وهم كذبة فيما قالوا وإنما قصدهم دفع دعوة الرسل لا بيان الحق ، قال تعالى : { قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } وإلا فلو وصل العلم باليوم الآخر إلى قلوبهم ، لعملوا له أعمالا وتهيئوا له .
( قل الله يحييكم ، ثم يميتكم ، ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ) . .
هذه هي المعجزة التي يريدون أن يشهدوها في آبائهم . ها هي ذي تقع أمام أعينهم . بعينها وبذاتها . والله هو الذي يحيي . ثم هو الذي يميت . فلا عجب إذن في أن يحيي الناس ويجمعهم إلى يوم القيامة ، ولا سبب يدعو إلى الريب في هذا الأمر ، الذي يشهدون نظائره فيما بين أيديهم :
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلِ اللّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمّ يُمِيتُكُمْ ثُمّ يَجْمَعُكُمْ إِلَىَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَلََكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لهؤلاء المشركين المكذّبين بالبعث ، القائلين لك ائتنا بآبائنا إن كنت صادقا : الله أيها المشركون يحييكم ما شاء أن يحييكم في الدنيا ، ثم يميتكم فيها إذا شاء ، ثم يجمعكم إلى يوم القيامة ، يعني أنه يجمعكم جميعا أوّلكم وآخركم ، وصغيركم وكبيركم إلى يوم القيامة يقول : ليوم القيامة ، يعني أنه يجمعكم جميعا أحياء ليوم القيامة لا رَيْبَ فِيهِ يقول : لا شكّ فيه ، يقول : فلا تشكوا في ذلك ، فإن الأمر كما وصفت لكم ، وَلَكِنّ أكْثَرَ النّاسَ لا يَعْلَمُونَ ، يقول : ولكن أكثر الناس الذين هم أهل تكذيب بالبعث ، لا يعلمون حقيقة ذلك ، وأن الله محييهم من بعد مماتهم .
{ قل الله يحييكم ثم يميتكم } على ما دلت عليه الحجج . { ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه } فإن من قدر على الابتداء قدر على الإعادة ، والحكمة اقتضت الجمع للمجازاة على ما قرر مرارا ، والوعد المصدق بالآيات دل على وقوعها ، وإذا كان كذلك أمكن الإتيان بآبائهم لكن الحكمة اقتضت أن يعادوه يوم الجمع للجزاء . { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } لقلة تفكرهم وقصور نظرهم على ما يحسونه .
تلقين لإبطال قولهم { وما يهلكنا إلا الدهر } [ الجاثية : 24 ] يتضمن إبطال قولهم { ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونَحْيا } [ الجاثية : 24 ] .
والمقصود منه قوله : { ثم يميتكم } وإنما قدم عليه { يحييكم } توطئة له ، أي كما هو أوجدكم هو يميتكم لا الدهر ، فتقديم اسم الله على المسند الفعلي وهو { يحييكم ثم يميتكم } يفيد تخصيص الإحياء والإماتة به لإبطال قولهم ، إن الدهر هو الذي يميتهم .
وقوله : { ثم يجمعكم إلى يوم القيامة } إبطال لقولهم : { ما هي إلا حياتنا الدنيا } [ الجاثية : 24 ] وليس هو إبطالاً بطريق الاستدلال لأن أدلة هذا تكررت فيما نزل من القرآن فاستغني عن تفصيلها ولكنه إبطال بطريق الإجمال والمعارضة .
وقوله : { لا ريب فيه } حال من { يوم القيامة } ، أي لا ريب في وجوده بما يقتضيه من إحياء الأموات ، ومعنى نفي الريب فيه أنه حقيقة الريب وهي التي تتقوم من دلائل تُفضي إلى الشك منتفية عن قضية وقوع يوم القيامة بكثرة الدلائل الدالة على إمكانه وعلى أنه بالنسبة لقدرة الله ليس أعجب من بدء الخلق ، وأن الله أخبر عن وقوعه فوجب القطع بوقوعه . فكان الشك فيه جديراً بالاقتلاع فكأنه معدوم . وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الكهان « ليسوا بشيء » مع أنهم موجودون فأراد أنهم ليسوا بشيء حقيق ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { ذلك الكتاب لا ريب فيه } في سورة البقرة ( 2 ) .
وعُطف { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } على قوله : { لا ريب فيه } أي ولكن ارتياب كثير من الناس فيه لأنهم لا يعلمون دلائل وقوعه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قل} لهم يا محمد: {الله يحييكم} حين كانوا نطفة.
