{ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ } قبول ولا انزجار ولا تذكر وادكار ، إنما كان جوابهم المعارضة والمناقضة والتوعد لنبيهم الناصح ورسولهم الأمين بالإجلاء عن وطنه والتشريد عن بلده . فما كان جواب قومه { إِلا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ } .
فكأنه قيل : ما نقمتم منهم وما ذنبهم الذي أوجب لهم الإخراج ، فقالوا : { إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } أي : يتنزهون عن اللواط وأدبار الذكور . فقبحهم الله جعلوا أفضل الحسنات بمنزلة أقبح السيئات ، ولم يكتفوا بمعصيتهم لنبيهم فيما وعظهم به حتى وصلوا إلى إخراجه ، والبلاء موكل بالمنطق فهم قالوا : { أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } .
ومفهوم هذا الكلام : " وأنتم متلوثون بالخبث والقذارة المقتضي لنزول العقوبة بقريتكم ونجاة من خرج منها "
ثم حكى القرآن بعد ذلك جوابهم السيىء على نبيهم فقال : { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قالوا أخرجوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ . . } .
والفاء للتفريع ، والاستثناء مفرغ من أعم الأشياء .
أى : هكذا نصح لوط قومه وزجرهم ، فما كان جوابهم شيءا من الأشياء سوى قول بعضهم لبعض أخرجوا لوطا والمؤمنين من قريتكم التى يساكنوكم فيها .
وفى التعبير بقولهم : { مِّن قَرْيَتِكُمْ } إشارة إلى غرورهم وتكبرهم فكأنهم يعتبرون لوطا وأهله المؤمنين دخلاء عليهم ، ولا مكان لهم بين هؤلاء المجرمين لأن القرية - وهى سدوم - هى قريتهم وحدهم ، دون لوط وأهله .
وقوله - تعالى - حكاية عنهم : { إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } تعليل للإخراج ، وبيان لسببه ، أى أخرجوهم من قريتكم لأنهم أناس يتنزهون عن الفعل الذى نفعله ، وينفرون من الشهوة التى نشتهيها وهى إتيان الرجال . .
وما أعجب العقول عندما تنتكس ، والنفوس عندما ترتكس ، إنها تأبى أن يبقى معها الأطهار ، بل تحرض على طردهم ، ليبقى معها الممسوخون والمنحرفون الذين انحطت طباعهم ، وزين لهم الشيطان سوء أعمالهم فرأوه حسنا .
ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال : وقولهم : { إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } سخرية بهم وبتطهرهم من الفواحش ، وافتخارا بما كانوا فيه من القذارة ، كما يقول الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظهم : أبعدوا عنا هذا المتقشف وأريحونا من هذا المتزهد .
فماذا كان جواب قوم لوط على هذا الاستنكار للانحراف ، وهذا التوجيه إلى وحي الفطرة السليمة ?
كان جوابهم في اختصار أن هموا بإخراج لوط ومن سمع دعوته وهم أهل بيته - إلا امرأته - بحجة أنهم أناس يتطهرون !
فما كان جواب قومه إلا أن قالوا : أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم ناس يتطهرون .
وقولهم هذا قد يكون تهكما بالتطهر من هذا الرجس القذر . وقد يكون إنكارا عليه أن يسمى هذا تطهرا ، فهم من انحراف الفطرة بحيث لا يستشعرون ما في ميلهم المنحرف من قذارة . وقد يكون ضيقا بالطهر والتطهر إذا كان يكلفهم الإقلاع عن ذلك الشذوذ ! !
تقدم نظير هاته الآية في سورة الأعراف ( 82 ) ، وخالفتها هذه بوقوع العطف بالفاء في قوله { فما كان جواب قومه } دون الواو ، وبقوله { أخرجوا ءال لوط } عوض { أخرجوهم } [ الأعراف : 82 ] وبقوله { قدرناها } عوض { كانت } [ الأعراف : 83 ] ، وبقوله { فساء مطر المنذرين } عوض { فانظر كيف كان عاقبة المجرمين } [ الأعراف : 84 ] .
فأما موقع الفاء هنا فهو لتعقيب الجملة المعطوفة بالفاء على التي قبلها تعقيب جزء القصة على أوله فلا تفيد إلا تعقيب الإخبار ، وهي في ذلك مساوية للواو . ولكن أوثر حرف التعقيب في هذه الآية لكونها على نسج ما حكيت به قصة ثمود في قوله تعالى { فإذا هم فريقان يختصمون } [ النمل : 45 ] ، فالاختلاف بين هذه الآية وآية الأعراف تفنُّن في الحكاية ، ومراعاة للنظير في النسج . وهذا من أساليب قصص القرآن كما بينته في المقدمة السابعة من مقدمات هذا التفسير .
