{ فرت من قسورة } قال مجاهد وقتادة والضحاك : القسورة : جماعة الرماة ، لا واحد لها من لفظها ، وهي رواية عطاء عن ابن عباس . وقال سعيد بن جبير : هم القناص وهي رواية عطية عن ابن عباس . وقال زيد بن أسلم هم رجال أقوياء ، وكل ضخم شديد عند العرب : قسور وقسورة . وعن أبي المتوكل قال : هي لغط القوم وأصواتهم . وروى عكرمة عن ابن عباس قال : هي حبال الصيادين . وقال أبو هريرة : هي الأسد ، وهو قول عطاء والكلبي ، وذلك أن الحمر الوحشية إذا عاينت الأسد هربت ، كذلك هؤلاء المشركين إذا سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن هربوا منه . قال عكرمة : هي ظلمة الليل ، ويقال لسواد أول الليل قسورة .
وأمام هذا الموقف المهين الميئوس منه في الآخرة ، يردهم إلى موقفهم في الفرصة المتاحة لهم في الأرض قبل مواجهة ذلك الموقف ؛ وهم يصدون عنها ويعرضون ، بل يفرون من الهدى والخير ووسائل النجاة المعروضة عليهم فيها ، ويرسم لهم صورة مضحكة تثير السخرية والعجب من أمرهم الغريب :
( فما لهم عن التذكرة معرضين ? كأنهم حمر مستنفرة ، فرت من قسورة ? ) . .
ومشهد حمر الوحش وهي مستنفره تفر في كل اتجاه ، حين تسمع زئير الأسد وتخشاه . . مشهد يعرفه العرب . وهو مشهد عنيف الحركة . مضحك أشد الضحك حين يشبه به الآدميون ! حين يخافون ! فكيف إذا كانوا إنما ينفرون هذا النفار الذي يتحولون به من آدميين إلى حمر ، لا لأنهم خائفون مهددون بل لأن مذكرا يذكرهم بربهم وبمصيرهم ، ويمهد لهم الفرصة ليتقوا ذلك الموقف الزري المهين ، وذلك المصير العصيب الأليم ? !
إنها الريشة المبدعة ترسم هذا المشهد وتسجله في صلب الكون ، تتملاه النفوس ، فتخجل وتستنكف أن تكون فيه ، ويروح النافرون المعرضون أنفسهم يتوارون من الخجل ، ويطامنون من الإعراض والنفار ، مخافة هذا التصوير الحي العنيف !
وقوله : فَرّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ اختلف أهل التأويل في معنى القسورة ، فقال بعضهم : هم الرماة . ذكر من قال ذلك :
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا حفص بن غياث ، عن حجاج ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، في قوله : فَرّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ قال : الرماة .
حدثني ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان وحدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع عن سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي ظبيان ، عن أبي موسى فَرّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ قال : الرماة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد فَرّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ قال : هي الرماة .
قال : ثنا وكيع ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : قَسْوَرَةٍ قال : عصَبة قناص من الرماة . زاد الحارث في حديثه . قال : وقال بعضهم في القسورة : هو الأسد ، وبعضهم : الرماة .
حدثنا هناد بن السريّ ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن سِماك ، عن عكرِمة ، في قوله : فَرّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ قال : القسورة : الرماة ، فقال رجل لعكرِمة : هو الأسد بلسان الحبشة ، فقال عكرِمة : اسم الأسد بلسان الحبشة عنبسة .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا أبو رجاء ، عن عكرِمة ، في قوله فَرّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ قال : الرماة .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن سليمان بن عبد الله السلولي ، عن ابن عباس ، قال : هي الرماة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فَرّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ وهم الرماة القناص .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله فَرّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ قال : قسورة النبّل .
وقال آخرون : هم القُنّاص . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، فَرّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ يعني : رجال القَنْص .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جُبير في هذه الاَية فَرّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ قال : هم القناص .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جُبير قال : هم القناص .
وقال آخرون : هم جماعة الرجال . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة وحدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن شعبة ، عن أبي حمزة ، قال : سألت ابن عباس عن القسورة ، فقال : ما أعلمه بلغة أحد من العرب : الأسد هي عصب الرجال .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، قال : ما أعلمه بلغة أحد من العرب الأسد هي عِصب الرجال .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، قال : سمعت أبي يحدّث ، قال : حدثنا داود ، قال : ثني عباد بن عبد الرحمن مولى بني هاشم ، قال : سئل ابن عباس عن القسورة ، قال : جمع الرجال ، ألم تسمع ما قالت فلانة في الجاهلية :
يا بِنْتَ لُؤَيّ خَيْرَةً لخَيْرَه *** أحْوَالُها في الحَيّ مِثلُ القَسْوَرَهْ
وقال آخرون : هي أصوات الرجال . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن ابن عباس فَرّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ قال : ركز الناس أصواتهم .
قال أبو كريب ، قال سفيان : هَلْ تُحِسّ مِنْهُمْ مِنْ أحَدٍ أوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزا .
وقال آخرون : بل هو الأسد . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن أبي هريرة فَرّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ قال : هو الأسد .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن ابن سيلان ، أن أبا هريرة كان يقول في قول الله : فَرّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ قال : هو الأسد .
حدثني محمد بن معمر ، قال : حدثنا هشام ، عن زيد بن أسلم ، في قول الله : فَرّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ قال : الأسد .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني داود بن قيس عن زيد بن أسلم ، في قول الله : فَرّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ قال : هو الأسد .
حدثني محمد بن خالد بن خداش ، قال ثني سلم بن قتيبة ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن عليّ بن زيد ، عن يوسف بن مهران عن ابن عباس أنه سُئل عن قوله : فَرّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ قال : هو بالعربية : الأسد ، وبالفارسية : شار ، وبالنبطية : أريا ، وبالحبشية : قسورة .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله فَرّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ يقول : الأسد .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا حفص بن غياث ، عن هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن أبي هريرة قال : الأسد .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فَرّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ قال : القسورة : الأسد .
و { قسورة } قيل هو اسم جمع قسْوَر وهو الرامي ، أو هو جمع على خلاف القياس إذ ليس قياس فَعْلَل أن يجمع على فَعْلَلة . وهذا تأويل جمهور المفسرين عن ابن عباس وعكرمة ومجاهد وغيرهما فيكون التشبيه جارياً على مراعاة الحالة المشهورة في كلام العرب .
وقيل : القسورة مُفرد ، وهو الأسد ، وهذا مروي عن أبي هريرة وزيد بن أسلم وقال ابن عباس : إنه الأسد بالحبشية ، فيكون اختلاف قول ابن عباس اختلافاً لفظياً ، وعنه : أنه أنكر أن يكون قَسْور اسمَ الأسد ، فلعله أراد أنه ليس في أصل العربية . وقد عدّه ابن السبكي في الألفاظ الواردة في القرآن بغير لغة العرب في أبيات ذكر فيها ذلك ، قال ابن سيده : القسور الأسد والقسورة كذلك ، أنثوه كما قالوا : أُسامة ، وعلى هذا فهو تشبيه مبتكر لحالة إِعراض مخلوط برُعْب مما تضمنته قوارع القرآن فاجتمع في هذه الجملة تمثيلان .
وإيثار لفظ { قسورة } هنا لصلاحيته للتشبيهين مع الرعاية على الفاصلة .