{ كُلُوا وَاشْرَبُوا } أي : مما تشتهيه أنفسكم ، من [ أصناف ] المآكل والمشارب اللذيذة ، { هَنِيئًا } أي : متهنئين بتلك المآكل والمشارب{[875]} على وجه الفرح والسرور والبهجة والحبور . { بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : نلتم ما نلتم بسبب أعمالكم الحسنة ، وأقوالكم المستحسنة .
جملة { كلوا واشربوا } إلى آخرها مقول قول محذوف في موضع الحال أيضاً ، تقديره : يقال لهم ، أو مقولاً لهم . وهذا القول مقابل ما يقال للمكذبين { اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون } [ الطور : 16 ] .
وحذف مفعول { كلوا واشربوا } لإِفادة النعيم ، أي كلوا كل ما يؤكل واشربوا كلّ ما يشرب ، وهو عموم عرفي ، أي مما تشتهون .
و { هنيئاً } اسم على وزن فعيل بمعنى مفعول وقع وصفاً لمصدرين لفعلي { كلوا واشربوا } ، أكلاً وشرباً ، فلذلك لم يؤنث الوصف لأن فعيلاً إذا كان بمعنى مفعول يلزم الإِفراد والتذكير . وتقدم في سورة النساء لأنه سالم مما يكدر الطعام والشراب .
و ( ما ) موصولة ، والباء سببية ، أي بسبب العمل الذي كنتم تعملونه وهو العمل الصالح الذي يومىء إليه قوله : { المتقين } وفي هذا القول زيادة كرامة لهم بإظهار أن ما أوتوه من الكرامة عوض عن أعمالهم كما آذنت به باء السببية وهو نحو قول من يسدي نعمة إلى المنعم عليه : لا فضل لي عليك وإنما هو مالك ، أو نحو ذلك .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{كلوا واشربوا هنيئا} يعني الذي ليس عليهم مشقة ولا تبعة، حلالا لا يحاسبون عليه {بما كنتم تعملون} في الدنيا...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: كلوا واشربوا، يقال لهؤلاء المتقين في الجنات: كلوا أيها القوم مما آتاكم ربكم، واشربوا من شرابها هنيئا، لا تخافون مما تأكلون وتشربون فيها أذًى ولا غائلة بما كنتم تعملون في الدنيا لله من الأعمال.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{هنيئا} أي ليس عليهم في ذلك خوف التّبِعة ولا خوف حدوث مكروه في أنفسهم ولا آفة، لأن ذلك يُنغِّص عليهم ذلك، ليس كما يُؤكَل في الدنيا فيه خوف التّبعة، وخوف حدوث المكروه والآفات في أنفسهم والضّرر، فأخبر ألا يكون لهم في الجنة ذلك لئلا يُنغّص عليهم نِعمها، والله أعلم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{هَنِيئَاً} ههنا: هناءكم الأكل والشرب. أو هناءكم ما كنتم تعملون؛ أي: جزاء ما كنتم تعملون. والباء مزيدة كما في {كفى بالله} [الرعد: 43] والباء متعلقة بكلوا واشربوا إذا جعلت الفاعل الأكل والشرب...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{بما كنتم تعملون} معناه: أن رتب الجنة ونعيمها هو بحسب الأعمال، وأما نفس دخولها فهو برحمة الله وتغمده، والأكل والشرب والتهني ليس من الدخول في شيء، وأعمال العباد الصالحة لا توجب على الله التنعيم إيجاباً، لكنه قد جعلها أمارة على من سبق تنعيمه، وعلق الثواب والعقاب بالتكسب الذي في الأعمال...
