وبعد هذا التوجيه الحكيم تأخذ السورة الكريمة فى تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما أصابه من حزن بسبب كفرهم فتقول : { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ } والحزن : اكتئاب نفسى يحدث للإنسان من أجل وقوع ما يكرهه .
والمقصود بالنهى عن الحزن : النهى عن لوازمه ، كالإكثار من محاولة تجديد شأن المصائب ، وتعظيم أمرها ، وبذلك تتجدد الآلام ، ويصعب نسيانها .
والمكر : التدبير المحكم . أو صرف الغير عما يريده بحيلة ، لقصد إيقاع الأذى به .
أى : ولا تحزن - أيها الرسول الكريم - على هؤلاء المشركين ، بسبب إصرارهم على الكفر والجحود ولا يضيق صدرك ، ويمتلىء هما وغما بسبب مكرهم فإن الله - تعالى - عاصمك منهم ، وناصرك عليهم .
وبعد أن يوجههم هذا التوجيه يأمر رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] أن ينفض يديه من أمرهم ، ويدعهم لمصيرهم ، الذي وجههم إلى نظائره ، وألا يضيق صدره بمكرهم ، فإنهم لن يضروه شيئا ، وألا يحزن عليهم فقد أدى واجبه تجاههم وأبلغهم وبصرهم .
( ولا تحزن عليهم . ولا تكن في ضيق مما يمكرون ) . .
وهذا النص يصور حساسية قلبه [ صلى الله عليه وسلم ] وحزنه على مصير قومه الذي يعلمه من مصائر المكذبين قبلهم ، ويدل كذلك على شدة مكرهم به وبالدعوة وبالمسلمين حتى ليضيق صدره الرحب الكبير .
ثم قال تعالى مسليًا لنبيه ، صلوات الله وسلامه عليه : { وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } أي : المكذبين بما جئت به ، ولا تأسف عليهم وتذهب نفسك عليهم حسرات ، { وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ } أي : في كيدك ورَدّ ما جئت به ، فإن الله مؤيدك وناصرك ، ومظهرٌ دينك على مَنْ خالفه وعانده في المشارق والمغارب .
كانت الرحمة غالبة على النبي صلى الله عليه وسلم والشفقة على الأمة من خلاله ، فلما أُنذر المكذبون بهذا الوعيد تحركت الشفقة في نفس الرسول عليه الصلاة والسلام فربط الله على قلبه بهذا التشجيع أن لا يحزن عليهم إذا أصابهم ما أنذروا به . وكان من رحمته صلى الله عليه وسلم حرصه على إقلاعهم عما هم عليه من تكذيبه والمكر به ، فألقى الله في روعه رباطة جاش بقوله { ولا تكن في ضيق مما يمكرون } .
والضيق : بفتح الضاد وكسرها ، قرأه الجمهور بالفتح ، وابن كثير بالكسر . وحقيقته : عدم كفاية المكان أو الوعاء لما يراد حلوله فيه ، وهو هنا مجاز في الحالة الحرجة التي تعرض للنفس عند كراهية شيء فيحس المرء في مجاري نفسه بمثل ضيق عرض لها . وإنما هو انضغاط في أعصاب صدره . وقد تقدم عند قوله { ولا تك في ضيق مما يمكرون } في آخر سورة النحل ( 127 ) .
والظرفية مجازية ، أي لا تكن ملتبساً ومحوطاً بشيء من الضيق بسبب مكرهم .
والمكر تقدم عند قوله تعالى { ومكروا ومكر الله } في سورة آل عمران ( 54 ) . و ( ما ) مصدرية ، أي من مكرهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم قال للنبي صلى الله عليه وسلم: {ولا تحزن عليهم} يعني: على كفار مكة إن تولوا عنك، ولم يجيبوك، {ولا تكن في ضيق مما يمكرون} يقول: لا يضيق صدرك بما يقولون: هذا دأبنا ودأبك أيام الموسم، وهم الخراصون وهم المستهزئون.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ولا تحزن على إدبار هؤلاء المشركين عنك وتكذيبهم لك، {وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمّا يَمْكُرُونَ} يقول: ولا يضق صدرك من مكرهم بك، فإن الله ناصرك عليهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ولا تحزن عليهم} قال قائلون: قوله: {ولا تحزن عليهم} بما يحل بهم من العذاب إن لم يحزنوا هم على أنفسهم ولم يرحموها. وقال بعضهم: قوله {ولا تحزن عليهم} إن لم يسلموا، كقوله: {فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا} [الكهف: 6] وكقوله: {لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين} [الشعراء: 3] وقوله: {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات} [فاطر: 8] وأمثال ذلك. كادت نفسه تهلك وتتلف إشفاقا عليهم بما ينزل بهم بتركهم الإسلام، فقال: {ولا تحزن عليهم} [وقال] {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات} [فاطر: 8] ليس على النهي، ولكن على تسكين نفسه وتقريرها على ما هي عليه لئلا تتلف وتهلك. وهو ما قال: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين} [القصص: 56].
{ولا تكن في ضيق مما يمكرون} هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: {ولا تكن في ضيق مما} يستهزئون بكم ويسخرون بما توعدهم من العذاب والهلاك. ألا ترى أنهم قالوا على إثر ذلك {متى هذا الوعد إن كنتم صادقين}؟ [النمل: 71] قالوا ذلك له استهزاء بما يوعدهم. فكأنه قال لرسوله: {ولا تكن في ضيق مما} يستهزئون بما توعدهم فإن الله يجزيهم جزاء استهزائهم بكم.
