اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{كُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ هَنِيٓـَٔۢا بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ} (19)

قوله : «كلوا واشربوا » أي يقال لهم كُلُوا واشربوا هنيئاً . وقد تقدم الكلام في : «هَنِيئاً » فِي النِّسَاء .

قال الزمخشري : هنا يقال لهم كلوا واشربوا أكلاً وشُرْباً هنيئاً أو طعاماً وشرباً هنيئاً . وهو الذي لاَ تَنْغَيصَ فِيهِ .

ويجوز أن يكون مثله في قوله :

هَنِيئاً مَرِيئاً غَيْرَ دَاءٍ مُخَامِرٍ *** لِعَزَّةَ مِنْ أَعْرَاضِنَا مَا اسْتَحَلَّتِ{[53140]}

أعني صفةً استعملت استعمال المصدر القائم مقام الفعل ، مرتفعاً به «ما اسْتَحَلَّت » كما يرتفع بالفعل كأنه قيل هَنّأ عَزَّةَ المُسْتَحَلُّ منْ أعْرَاضِنَا ، فكذلك{[53141]} معنى «هنيئاً » هُنَا{[53142]} هنّأَكُمُ الأَكْلُ والشُّرْبُ ، أو هَنَّأَكُمْ مَا كُنْتُم تَعْملونَ{[53143]} والباء مزيدة كما في «كَفَى بِاللَّهِ » والباء متعلقة بكُلُوا واشْرَبُوا إذا جعلت الفاعل الأكل والشرب{[53144]} . وهذا من محاسن كلامه .

قال أبو حيان : أما تجويزه زيادة الباب فليست بمَقِيسةٍ في الفاعل إلا في فاعل «كَفَى » على خلافٍ{[53145]} فيها فتجويزها هنا لا يسوغ .

وأما قوله : إنَّها تتعلق ب «كُلُوا واشْرَبُوا » فلا يصح إلا على الإعمال فهي تتعلق بأحدهما . انتهى{[53146]} . وهذا قريب .

قوله : «مُتَّكِئِينَ » فيه أوجه :

أحدها : أنه حال من فاعل : «كُلُوا » .

الثاني : أنه حال من فاعل : «أَتَاهُمْ » .

الثالث : أنه حال من فاعل : «وَقَاهُمْ » .

الرابع : أنه حال من الضمير المُسْتَكِنِّ في الظرف .

الخامس : أنه حال من الضمير في : «فَاكِهِينَ »{[53147]} .

وأحسنها أن يكون حالاً من ضمير الظرف{[53148]} لكونه عُمْدَةً .

وقوله : «عَلَى سُرُرٍ » متعلق ب «متَّكِئينَ » .

وقراءة العامة بضم الراء الأولى . وأبو السَّمَّال بفتحها{[53149]} . وقد تقدم أنها لغة لكَلْبٍ في المضعف يَفرونَ من تَوَالِي ضمتين في المضعف .

قوله : { وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ } قرأ عكرمةُ بحُورٍ عينٍ{[53150]} بإضافة الموصوف إلى صفته على التأويل المشهور{[53151]} .

فصل

اعلم أنه تعالى بين أسباب التنعيم على الترتيب ، فأول ما يكون المَسْكَن وهو الجَنّات ثم الأكل والشرب ، ثم الفرش والبسط ثم الأزواج ، فهذه أمور أربعة ذكرها الله على الترتيب ، وذكر في كل واحد منها ما يدل على كماله ، فقوله : «جَنّات » إشارة إلى المسكن وقال : «فاكهين » إشارة إلى عدم التَّنغُّص وعلو المرتبة بكونه مما آتاهم الله ، وقال : { كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً } أي مأمون العاقبة من التَّخَم والسَّقَم ، وترك ذكر المأكول والمشروب دلالة على تنوعهما وكثرتهما ، وقوله : { بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } إشارة إلى أنه تعالى يقول : إني مع كوني ربكم وخالقَكم وأدْخَلْتُكُم الجنة بفضلي فلا مِنَّة لي عليكم اليوم وإنما مِنَّتي عليكم كان في الدنيا هديتكم ووفقتكم للأعمال الصالحة كما قال : { بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ } [ الحجرات : 17 ] وأما اليوم فلا مِنَّةَ عليكم لأن هذا إِنجازُ الوَعْدِ{[53152]} .

فإن قيل : قال في حقّ الكفار : { إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } وقال في حق المؤمنين : { بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } فما الفرق بينهما ؟ .

فالجواب من وجوه :

الأول : أن كلمة «إنَّما » للحصر ، أي لا يجزون إلا ذلك ، ولم يذكر هذا في حق المؤمن ، لأنه يجزيه أضعاف ما عَمِلَ ، ويَزِيدُهُ من فضله .

