ولكن هذا المكر السىء ، والتحايل القبيح قد أبطله الله - تعالى - وجعله يحيق بهم وبأشياعهم ، فقد قال - تعالى -{ ومكَرُواْ مَكْراً ومكرنا مكرا } أى : ودبرنا لصالح - عليه السلام - ولمن آمن به ، تدبيرا محمودا محكما { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } أى : وهم لا يشعرون بتدبيرنا الحكيم ، حيث أنجينا صالحا ومن معه من المؤمنين ، وأهلكنا أعداءه أجمعين .
كذلك دبروا . وكذلك مكروا . . ولكن الله كان بالمرصاد يراهم ولا يرونه ، ويعلم تدبيرهم ويطلع على مكرهم وهم لا يشعرون :
( ومكروا مكرا ، ومكرنا مكرا . وهم لا يشعرون ) . .
وأين مكر من مكر ? وأين تدبير من تدبير ? وأين قوة من قوة ?
وكم ذا يخطئ الجبارون وينخدعون بما يملكون من قوة ومن حيلة ، ويغفلون عن العين التي ترى ولا تغفل ، والقوة التي تملك الأمر كله وتباغتهم من حيث لا يشعرون :
وقوله : { قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ } أي : تحالفوا وتبايعوا على قتل نبي الله صالح ، عليه السلام ، من لقيه ليلا غيلة . فكادهم الله ، وجعل الدائرة عليهم .
قال مجاهد : تقاسموا وتحالفوا{[22084]} على هلاكه ، فلم يصلوا إليه حتى هلكوا وقومهم أجمعين .
وقال قتادة : توافقوا على أن يأخذوه ليلا فيقتلوه ، وذكر لنا أنهم بينما هم مَعَانيق إلى صالح ليفتكوا به ، إذ بعث الله عليهم صخرة فأهمدتهم .
وقال العوفي ، عن ابن عباس : هم الذين عقروا الناقة ، قالوا حين عقروها : نُبَيِّت صالحا [ وأهله ]{[22085]} وقومه فنقتلهم ، ثم نقول لأولياء صالح : ما شهدنا من هذا شيئا ، وما لنا به من علم . فدمرهم الله أجمعين .
وقال محمد بن إسحاق : قال هؤلاء التسعة بعدما عقروا الناقة : هَلُم فلنقتل صالحًا ، فإن كان صادقًا عجلناه قبلنا ، وإن كان كاذبًا كنا قد ألحقناه بناقته ! فأتوه ليلا ليبيِّتوه في أهله ، فدمغتهم الملائكة بالحجارة ، فلما أبطؤوا على أصحابهم ، أتوا مَنزل صالح ، فوجدوهم منشدخين قد رضخوا بالحجارة ، فقالوا لصالح : أنت قتلتهم ، ثم هموا به ، فقامت عشيرته دونه ، ولبسوا السلاح ، وقالوا لهم : والله لا تقتلونه أبدًا ، وقد وعدكم أن العذاب نازل بكم في ثلاث ، فإن كان صادقًا فلا تزيدوا ربكم عليكم غضبًا ، وإن كان كاذبا فأنتم من وراء ما تريدون . فانصرفوا عنهم ليلتهم تلك .
وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم : لما عقروا الناقة وقال لهم صالح : { تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ } [ هود : 65 ] ، قالوا : زعم صالح أنه يفرغ منا إلى ثلاثة أيام ، فنحن نفرغ منه وأهله قبل ثلاث . وكان لصالح مسجد في الحجْر عند شعب هناك يصلي فيه ، فخرجوا إلى كهف ، أي : غار هناك ليلا فقالوا : إذا جاء يصلي قتلناه{[22086]} ، ثم رجعنا إذا فرغنا منه إلى أهله ، ففرغنا منهم . فبعث الله صخرة من الهضَب حيالهم ، فخشوا أن تشدخهم فتبادروا{[22087]} فانطبقت عليهم الصخرة وهم في ذلك الغار ، فلا يدري قومهم أين هم ، ولا يدرون ما فعل بقومهم . فعذب الله هؤلاء هاهنا ، وهؤلاء هاهنا ، وأنجى الله صالحًا ومن معه ، ثم قرأ : { وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً } أي : فارغة ليس فيها أحد { بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ . وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ومكروا مكرا} حين أرادوا قتل صالح، عليه السلام، وأهله، يقول الله تعالى: {ومكرنا مكرا} حين جثم الجبل عليهم {وهم لا يشعرون}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وغدر هؤلاء التسعة الرهط الذين يفسدون في الأرض بصالح بمصيرهم إليه ليلاً ليقتلوه وأهله، وصالح لا يشعر بذلك "وَمَكَرْنا مَكْرا "يقول: فأخذناهم بعقوبتنا إياهم، وتعجيلنا العذاب لهم "وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ" بمكرنا.