{ثم يجمعكم إلى يوم القيامة} أولكم وآخركم.
{لا ريب فيه}: لا شك فيه، يعني البعث أنه كائن.
{ولكن أكثر الناس لا يعلمون} آية أنهم يبعثون في الآخرة...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قل يا محمد لهؤلاء المشركين المكذّبين بالبعث، القائلين لك ائتنا بآبائنا إن كنت صادقا: الله أيها المشركون يحييكم ما شاء أن يحييكم في الدنيا، ثم يميتكم فيها إذا شاء، ثم يجمعكم إلى يوم القيامة، يعني أنه يجمعكم جميعا أوّلكم وآخركم، وصغيركم وكبيركم.
إلى يوم القيامة: ليوم القيامة، يعني أنه يجمعكم جميعا أحياء ليوم القيامة.
لا رَيْبَ فِيهِ: لا شكّ فيه، يقول: فلا تشكوا في ذلك، فإن الأمر كما وصفت لكم.
وَلَكِنّ أكْثَرَ النّاسَ لا يَعْلَمُونَ: ولكن أكثر الناس الذين هم أهل تكذيب بالبعث، لا يعلمون حقيقة ذلك، وأن الله محييهم من بعد مماتهم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يحتمل قوله: {قل الله يُحييكم} أي يُحييكم في قبوركم {ثم يُميتكم} فيها {ثم يجمعكم إلى يوم القيامة} أو يقول: الله يُحييكم في ابتداء الأمر، ثم يُميتكم في الدنيا عند انقضاء آجالكم {ثم يجمعُكم إلى يوم القيامة}.
{ولكن أكثر الناس لا يعلمون} أي ولكن أكثر الناس لا [ينتفعون بما] يعلمون لما تركوا النظر والتأمّل في أسباب العلم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
إن قلت: كيف وقع قوله: {قُلِ الله يُحْيِيكُمْ} جواباً لقولهم: {ائتوا بِئابَآئِنَآ إِن كُنتُمْ صادقين}؟
قلت: لما أنكروا البعث وكذبوا الرسل، وحسبوا أنّ ما قالوه قول مبكت، ألزموا ما هم مقرّون به: من أنّ الله عز وجل هو الذي يحييهم ثم يميتهم، وضم إلى إلزام ذلك إلزام ما هو واجب الإقرار به إن أنصفوا وأصغوا إلى داعي الحق، وهو جمعهم إلى يوم القيامة، ومن كان قادراً على ذلك كان قادراً على الإيتان بآبائهم، وكان أهون شيء عليه...
إن قيل هذا الكلام مذكور لأجل جواب من يقول {ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر} فهذا القائل كان منكرا لوجود الإله ولوجود يوم القيامة فكيف يجوز إبطال كلامه بقوله {قل الله يحييكم ثم يميتكم} وهل هذا إلا إثبات للشيء بنفسه وهو باطل، قلنا إنه تعالى ذكر الاستدلال بحدوث الحيوان والإنسان على وجود الفاعل الحكيم في القرآن مرارا وأطوارا،فقوله ها هنا {قل الله يحييكم} إشارة إلى تلك الدلائل التي بينها وأوضحها مرارا، وليس المقصود من ذكر هذا الكلام إثبات الإله بقول الإله، بل المقصود منه التنبيه على ما هو الدليل الحق القاطع في نفس الأمر.
ولما ثبت أن الإحياء من الله تعالى، وثبت أن الإعادة مثل الإحياء الأول، وثبت أن القادر على الشيء قادر على مثله، ثبت أنه تعالى قادر على الإعادة، وثبت أن الإعادة ممكنة في نفسها، وثبت أن القادر الحكيم أخبر عن وقت وقوعها فوجب القطع بكونها حقة.
وأما قوله تعالى: {ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه} فهو إشارة إلى ما تقدم ذكره في الآية المتقدمة، وهو أن كونه تعالى، عادلا خالقا بالحق منزها عن الجور والظلم، يقتضي صحة البعث والقيامة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان سبحانه وتعالى إنما يقبل الإيمان عند إمكان تصوره، وذلك إذا كان بالغيب لم يجبهم إلى إحياء آبائهم إكراماً لهذه الأمة لشرف نبيها عليه أفضل الصلاة والسلام لأن سنته الإلهية جرت بأن من لم يؤمن بعد كشف الأمر بإيجاد الآيات المقترحات أهلكه كما فعل بالأمم الماضية، فرفعهم عن الحس إلى التدريب على الحجج العقلية فقال آمراً له صلى الله عليه وسلم بالجواب بقوله تعالى: {قل الله} أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً وحكمة.
