قوله تعالى : { وأنه هو أضحك وأبكى } فهذا يدل على أن كل ما يعمله الإنسان فبقضائه وخلقه حتى الضحك والبكاء ، قال مجاهد والكلبي : أضحك أهل الجنة في الجنة ، وأبكى أهل النار في النار . وقال الضحاك : أضحك الأرض بالنبات ، وأبكى السماء بالمطر . قال عطاء بن أبي مسلم : يعني أفرح وأحزن ، لأن الفرح يجلب الضحك ، والحزن يجلب البكاء .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا عبد الرحمن بن أبي شريح ، أنبأنا أبو القاسم البغوي ، حدثنا علي بن الجعد ، أنبأنا قيس ، هو ابن الربيع الأسدي ، حدثنا سماك ابن حرب قال : قلت لجابر بن سمرة : أكنت تجالس النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم وكان أصحابه يجلسون ويتناشدون الشعر ، ويذكرون أشياء من أمر الجاهلية ، فيضحكون ويتبسم معهم إذا ضحكوا -يعني النبي صلى الله عليه وسلم . وقال معمر عن قتادة : سئل ابن عمر هل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحكون ؟ قال : نعم ، والإيمان في قلوبهم أعظم من الجبل .
{ وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبكى } أى : وأنه - سبحانه - هو الذى أوجد فى هذا الكون ما يحيط بالإنسان من مؤثرات ومن مشاعر مختلفة : تارة يضحك وتارة يبكى .
وما أكثر هذه المؤثرات والأحوال والاعتبارات والدوافع . . . فى حياة الإنسان .
فالآية الكريمة انتقال من وجوب الاعتبار بأحوال الآخرة إلى وجوب الاعتبار بأحوال الإنسان ، وبما يحيط به من مؤثرات تارة تضحكه وتارة تبكيه .
وأسند - سبحانه - الفعلين إليه ؛ لأنه هو خالقهما ، وهو الموجد لأسبابهما .
وحذف - سبحانه - المفعول به لهما ، لأنهما هما المقصودان بالذات ، لدلالتهما على كمال قدرته - تالى - أى : وأنه وحده - عز وجل - هو الذى أوجد فى الإنسان الضحك والبكاء ، فالفعلان منزلان منزلة الفعل اللازم .
وقدم - سبحانه - الضحك على البكاء ، للإشعار بمزيد فضله ومنته على عباده .
وبعدما يصل السياق بالقلب البشري إلى نهاية المطاف يكر راجعا به إلى الحياة ، يريه فيها آثار مشيئة الله . في كل مرحلة ، وفي كل حال :
وتحت هذا النص تكمن حقائق كثيرة . ومن خلاله تنبعث صور وظلال موحية مثيرة . .
أضحك وأبكى . . فأودع هذا الإنسان خاصية الضحك وخاصية البكاء . وهما سر من أسرار التكوين البشري لا يدري أحد كيف هما ، ولا كيف تقعان في هذا الجهاز المركب المعقد ، الذي لا يقل تركيبه وتعقيده النفسي عن تركيبه وتعقيده العضوي . والذي تتداخل المؤثرات النفسية والمؤثرات العضوية فيه وتتشابكان وتتفاعلان في إحداث الضحك وإحداث البكاء .
وأضحك وأبكى . . فأنشأ للإنسان دواعي الضحك ودواعي البكاء . وجعله - وفق أسرار معقدة فيه - يضحك لهذا ويبكي لهذا . وقد يضحك غدا مما أبكاه اليوم . ويبكي اليوم مما أضحكه بالأمس . في غير جنون ولا ذهول إنما هي الحالات النفسية المتقلبة . والموازين والدواعي والدوافع والاعتبارات التي لا تثبت في شعوره على حال !
وأضحك وأبكى . . فجعل في اللحظة الواحدة ضاحكين وباكين . كل حسب المؤثرات الواقعة عليه . وقد يضحك فريق مما يبكي منه فريق . لأن وقعه على هؤلاء غير وقعه على أولئك . . وهو هو في ذاته . ولكنه بملابساته بعيد من بعيد !
وأضحك وأبكى . من الأمر الواحد صاحبه نفسه . يضحك اليوم من الأمر ثم تواجهه عاقبته غدا أو جرائره فإذا هو باك . يتمنى أن لم يكن وأن لم يكن ضحك وكم من ضاحك في الدنيا باك في الآخرة حيث لا ينفع البكاء !
هذه الصور والظلال والمشاعر والأحوال . . وغيرها كثير تنبثق من خلال النص القصير ، وتتراءى للحس والشعور . وتظل حشود منها تنبثق من خلاله كلما زاد رصيد النفس من التجارب ؛ وكلما تجددت عوامل الضحك والبكاء في النفوس - وهذا هو الإعجاز في صورة من صوره الكثيرة في هذا القرآن .