وفيه بيان أسباب التنعيم على الترتيب، فأول ما يكون المسكن وهو الجنات، ثم الأكل والشرب، ثم الفرش والبسط، ثم الأزواج، فهذه أمور أربعة ذكرها الله على الترتيب، وذكر في كل واحد منها ما يدل على كماله قوله {جنات} إشارة إلى المسكن والمسكن للجسم ضروري وهو المكان، فقال: {فاكهين} لأن مكان التنعيم قد ينتغص بأمور وبين سبب الفكاهة وعلو المرتبة يكون مما آتاهم الله، وقد ذكرنا هذا، وأما في الأكل والشرب والإذن المطلق فترك ذكر المأكول والمشروب لتنوعهما وكثرتهما، وقوله تعالى: {هنيئا} إشارة إلى خلوهما عما يكون فيها من المفاسد في الدنيا، منها أن الآكل يخاف من المرض فلا يهنأ له الطعام، ومنها أنه يخاف النفاد فلا يسخو بالأكل والكل منتف في الجنة فلا مرض ولا انقطاع، فإن كل أحد عنده ما يفضل عنه، ولا إثم ولا تعب في تحصيله، فإن الإنسان في الدنيا ربما يترك لذة الأكل لما فيه من تهيئة المأكول بالطبخ والتحصيل من التعب أو المنة أو ما فيه من قضاء الحاجة واستقذار ما فيه، فلا يتهنأ، وكل ذلك في الجنة منتف. وقوله تعالى: {بما كنتم تعملون} إشارة إلى أنه تعالى يقول أي مع أني ربكم وخالقكم وأدخلتكم بفضلي الجنة، وإنما منتي عليكم في الدنيا إذ هديتكم ووفقتكم للأعمال الصالحة...
وأما اليوم فلا من عليكم لأن هذا إنجاز الوعد.
فإن قيل: قال في حق الكفار {إنما تجزون ما كنتم تعملون} وقال في حق المؤمنين {بما كنتم تعملون} فهل بينهما فرق؟
(الأول) كلمة {إنما} للحصر أي لا تجزون إلا ذلك، ولم يذكر هذا في حق المؤمن فإنه يجزيه أضعاف ما عمل ويزيده من فضله، وحينئذ إن كان يمن الله على عبده فيمن بذلك لا بالأكل والشرب.
(الثاني) قال هنا {بما كنتم} وقال هناك {ما كنتم} أي تجزون عين أعمالكم إشارة إلى المبالغة في المماثلة كما تقول هذا عين ما عملت، وقد تقدم بيان هذا، وقال في حق المؤمن {بما كنتم} كأن ذلك أمر ثابت مستمر بعملكم هذا.
(الثالث) ذكر الجزاء هناك وقال هاهنا {بما كنتم تعملون} لأن الجزاء ينبئ عن الانقطاع فإن من أحسن إلى أحد فأتى بجزائه لا يتوقع المحسن منه شيئا آخر...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}...أي هذا بذاك، تفضلا منه وإحسانا.
الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي 875 هـ :
وأعمالُ العباد الصالحاتُ لا تُوجِبُ على اللَّه تعالى التنعيمَ إيجاباً؛ لكِنَّهُ سبحانه قد جعلها أَمارةً على مَنْ سبق في علمه تنعيمه، وعَلَّقَ الثوابَ والعِقَابَ بالتكسب الذي في الأعمال.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وحذف مفعول {كلوا واشربوا} لإِفادة النعيم، أي كلوا كل ما يؤكل واشربوا كلّ ما يشرب، وهو عموم عرفي، أي مما تشتهون. و {هنيئاً} اسم على وزن فعيل بمعنى مفعول وقع وصفاً لمصدرين لفعلي {كلوا واشربوا}، أكلاً وشرباً، فلذلك لم يؤنث الوصف لأن فعيلاً إذا كان بمعنى مفعول يلزم الإِفراد والتذكير. وتقدم في سورة النساء لأنه سالم مما يكدر الطعام والشراب. و (ما) موصولة، والباء سببية، أي بسبب العمل الذي كنتم تعملونه وهو العمل الصالح الذي يومئ إليه قوله: {المتقين} وفي هذا القول زيادة كرامة لهم بإظهار أن ما أوتوه من الكرامة عوض عن أعمالهم كما آذنت به باء السببية وهو نحو قول من يسدي نعمة إلى المنعم عليه: لا فضل لي عليك وإنما هو مالك، أو نحو ذلك...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} فليست الجنة منحةً دون مقابل، بل جزاء على العمل الصالح المنطلق من قاعدة الإيمان بالله...