{يحييكم} أي يجدد هذا تجديداً لا يحصى كما أنتم به- مقرون إحياء لأجساد يخترعها من غير أن يكون لها أصل في الحياة.
{ثم يميتكم} بأن يجمع أرواحكم من أجسادكم فيستلها منها لا يدع شيئاً منها في شيء من الجسد وما ذلك على الله بعزيز فإذا هو كما كان قبل الإحياء كما تشاهدون، ومن قدر على هذا الإبداء على هذا الوجه من التكرر ثم على تمييز ما بث من الروح في حال سلبها من تلك الأعضاء الظاهر عادة مستمرة كان المخبر عنه بأنه يجمع الخلق بعد موتهم من العريقين في الصدق، فلذلك قال من غير تأكيد: {ثم يجمعكم} أي بعد التمزق فيعيد فيكم أرواحكم كما كانت بعد طول مدة الرقاد، منتهين {إلى يوم القيامة} أي القيام الأعظم لكونه عاماً لجميع الخلائق الذين أماتهم.
ولما صح بهذا الدليل القطعي المدعى، أنتج قوله: {لا ريب} أي شك بوجه من الوجوه {فيه} بل هو معلوم علماً قطعياً ضرورياً.
{ولكن أكثر الناس} بما لهم من السفول بما ركبنا فيهم من الحظوظ والشهوات التي غلبت على غريزة العقل فردوا بها أسفل سافلين في حد النوس وهو التردد لم يرتقوا إلى سن الإيمان-.
{لا يعلمون} أي لا يتجدد لهم علم لما لهم من النوس والتردد والسفول عن أوج العقل إلى حضيض الجهل، فهم واقفون مع المحسوسات، لا يلوح لهم ذلك مع ما له من الظهور لتظهر قدرتنا ويتحقق اسمنا الباطن كما تحقق الظاهر عند من هديناه لعلم ذلك.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذه هي المعجزة التي يريدون أن يشهدوها في آبائهم. ها هي ذي تقع أمام أعينهم. بعينها وبذاتها. والله هو الذي يحيي. ثم هو الذي يميت. فلا عجب إذن في أن يحيي الناس ويجمعهم إلى يوم القيامة، ولا سبب يدعو إلى الريب في هذا الأمر، الذي يشهدون نظائره فيما بين أيديهم: (ولكن أكثر الناس لا يعلمون)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
تلقين لإبطال قولهم {وما يهلكنا إلا الدهر} يتضمن إبطال قولهم {ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونَحْيا}.
والمقصود منه قوله: {ثم يميتكم} وإنما قدم عليه {يحييكم} توطئة له، أي كما هو أوجدكم هو يميتكم لا الدهر، فتقديم اسم الله على المسند الفعلي وهو {يحييكم ثم يميتكم} يفيد تخصيص الإحياء والإماتة به لإبطال قولهم، إن الدهر هو الذي يميتهم.
{ثم يجمعكم إلى يوم القيامة} إبطال لقولهم: {ما هي إلا حياتنا الدنيا} وليس هو إبطالاً بطريق الاستدلال؛ لأن أدلة هذا تكررت فيما نزل من القرآن فاستغني عن تفصيلها ولكنه إبطال بطريق الإجمال والمعارضة.
{لا ريب فيه} حال من {يوم القيامة}، أي لا ريب في وجوده بما يقتضيه من إحياء الأموات، ومعنى نفي الريب فيه أنه حقيقة الريب وهي التي تتقوم من دلائل تُفضي إلى الشك منتفية عن قضية وقوع يوم القيامة بكثرة الدلائل الدالة على إمكانه وعلى أنه بالنسبة لقدرة الله ليس أعجب من بدء الخلق، وأن الله أخبر عن وقوعه فوجب القطع بوقوعه. فكان الشك فيه جديراً بالاقتلاع فكأنه معدوم. وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الكهان « ليسوا بشيء» مع أنهم موجودون فأراد أنهم ليسوا بشيء حقيق، وقد تقدم عند قوله تعالى: {ذلك الكتاب لا ريب فيه} في سورة البقرة (2).
وعُطف {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} على قوله: {لا ريب فيه} أي ولكن ارتياب كثير من الناس فيه؛ لأنهم لا يعلمون دلائل وقوعه.