والثاني: {ولا تكن في ضيق مما يمكرون} أي مما يريدون، ويهمون بقتلك، فإن الله يحفظك ويحوطك، فلا يصلون إليك مما يريدون من قتلك وإهلاكك، وهو ما قال: {والله يعصمك من الناس} [المائدة: 67]. وفيه دلالة إثبات رسالته حين أمَّنه، وأخبره أنه يحفظه ويعصمه من جميع الأعداء، وهو بين أظهرهم. فتلك آية من آيات النبوة والرسالة، والله أعلم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فِي ضَيْقٍ} في حرج صدر من مكرهم وكيدهم لك، ولا تبال بذلك فإن الله يعصمك من الناس.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما دهم النبي صلى الله عليه وسلم من الأسف على جلافتهم في عماهم عن السبيل، الذي هدى إليه الدليل، ما لا يعلمه إلا الله قال: {ولا تحزن عليهم} أي في عدم إيمانهم. ولما كانوا لا يقتصرون على التكذيب، بل يبغون للمؤمنين الغوائل، وينصبون الحبائل، قال: {ولا تكن} مثبتاً للنون لأنه في سياق الإخبار عن عنادهم واستهزائهم مع كفايته سبحانه وتعالى لمكرهم بما أعد لهم من سوء العذاب في الدارين، فلا مقتضى للتناهي في الإيجاز والإبلاغ في نفي الضيق، فيفهم إثبات النون الرسوخ، فلا يكون منهياً عما لا ينفك عنه العسر مما أشار إليه قوله تعالى {ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون} وإنما ينهى عن التمادي معه في الذكر بخلاف ما مضى في النحل، فإن السياق هناك للعدل في العقوبة لما وقع من المصيبة في غزوة أحد المقتضي لتعظيم التسلية بالحمل على الصبر، ونفي جميع الضيق ليكون ذلك وازعاً عن مجاوزة الحد، بل حاملاً على العفو {في ضيق} أي في الصدر {مما يمكرون} فإن الله جاعل تدميرهم في تدبيرهم كطغاة قوم صالح.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وبعد أن يوجههم هذا التوجيه يأمر رسوله [صلى الله عليه وسلم] أن ينفض يديه من أمرهم، ويدعهم لمصيرهم، الذي وجههم إلى نظائره، وألا يضيق صدره بمكرهم، فإنهم لن يضروه شيئا، وألا يحزن عليهم فقد أدى واجبه تجاههم وأبلغهم وبصرهم.
(ولا تحزن عليهم. ولا تكن في ضيق مما يمكرون)..
وهذا النص يصور حساسية قلبه [صلى الله عليه وسلم] وحزنه على مصير قومه الذي يعلمه من مصائر المكذبين قبلهم، ويدل كذلك على شدة مكرهم به وبالدعوة وبالمسلمين حتى ليضيق صدره الرحب الكبير.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
كانت الرحمة غالبة على النبي صلى الله عليه وسلم والشفقة على الأمة من خلاله، فلما أُنذر المكذبون بهذا الوعيد تحركت الشفقة في نفس الرسول عليه الصلاة والسلام فربط الله على قلبه بهذا التشجيع أن لا يحزن عليهم إذا أصابهم ما أنذروا به. وكان من رحمته صلى الله عليه وسلم حرصه على إقلاعهم عما هم عليه من تكذيبه والمكر به، فألقى الله في روعه رباطة جاش بقوله {ولا تكن في ضيق مما يمكرون}.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} لأنهم لا يستحقون مثل هذه العاطفة النبوية الطاهرة التي تنطلق من المواقع الإنسانية الصافية، في ما تتحرك به مشاعر النبوة من الألم والحزن على الذين يلقون بأنفسهم في التهلكة ويعرّضونها للضلال في الدنيا، والعذاب في الآخرة. فهؤلاء الذين فتح لهم الله كل فرص الهداية، فأهملوها وواجهوها بالهروب والتمرّد واللاّمبالاة، ووجّه إليهم ألطاف رحمته، وفتح لهم أبوابها، فأغلقوها على أنفسهم، ورفضوها بكل عناد وإصرار، كيف يستحقون المشاعر الإنسانية والنبوية الطاهرة التي تمردوا عليها.
{وَلاَ تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} ويدبّرون في الخفاء من وسائل المواجهة للدعوة، والرفض للرسالة والرسول، بل لا بد من أن تتقبل ذلك بشكلٍ طبيعيّ، باعتبار أنه من طبيعة الأشياء التي تفرضها ساحة الصراع في ما تنطلق به الرسالات التي تريد أن تغيّر الواقع على أساس مفاهيمها، فتهاجم كل أشكال الشر والكفر والفساد، بالمضمون الفكري تارة، وبالحركة القوية أخرى، وبالأسلوب المتحرك المتنوع في أخلاقيته ومرونته وواقعيته ثالثة، ما يشكل خطراً على مواقع النفوذ في ساحة الأمر الواقع، فتتحرك للدفاع عن نفسها بالتعسف والقهر والقتال، وبالتخطيط العملي الذي يعمل على إرباك حركة الرسالة والرسول في مجالات الدعوة والتغيير. وفي ضوء ذلك، لا بد من مواجهة المسألة بطريقةٍ هادئةٍ واعيةٍ لا تخضع للانفعالات التي يضيق بها الصدر، وتتعقد فيها المشاعر، بل تتحرك للتخطيط المضاد، والحركة المضادّة، من أجل إكمال المسيرة في خط الأساليب الواقعية التي تغيّر الواقع بأدوات الواقع، لا بالانفعال.