الثاني : قال هنا : «بِمَا كُنْتُمْ » وقال هناك : { مَا كُنتُمْ } [ النمل : 90 ] أي تجزون عن أعمالكم . وهذا إشارة إلى المبالغة في المماثلة ، كأنه يقول : هذا عينُ ما عملت . وقوله في حق المؤمن : بِمَا كُنْتُم كأنَّ ذلك أمر ثابتٌ مستمرٌّ يفيدكم هذا .

الثالث : أنه ذكر الجزاء هناك ، وقال هنا : { بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } لأَنَّ الجزاء يُنْبِئ عن الانقطاع ، فإِن من أحسن إلى أحد فأتى بجزائه لا يتوقع المحسنُ منه شيئاً آخر .

فإن قيل : فاللَّه تعالى قال في موضع آخر : { بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ المرسلات : 43 ] في الثواب .

فالجواب : أنه في تلك المواضعِ لَمَّا لم يخاطب المجزيَّ ولم يقل : بما كنت تفعل أتى بما يفيد العلم بالدوام وعدم الانْقِطَاع . وأما في السرر فذكر أموراً :

أحدها : الاتّكاء فإنه هيئة مختصّة بالمنعم والفارغ الذي لا كُلْفَة عليه . وجمع السرر لأَمْرَيْنِ :

أظهرهما : أن يكون لكل واحد سُرَرٌ ؛ لأنه قوله : «مَصْفُوفة » يدل على أنه لواحدٍ ، لأن سرر الكل لا تكون في موضع واحد مصطفَّة ، ولفظ السَّرِير فيه حروف السُّرُور ، بخلاف التَّخْتِ وغيره ، وقوله : «مَصْفُوفَة » أي منتظمة بعضُها{[53153]} إلى جَنْبِ بعض فإِنها لو كانت متفرقة لقيل في كل موضع واحد يتكئ عليه صاحبه إذا حضر هذا الموضع . وقول تعالى : { وَزَوَّجْنَاهُم } إِشارة إلى النِّعمة الرابعة ، وفيها ما يدل على كمال الحال من وجوه :

الأول : أنه هو المزوج وهو الولي الذي يلي الطرفين يُزوج عباده بإِمائه ومن يكون كذلك لا يفعل إلا ما فيه راحة العباد والإماء .

الثاني : قال : «وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُور » ولم يقل : وَزَوَّجْنَاهُمْ حوراً مع أن لفظ التزويج يتعدى فعله إلى مفعولين بغير حرف ، تقول زَوَّجْتُكَهَا ، قال الله تعالى : { فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا } [ الأحزاب : 37 ] وذلك إشارة إلى أن المنفعة في التزويج لهم ، وإنما زوجوا للذتهم بالحور لا لِلَذَّة الحور بهم .

الثالث : عدم الاقتصار على الزوجات بل وصفهن بالحُسْن واختار الأحسن من الأحسن ، فإِنَّ أحْسَنَ ما في صورة الآدميِّ وَجْهُهُ ، وأحسنَ ما في الوجه العَيْنُ{[53154]} .


[53140]:من الطويل وهو لكُثيّر وهو بالديوان. والشاهد قد أوضحه أعلى وهو وقوع "هنيئا" صفة استعملت استعمال المصدر كما أوضحه أعلى وانظر الكشاف 4/24، وشرح شواهده 254 والبحر 8/148، وديوانه 1/49 الجزائر 1928.
[53141]:في الكشاف: وكذلك.
[53142]:وفيه: ههنا.
[53143]:وانظر الكشاف 4/23 و24.
[53144]:المرجع السابق.
[53145]:زيادة الباء في كفى غالبة وواجبة، وضرورة فالغالبة كما هنا في: "كفى بالله"، وقال الزجاج: دخلت الباء لتضمن كفى معنى اكتف. وقال ابن السّراج: الفاعل ضمير الاكتفاء وصحة قوله موقوفة على جواز تعلق الجار بضمير المصدر. وهو قول الفارسي والرماني أجازوا: "مُروري بزيد حسن وهو بعمرو قبيح" وانظر المغني في حرف "الباء" ص 106 و107 إلى 111.
[53146]:البحر 8/148.
[53147]:قاله بهذه الأوجه العُكبريّ في التبيان 1184.
[53148]:البحر السابق.
[53149]:على وزن فُعَل.
[53150]:وقد ذكر هاتين القراءتين أبو حيان في البحر المحيط 8/148 وكلتاهما شاذة.
[53151]:أي بزوجات حور عين.
[53152]:وانظر الرازي بالمعنى منه 28/248 و249.
[53153]:في (ب) بعضا.
[53154]:وانظر هذا في المرجع السابق 28/249.