وقد بيّنا فيما مضى معنى: مكر الله بمن مكر به، وما وجه ذلك، وأنه أخذه من أخذه منهم على غرّة، أو استدراجه منهم من استدرج على كفره به، ومعصيته إياه، ثم إحلاله العقوبة به على غرّة وغفلة.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
{ومكروا مكرا} بهذه المواضعة. {ومكرنا مكرا} بأن جعلناها سببا لإهلاكهم. {وهم لا يشعرون} بذلك..
مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي 710 هـ :
مكرهم ما أخفوه من تدبير الفتك بصالح وأهله. ومكر الله إهلاكهم من حيث لا يشعرون..
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ومكروا مكراً} أي ستروا ستراً عظيماً أرادوا به الشر بهذه المساومة على المقاسمة، فكان مكرهم الذي اجتهدوا في ستره لدينا مكشوفاً وفي حضرتنا معروفاً وموصوفاً، فشعرنا بل علمنا به فأبطلناه {ومكرنا مكراً} أي وجزيناهم على فعلهم بما لنا من العظمة شيئاً هو المكر في الحقيقة فإنه لا يعلمه أحد من الخليقة، ولذلك قال: {وهم} أي مع اعتنائهم بالفحص عن الأمور. والتحرز من عظائم المقدور {لا يشعرون} أي لا يتجدد لهم شعور بما قدرناه عليهم بوجه ما، فكيف بغيرهم، وذلك أنا جعلنا تدميرهم في تدبيرهم، فلم يقدروا على إبطاله، فأدخلناهم في خبر كان، لم يفلت منهم إنسان، وأهلكنا جميع الكفرة من قومهم في أماكنهم مساكنهم أو غير مساكنهم... فشتان بين المكرين، وهيهات هيهات لما بين الأمرين..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
سمَّى الله تآمرهم مكراً لأنه كان تدبير ضُرّ في خفاءٍ. وأكد مكرهم بالمفعول المطلق للدلالة على قوته في جنس المكر، وتنوينه للتعظيم. والمكر الذي أسند إلى اسم الجلالة مكر مجازي. استعير لفظ المكر لمبادرة الله إياهم باستئصالهم قبل أن يتمكنوا من تبييت صالح وأهله، وتأخيره استئصالهم إلى الوقت الذي تآمروا فيه على قتل صالح لشَبَه فِعلِ الله ذلك بفعل الماكر في تأجيل فعل إلى وقت الحاجة، مع عدم إشعار من يُفعل به. وأُكد مكر الله وعُظّم كما أكد مكرهم وعُظّم، وذلك بما يناسب جنسه، فإن عذاب الله لا يدانيه عذاب الناس فعظيمه أعظم من كل ما يقدره الناس...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
دبروا هذا التدبير الآثم وسماه الله تعالى مكرا، وقد أحكموا التدبير، وأحاطوه بما يضمن التنفيذ بإحكام، ولذا أكدوه بالمفعول المطلق مكرا، والله من ورائهم محيط، ولذا دبر لعبده، وسمى تدبيره الحكيم مكرا من قبيل المشاكلة اللفظية، ولأن المكر هو التدبير، ويكون في الخير والوقاية من الشر، كما يكون في تدبير السوء كما كان منهم، ومكر الله تعالى لإحباط تدبيرهم الخبيث، وهو القضاء على الفساد والمفسدين، وهم لا يشعرون أن الله محبط عملهم، ومبطل تدبيرهم وذلك بالقضاء عليهم قبل أن ينفذوا.