينَ قال : الوتين : نياط القلب الذي القلب متعلق به ، وإياه عنى الشماخ بن ضرار التغلبي بقوله :
إذَا بَلّغْتِني وحَمَلْتِ رَحْلِى *** عَرَابَةَ فاشْرَقي بدَمِ الوَتِينِ
وقوله : { تنزيل من رب العالمين } خبر ثان عن اسم ( إنّ ) وهو تصريح بعد الكناية .
ولك أن تجعل { تنزيل من رب العالمين } خبر مبتدأ محذوف جرى حذفه على النوع الذي سماه السكاكي بمتابعة الاستعمال في أمثاله وهو كثير في الكلام البليغ ، وتجعلَ الجملة استئنافاً بيانياً لأن القرآن لمَّا وصف بأنه { قول رسول كريم } ونفي عنه أن يكون قول شاعر أو قول كاهن ، ترقَّب السامع معرفة كنهه ، فبُين بأنه منزل من رب العالمين على الرسول الكريم ليقوله للناس ويتلوه عليهم .
و { تنزيل } وصف بالمصدر للمبالغة .
والمعنى : إنه منزل من رب العالمين على الرسول الكريم .
وعبر عن الجلالة بوصف { ربّ العالمين } دون اسمِه العلَم للتنبيه على أنه رب المخاطَبين وربُ الشعراءِ والكهاننِ الذين كانوا بمحل التعظيم والإِعجاب عندهم نظير قول موسى لفرعون { ربُّكم وربُّ آبائكم الأولين } [ الشعراء : 26 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
فأكذبهم الله فقال: بل القرآن {تنزيل من رب العالمين}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ولكنه" تَنْزِيلٌ من ربّ العالَمِينَ "نزل عليه.
اعلم أن نظير هذه الآية قوله في الشعراء: {إنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين} فهو كلام رب العالمين لأنه تنزيله، وهو قول جبريل لأنه نزل به، وهو قول محمد لأنه أنذر الخلق به، فهاهنا أيضا لما قال فيما تقدم: {إنه لقول رسول كريم} أتبعه بقوله: {تنزيل من رب العالمين} حتى يزول الإشكال.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أثبت أنه قول الرسول الذي لا ينطق عن الهوى، ونفى عنه ما قد يلبس من الشعر والكهانة، ولم يذكر ما كانوا يرمونه به من السحر والأضغاث لأنه عناد محض لا يرتاب أحد فيه، وكانت السورة مقصوداً فيها إثبات الحقائق التي قد تخفى، وصفه بما يحقق ما أريد من نسبته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: {تنزيل} أي على وجه التنجيم وأشار إلى إرساله إلى جميع الخلق من أهل السماوات والأرض بقوله: {من رب العالمين} أي موجدهم ومدبرهم بالإحسان إليهم بما يفهم كل منهم من هذا الذكر الذي رباهم به، ورتب سبحانه نظمه على وجه سهله على كل منهم شيئاً يكفي في هدايته البيانية بخلاف الشعر والكهانة فإنه لا يفهمهما إلا قليل من الناس لا جميع العالمين، بل كثير من أكابر العلماء وحذاقهم ربما قرئ على أحد منهم الآن القصيدة من قصائد العرب فلا يفهم المراد منها ولا يتضح له بوجه.
والتنزيل معناه موالاة النزول لأبعاض القرآن، فالقرآن قد أنزل كله ثم بعد ذلك نزله الحق ونزل به جبريل عليه السلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
فالحق تبارك وتعالى يوالي تنزيل القرآن عليهم آية بعد آية، فلعل نجما من نجومه يصادف فراغا وقلبا صافيا من الموجدة على رسول الله فيؤمن...
ومادة نزل وما يشتق منها من إنزال وتنزيل تفيد كلها أنه جاء من جهة العلو إلى جهة أسفل منه، كأنك تتلقى من جهة أعلى منك وأرفع وما دمت تتلقى من جهة أعلى منك، فإياك أن يضل بك الفكر لناحية أخرى.
وهو: {تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (43)} [الحاقة] ولأنه رب العالمين فالكون كله لا يخرج عن حكمه، فليطمئن الناس في الدنيا أن ربهم لن يخلقهم هملا ولا سدى ولم يتركهم، بل لأنه رب أنزل لهم منهجا ليهديهم سبيل الحق.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ويقول سبحانه في آخر آية مورد البحث كتأكيد على هويّة القرآن الربانية: (تنزيل من ربّ العالمين). وبناءً على هذا فإنّ القرآن الكريم ليس بشعر ولا كهانة، وليس هو إنتاج فكر الرّسول، ولا قول جبرائيل.. بل إنّه كلام الله سبحانه، حيث نزل بواسطة الوحي على القلب الطاهر لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وجاء هذا المعنى بعبارات مختلفة إحدى عشرة مرّة في القرآن الكريم.