قوله تعالى : { يوسف } ، يعني : يا يوسف ، { أيها الصديق } ، والصديق الكثير الصدق ، { أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات } ، فإن الملك رأى هذه الرؤيا ، { لعلي أرجع إلى الناس } ، أهل مصر ، { لعلهم يعلمون } ، تأويل الرؤيا . وقيل : لعلهم يعلمون منزلتك في العلم . فقال لهم يوسف معبرا ومعلما : أما البقرات السمان والسنبلات الخضر : فسبع سنين مخاصيب ، والبقرات العجاف والسنبلات اليابسات : فالسنون المجدبة ، فذلك قوله تعالى إخبارا عن يوسف : { قال تزرعون سبع سنين دأباً } .
وقوله { يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق أَفْتِنَا . . . } من بديع الإِيجاز بالحذف في القرآن الكريم ، لأن المحذوف لا يتعلق بذكره غرض .
والتقدير : قال لهم أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون إلى من عند العلم بذلك ، فأرسلوه فجاء إلى يوسف في السجن فقال له : يا يوسف يأيها الصديق .
والصديق : هو الإِنسان الذي صار الصدق دأبه وشيمته في كل أحواله ، ووصفه بذلك لأنه جرب منه الصدق التام أيام أن كان معه في السجن .
وقوله " أفتنا " أى فسر لنا تلك الرؤيا التي رآها الملك ، والتى عجز الناس عن تفسيرها ، وهى أن الملك رأى في منامه { سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ } .
وقوله { لعلي أَرْجِعُ إِلَى الناس لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ } تعليل لطلب الفتوى ، وبيان لأهميتها بالنسبة له وليوسف - عليه السلام .
أى : فسر لنا هذه الرؤيا { لعلي أَرْجِعُ إِلَى الناس } تعليل لطلب الفتوى ، وبيان لأهميتها بالنسبة له وليوسف - عليه السلام .
أى : فسر لنا هذه الرؤيا تأويلا مجردا بل يؤولها تأويلا صادقا صحيحا ، ومعه النصح والإِرشاد إلى ما يجب عمله في مثل هذه الأحوال ، فقال : - كما حكى القرآن عنه - : { قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَباً . . . }
أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون . ويسدل الستار هنا ، ليرفع في السجن على يوسف وصاحبه هذا يستفتيه :
( يوسف - أيها الصديق - أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف ، وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات ، لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون ) . .
والساقي يلقب يوسف بالصديق ، أي الصادق الكثير الصدق . وهذا ما جربه في شأنه من قبل . .
( أفتنا في سبع بقرات سمان . . . ) . .
ونقل ألفاظ الملك التي قالها كاملة ، لأنه يطلب تأويلها ، فكان دقيقا في نقلها ، وأثبتها السياق مرة أخرى ليبين هذه الدقة أولا ، وليجيء تأويلها ملاصقا في السياق لذكرها .
هذه الرؤيا من مَلك مصر مما قَدّر الله تعالى أنها كانت سببا لخروج يوسفَ ، عليه السلام ، من السجن مُعزَّزًا مكرما ، وذلك أن المَلك رأى هذه الرؤيا ، فهالته وتَعجَّب من أمرها ، وما يكون تفسيرها ، فجمع الكهنة والحُزَاة وكبراء دولته وأمراءه وقَصَّ عليهم ما رأى ، وسألهم عن تأويلها ، فلم يعرفوا ذلك ، واعتذروا إليه بأن هذه { أَضْغَاثُ أَحْلامٍ } أي : أخلاط اقتضت رؤياك هذه{[15192]} { وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحْلامِ بِعَالِمِينَ } أي : ولو كانت رؤيا صحيحة من أخلاط ، لما كان لنا معرفة بتأويلها ، وهو تعبيرها . فعند ذلك تَذَكَّرَ ذلك الذي نجا من ذينك الفتيين اللذين{[15193]} كانا في السجن مع يوسف ، وكان الشيطان قد أنساه ما وصّاه به يوسف ، من ذكر أمره للملك ، فعند ذلك تذكر { بَعْدَ أُمَّةٍ } أي : مدة - وقرأ بعضهم : " بعد أَمِةٍ " أي : بعد نسيان ، فقال للملك والذين جمعهم لذلك : { أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ } أي : بتأويل هذا المنام ، { فَأَرْسِلُونِ } أي : فابعثون إلى يوسف الصديق إلى السجن . ومعنى الكلام : فبعثوا{[15194]} فجاء . فقال : { يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا } وذكر المنام الذي رآه الملك ، فعند ذلك ذكر له يوسف ، عليه السلام ، تعبيرها من غير تعنيف لذلك الفتى في نسيانه ما وصاه به ، ومن غير اشتراط للخروج قبل ذلك ، بل قال : { تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا } أي{[15195]} يأتيكم الخصب والمطر سبع سنين متواليات ، ففسر البقر بالسنين ؛ لأنها تثير الأرض التي تُسْتغل منها الثمرات والزروع ، وهن السنبلات الخضر ، ثم أرشدهم إلى ما يعتمدونه في تلك السنين فقال : { فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلا قَلِيلا مِمَّا تَأْكُلُونَ } أي : مهما استغللتم{[15196]} في هذه السبع السنين الخصب فاخزنوه في سنبله ، ليكون أبقى له وأبعد عن إسراع الفساد إليه ، إلا المقدار الذي تأكلونه ، وليكن قليلا قليلا لا تسرفوا فيه ، لتنتفعوا في السبع الشداد ، وهن السبع السنين المُحْل التي تعقب هذه السبع متواليات ، وهن البقرات العجاف اللاتي يأكلن السِّمان ؛ لأن سني{[15197]} الجَدْب يؤكل فيها ما جَمَعَوه في سني{[15198]} الخصب ، وهن السنبلات اليابسات .
وأخبرهم أنهن لا ينبتن شيئا ، وما بذروه فلا يرجعون منه إلى شيء ؛ ولهذا قال : { يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلا قَلِيلا مِمَّا تُحْصِنُونَ }
ثم بشرهم بعد الجَدْب العام المتوالي بأنه يعقبهم بعد ذلك { عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ } أي : يأتيهم الغيث ، وهو المَطرُ ، وتُغل البلاد ، ويَعصرُ الناس ما كانوا يعصرون على عادتهم ، من زيت ونحوه ، وسكر ونحوه حتى قال بعضهم : يدخل{[15199]} فيه حلب اللبن أيضًا .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس { وَفِيهِ يَعْصِرُونَ } يحلبون .
{ يوسف أيها الصّديق } أي فأرسل إلى يوسف فجاءه فقال يا يوسف ، وإنما وصفه بالصديق وهو المبالغ في الصدق لأنه جرب أحواله وعرف صدقه في تأويل رؤياه ورؤيا صاحبه . { أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأُخر يابسات } أي في رؤيا ذلك . { لعلي أرجع إلى الناس } أعود إلى الملك ومن عنده ، أو إلى أهل البلد إذ قيل إن السجن لم يكن فيه . { لعلهم يعلمون } تأويلها أو فضلك ومكانك ، وإنما لم يبت الكلام فيهما لأنه لم يكن جازما بالرجوع فربما اخترم دونه ولا يعلمهم .
المعنى : فجاء الرسول - وهو الساقي - إلى يوسف فقال له : يا يوسف { أيها الصديق } - وسماه صديقاً من حيث كان جرب صدقه في غير شيء - وهو بناء مبالغة من صدق ، وسمي أبو بكر صديقاً من صدق غيره ، إذ مع كل تصديق صدق ، فالمصدق بالحقائق صادق أيضاً ، وعلى هذا سمي المؤمنون صديقين في قوله تعالى : { والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون }{[6707]} .
ثم قال : { أفتنا في سبع بقرات } أي فيمن رأى في منام سبع بقرات ، وحكى النقاش حديثاً روى فيه : أن جبريل عليه السلام دخل على يوسف في السجن وبشره بعطف الله تعالى عليه ، وأخرجه من السجن وأنه قد أحدث للملك منامة جعلها سبباً لفرج يوسف . ويروى أن الملك كان يرى { سبع بقرات سمان } يخرجن من نهر ، وتخرج وراءها { سبع عجاف } ، فتأكل العجاف السمان ، فكان يعجب كيف غلبتها وكيف وسعت السمان في بطون العجاف{[6708]} ، وكان يرى { سبع سنبلات خضر } وقد التفت بها سبع يابسات ، حتى كانت تغطي خضرتها فعجب أيضاً لذلك .
وقوله : { لعلهم يعلمون } أي تأويل هذه الرؤيا ، فيزول هم الملك لذلك وهم الناس . وقيل : { لعلهم يعلمون } مكانتك من العلم وكنه فضلك فيكون ذلك سبباً لتخلصك .