وذكر الضحك والبكاء لأنهما صفتان تجمعان أصنافاً كثيرة من الناس ، إذ الواحدة دليل السرور ، والأخرى دليل الحزن في الدنيا والآخرة ، فنبه تعالى على هاتين الخاصتين اللتين هما للإنسان وحده ، وقال مجاهد المعنى : { أضحك } الله أهل الجنة { وأبكى } أهل النار{[10729]} . وحكى الثعلبي في هذا أقوالاً استعارية كمن قال { أضحك } الأرض بالنبات ، { وأبكى } السماء بالمطر ، ونحوه : و { أمات وأحيا } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم أخبره عن صنعه، فقال: {وأنه هو أضحك وأبكى} يقول: أضحك واحدا وأبكى آخر، وأيضا أضحك أهل الجنة، وأبكى أهل النار...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"وأنّهُ هُوَ أضْحَكَ وأبْكَى "يقول تعالى ذكره: وأن ربك هو أضحك أهل الجنة في الجنة بدخولهم إياها، وأبكى أهل النار في النار بدخولهموها، وأضحك من شاء من أهل الدنيا، وأبكى من أراد أن يبكيه منهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وأنه هو أضحك وأبكى} بيّن الله، جلّ، وعلا، قدرته وسلطانه في إنشاء أنفسهم وأحوالهم وأفعالهم. أما بيان قدرته في أنفسهم فحين قال: {هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجِنة في بطون أمهاتكم} [الآية: 32]. وأما بيان قدرته في أحوالهم فما ذكر من قوله تعالى: {وأنه هو أغنى وأقنى} [الآية: 48] {وأنه هو أمات وأحيا} [الآية: 44]. وأما في أفعالهم فقوله: {وأنه هو أضحك وأبكى}. يذكر قدرته وسلطانه بما ذكر ليعلموا أنه لا يُعجزه شيء. ثم قوله عز وجل: {وأنه هو أضحك وأبكى} يخرّج على وجهين:
أحدهما: على الكناية والاستعارة؛ جعل الضحك كناية عن السرور، والبكاء كناية عن الحُزن. وكذا العُرف في الناس أنه إذا اشتدّ بهم السرور ضحكوا، وإذا اشتد بهم الحزن بكوا.
والثاني: على حقيقة الضحك والبكاء، فهو على وجهين:
أحدهما: أي أنشأهم بحيث يضحكون، ويبكون.
والثاني: يخلُق منهم فعل الضحك والبكاء؛ فهو أشبه التأويلين عندنا...
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
وفي هذا تنبيه على أن جميع الأعمال بقضاء الله وقدره حتى الضحك والبكاء.
{أضحك وأبكى} لا مفعول لهما في هذا الموضع لأنهما مسوقتان لقدرة الله لا لبيان المقدور، فلا حاجة إلى المفعول. يقول القائل: فلأن بيده الأخذ والعطاء يعطي ويمنع ولا يريد ممنوعا ومعطى.
اختار هذين الوصفين للذكر والأنثى لأنهما أمران لا يعللان فلا يقدر أحد من الطبيعيين أن يبدي في اختصاص الإنسان بالضحك والبكاء وجها وسببا، وإذا لم يعلل بأمر ولا بد له من موجد فهو الله تعالى، بخلاف الصحة والسقم فإنهم يقولون: سببهما اختلال المزاج وخروجه عن الاعتدال، ويدلك على هذا أنهم إذا ذكروا في الضحك أمرا له الضحك قالوا: قوة التعجب، وهو في غاية البطلان لأن الإنسان ربما يبهت عند رؤية الأمور العجيبة ولا يضحك، وقيل: قوة الفرح، وليس كذلك لأن الإنسان يفرح كثيرا ولا يضحك، والحزين الذي عند غاية الحزن يضحكه المضحك، وكذلك الأمر في البكاء، وإن قيل لأكثرهم علما بالأمور التي يدعيها الطبيعيون إن خروج الدمع من العين عند أمور مخصوصة لماذا؟ لا يقدر على تعليل صحيح، وعند الخواص كالتي في المغناطيس وغيرها ينقطع الطبيعي، كما أن عند أوضاع الكواكب ينقطع هو والمهندس الذي لا يفوض أمره إلى قدرة الله تعالى وإرادته...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
يوقف ما يشاء على ما يريد من الأسباب التي تفعل بإذنه من الضحك أو البكاء وغيرهما من الأمور المنافية التي لولا الإلف لها لقضى الإنسان أن المتلبس بأحدهما لا يتلبس بضده أصلاً ومن غيرها {وأنه} ولما كانت التأثيرات الإدراكية تحال على أسبابها، أكد الكلام فيها فقال: {هو} أي لا غيره {أضحك وأبكى} أي ولا يعلم أحد قبل وقت الضحك أو البكاء أنه يضحك أو يبكي ولا أنه يأتيه ما يعجبه أو يحزنه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