وكذلك قوله { أخرجوا آل لوط } دون { أخرجوهم } [ الأعراف : 82 ] لأن المحكي من كلام القوم هو تآمرهم على إخراج آل لوط ؛ فما هنا حكاية بمرادف كلامهم وما في الأعراف حكاية بالمعنى والغرض هو التفنّن أيضاً .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فما كان جواب قومه} قوم لوط حين نهاهم عن المعاصي {إلا أن قالوا} بعضهم لبعض {أخرجوا ءال لوط} يعني: لوطا وابنتيه {من قريتكم إنهم أناس يتطهرون}... يتنزهون عن إتيان الرجال، فإنا لا نحب أن يكون بين أظهرنا من ينهانا عن عملنا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فلم يكن لقوم لوط جواب له، إذ نهاهم عما أمره الله بنهيهم عنه من إتيان الرجال، إلا قيل بعضهم لبعض:"أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ" عما نفعله نحن من إتيان الذكران في أدبارهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إنهم أناس يتطهرون}. دل هذا منهم أنهم قد علموا أن ما يأتون ويعملون أنه خبث وفحش ومنكر حين قالوا: {إنهم أناس يتطهرون}. ثم يحتمل قوله هذا وجوها: أحدهما: أنهم قالوا ذلك استهزاء منهم بهم والثاني: {قالوا أخرجوا آل لوط} فإنهم يستقذرون أعمالنا وأفعالنا. الثالث: على التحقيق: {إنهم أناس يتطهرون}.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وأخبر الله تعالى عن قوم لوط أنهم تركوا في جوابهم طريق الحجة وأخبروا بالمبالغة فتآمروا بإخراجه وإخراج من آمن معه ثم ذموهم بمدحه، وهي «التطهر» من هذه الدناءة التي أصفقوا هم عليها...
ثم إنه تعالى بين جهلهم بأن حكى عنهم أنهم أجابوا عن هذا الكلام بما لا يصلح أن يكون جوابا له فقال: {فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون} فجعلوا الذي لأجله يخرجون أنهم يتطهرون من هذا الصنيع الفاحش وهذا يوجب تنعيمهم وتعظيمهم أولى لكن في المفسرين من قال: إنما قالوا ذلك على وجه الهزء.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
وأشار إلى تغاليهم في الجهل وافتخارهم به بما سببوا عن ذلك بقوله: {فما كان جواب قومه} أي لهذا الكلام الحسن لما لم يكن لهم حجة في دفعه بل ولا شبهة {إلا أن} صدقوه في نسبته لهم إلى الجهل بأن {قالوا} عدولاً إلى المغالبة وتمادياً في الخبث {أخرجوا آل لوط} فأظهر ما أضمره في الأعراف لأن الإظهار أليق بسورة العلم والحكمة وإظهار الخبء، وقالوا؛ {من قريتكم} مناً عليه بإسكانه عندهم؛ وعللوا ذلك بقولهم: {إنهم} ولعلهم عبروا بقولهم: {أناس} مع صحة المعنى بدونه تهكماً عليه لما فهموا من أنه أنزلهم إلى رتبة البهائم {يتطهرون} أي يعدون أفعالنا نجسة ويتنزهون عنها.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فماذا كان جواب قوم لوط على هذا الاستنكار للانحراف، وهذا التوجيه إلى وحي الفطرة السليمة؟
كان جوابهم في اختصار أن هموا بإخراج لوط ومن سمع دعوته وهم أهل بيته -إلا امرأته- بحجة أنهم أناس يتطهرون!
فما كان جواب قومه إلا أن قالوا: أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم ناس يتطهرون.
وقولهم هذا قد يكون تهكما بالتطهر من هذا الرجس القذر. وقد يكون إنكارا عليه أن يسمى هذا تطهرا، فهم من انحراف الفطرة بحيث لا يستشعرون ما في ميلهم المنحرف من قذارة. وقد يكون ضيقا بالطهر والتطهر إذا كان يكلفهم الإقلاع عن ذلك الشذوذ!!
ومن عدل الله تعالى أن يظهر في منطقهم دليل إدانتهم وخبث طباعهم، فكلمة {يتطهرون} التي نطقوا بها تعني: أنهم أنفسهم أنجاس تزعجهم الطهارة، وما أحل الله من الطيبات، وكأن الحق تعالى يجعل في كلامهم منافذ لإدانتهم، وليحكموا بها على أنفسهم.
أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري 1439 هـ :
من الهداية:... -بيان سنة أن المرء إذا أدْمن على قبح قول أو عمل يصبح غير قبيح عنده.