. فأودع هذا الإنسان خاصية الضحك وخاصية البكاء. وهما سر من أسرار التكوين البشري لا يدري أحد كيف هما، ولا كيف تقعان في هذا الجهاز المركب المعقد، الذي لا يقل تركيبه وتعقيده النفسي عن تركيبه وتعقيده العضوي. والذي تتداخل المؤثرات النفسية والمؤثرات العضوية فيه وتتشابكان وتتفاعلان في إحداث الضحك وإحداث البكاء. وأضحك وأبكى.. فأنشأ للإنسان دواعي الضحك ودواعي البكاء. وجعله -وفق أسرار معقدة فيه- يضحك لهذا ويبكي لهذا. وقد يضحك غدا مما أبكاه اليوم. ويبكي اليوم مما أضحكه بالأمس. في غير جنون ولا ذهول إنما هي الحالات النفسية المتقلبة...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فذكر الضحك والبكاء يفيد الإحاطة بأحوال الإِنسان بإيجاز ويرمز إلى أسباب الفرح والحزن ويذكر بالصانع الحكيم، ويبشر إلى أن الله هو المتصرف في الإنسان لأنه خلق أسباب فرحه ونكده وألهمه إلى اجتلاب ذلك بما في مقدوره وجعل حداً عظيماً من ذلك خارجاً عن مقدور الإِنسان وذلك لا يمتري فيه أحد إذا تأمل وفيه ما يرشد إلى الإِقبال على طاعة الله والتضرع إليه ليقدّر للناس أسباب الفرح، ويدفع عنهم أسباب الحزن وإنما جرى ذكر هذا في هذا المقام لمناسبة أن الجزاء الأوفى لسعي الناس: بعضه سارٌّ لفريق وبعضه محزن لفريق آخر.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ...}.
قوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ} [النجم: 43] أي: خلق فيك الضحك وخلق فيك البكاء جعلك تُسر وتحزن، أنت مثلاً حينما تشاهد عملاً (كوميدياً) تضحك، (فالكوميديا) سبَّبتْ عندك الضحك، لكن لم تخلق فيك طبيعة الضحك.
لذلك لما كان في هذا الفعل شبهة المشاركة أكّد الحق سبحانه تفرّده بالعمل، فلا دخلَ لأحد غيره فيه، فقال تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ..} [النجم: 43] فأكّد الضمير المتصل بضمير آخر منفصل، فهو وحده الذي جعلك تضحك، بمعنى خلق فيك هذه الطبيعة وجعلك صالحاً لها.
لذلك نجد أن المشاعر والعواطف والأمور الطبيعية في البشر تتحد في جميع اللغات وعند كل الشعوب على اختلافها، فليس هناك مثلاً ضحك عربي، وضحك إنجليزي أو ألماني، ليس هناك بكاء روسي، وبكاء ياباني.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ثمّ يضيف القرآن في الآية التالية مبيّناً حاكمية الله في أمر ربوبيته وانتهاء أمور هذا العالم إليه فيقول: (وأنّه هو أضحك وأبكى وأنّه هو أمات وأحيا وأنّه خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى)!
وهذه الآيات الأربع وما قبلها في الحقيقة هي بيان جامع وتوضيح طريف لمسألة انتهاء الأمور إليه وتدبيره وربوبيته، لأنّها تقول: إنّ موتكم وحياتكم بيده واستمرار النسل عن طريق الزوجين بيده، وكلّ ما يحدث في الحياة فبأمره، فهو يضحك، وهو يبكي، وهو يميت، وهو يحيي، وهكذا فإنّ أساس الحياة والمعوّل عليه من البداية حتّى النهاية هو ذاته المقدّسة...
وما يسترعي النظر أنّ القرآن أشار إلى صفتي الضحك والبكاء دون سائر أفعال الإنسان، لأنّ هاتين الصفتين خاصّتان بالإنسان وغير موجودتين في الحيوانات الأخر أو نادرتان جدّاً.
أمّا تصوير انفعالات الإنسان عند الضحك أو البكاء وعلاقتهما بالتغيّرات في نفس الإنسان وروحه فإنها غريبة وعجيبة جدّاً، وكلّ هذه الأمور في مجموعها يمكن أن تكون آية واضحة من آيات المدبّر الحقّ، بالإضافة إلى التناسب الموجود بين الضحك والبكاء والحياة والفناء!
وعلى كلّ حال، فانتهاء جميع الأمور إلى تدبير الله وربوبيته لا ينافي أصل الاختيار وحرية إرادة الإنسان، لأنّ الاختيار وحرية الإرادة في الإنسان أيضاً من قِبَلِ الله وتدبيره وتنتهي إليه!.