القول في تأويل قوله تعالى : { وَاللّهُ أَنْزَلَ مِنَ الْسّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } .
يقول تعالى ذكره منبه خَلقِه على حججه عليهم في توحيده ، وأنه لا تنبغي الألوهة إلا له ، ولا تصلح العبادة لشيء سواه : أيها الناس معبودكم الذي له العبادة دون كلّ شيء ، أنْزَلَ مِنَ السّماء ماءً ، يعني : مطرا ، يقول : فأنبت بما أنزل من ذلك الماء من السماء الأرض الميتة التي لا زرع بها ولا عُشْبَ ولا نبت بَعْدَ مَوْتِها ، بعد ما هي ميتة لا شيء فيها ، إن في ذلكَ لآيةً ، يقول تعالى ذكره : إن في إحيائنا الأرض بعد موتها بما أنزلنا من السماء من ماء ، لدليلاً واضحا وحجة قاطعة ، عذر من فكر فيه لَقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ، يقول : لقوم يسمعون هذا القول فيتدبرونه ويعقلونه ، ويطيعون الله بما دلهم عليه .
انتهى الكلام المعترض به وعاد الكلام إلى دلائل الانفراد بالخلق مع ما أدمج فيه ذلك من التذكير بالنّعم . فهذه منّة من المنن وعبرة من العبر وحجّة من الحجج المتفرّعة عن التذكير بنعم الله والاعتبار بعجيب صنعه .
عاد الكلام إلى تعداد نعم جمّة ومعها ما فيها من العبر أيضاً جمعاً عجيباً بين الاستدلال ووصلاً للكلام المفارَق عند قوله تعالى : { وبالنجم هم يهتدون } [ سورة النحل : 16 ] ، كما علمته فيما تقدم . فكان ذكر إنزال الماء في الآية السابقة مسوقاً مساق الاستدلال ، وهو هنا مسوق مساق الامتنان بنعمة إحياء الأرض بعد موتها بالماء النازل من السماء .
وبهذا الاعتبار خالفت هذه النّعمة النّعمة المذكورة في قوله سابقاً { هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر } [ سورة النحل : 10 ] باختلاف الغرض الأوّلي ، فهو هنالك الاستدلال بتكوين الماء وهنا الامْتنان .
وبناء الجملة على المسند الفعلي لإفادة التخصيص ، أي الله لا غيره أنزل من السماء ماء . وذلك في معنى قوله تعالى : { هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء } [ سورة الروم : 40 ] . وإظهار اسم الجلالة دون الإضمار الذي هو مقتضى الظاهر لقصد التّنويه بالخبر إذ افتتح بهذا الاسم ، ولأن دلالة الاسم العلم أوضح وأصرح . فهو مقتضى مقام تحقيق الانفراد بالخلق والإنعام دون غيره من شركائهم ، لأن المشركين يقرّون بأن الله هو فاعل هذه الأشياء .
وإحياء الأرض : إخراج ما فيه الحياة ، وهو الكلأ والشجر . وموتها ضد ذلك ، فتعدية فعل ( أحيا ) إلى الأرض تعدية مجازية . وقد تقدم عند قوله تعالى : { فأحيا به الأرض بعد موتها } في سورة البقرة ( 164 ) ، وتقدّم وجه العبرة في آية نزول المطر هنالك .
وجملة { إن في ذلك لآية } مستأنفة . والتأكيد ب { إنّ } ولام الابتداء لأن من لم يهتد بذلك إلى الوحدانية ينكرون أن القوم الذين يسمعون ذلك قد علموا دلالته على الوحدانية ، أي ينكرون صلاحية ذلك للاستدلال .
والإتيان باسم الإشارة دون الضمير ليكون محل الآية جميعَ المذكورات من إنزال المطر وإحياء الأرض به وموتها من قبل الإحياء .
والكلام في « قوم يسمعون » كالكلام في قوله آنفاً : { لقوم يؤمنون } [ سورة النحل : 64 ] .
والسمع : هنا مستعمل في لازم معناه على سبيل الكناية ، وهو سماع التدّبر والإنصاف لما تدبّروا به . وهو تعريض بالمشركين الذين لم يفهموا دلالة ذلك على الوحدانية . ولذلك اختير وصف السمع هنا المراد منه الإنصاف والامتثال لأن دلالة المطر وحياة الأرض به معروفة مشهورة ودلالة ذلك على وحدانية الله تعالى ظاهرة لا يصدّ عنها إلا المكابرة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم ذكر صنعه ليعرف توحيده، فقال تعالى: {والله أنزل من السماء ماء}، يعني: المطر،
{فأحيا به الأرض بعد موتها}، بالنبات،
{إن في ذلك لآية}، يقول: إن في المطر والنبات لعبرة وآية،
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره منبه خَلقِه على حججه عليهم في توحيده، وأنه لا تنبغي الألوهة إلا له، ولا تصلح العبادة لشيء سواه: أيها الناس معبودكم الذي له العبادة دون كلّ شيء، "أنْزَلَ مِنَ السّماء ماءً"، يعني: مطرا، يقول: فأنبت بما أنزل من ذلك الماء من السماء الأرض الميتة التي لا زرع بها ولا عُشْبَ ولا نبت، "بَعْدَ مَوْتِها": بعد ما هي ميتة لا شيء فيها، "إن في ذلكَ لآيةً"، يقول تعالى ذكره: إن في إحيائنا الأرض بعد موتها بما أنزلنا من السماء من ماء، لدليلاً واضحا وحجة قاطعة، عذر من فكر فيه "لَقَوْمٍ يَسْمَعُونَ"، يقول: لقوم يسمعون هذا القول فيتدبرونه ويعقلونه، ويطيعون الله بما دلهم عليه...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
إنه لا فرق بين الإحياءين: الأنفس والنبات. فمن قدر على أحدهما، قدر على الآخر... {لآية لقوم يسمعون} الآيات والحجج...
{يسمعون} ينتفعون بسماعهم... وأصله أن هذا كله، يصير آية للمؤمنين على ما ذكر كله؛ لأنهم هم العاقلون عن الله: ما أمرهم به، ونهاهم عنه، وهم يسمعون آياته ومواعظه. وكله كناية عن المؤمنين، والله أعلم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
سماع إنصاف وتدبر؛ لأنّ من لم يسمع بقلبه، فكأنه أصم لا يسمع...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
لما أمره بتبيين ما اختلف فيه، نص العبر المؤدية إلى تبيين أمر الربوبية، فبدأ بنعمة المطر التي هي أبين العبر، وهي ملاك الحياة، وهي في غاية الظهور، لا يخالف فيها عاقل،... و «حياة الأرض وموتها»، استعارة وتشبيه بالحيوان، فإذ هي هامدة غبراء غير منبتة، فهي كالميت، وإذ هي منبتة مخضرة مهتزة رابية، فهي كالحي...
{يسمعون}، يدل على ظهور هذا المعتبر فيه وبيانه؛ لأنه لا يحتاج إلى تفكر ولا نظر قلب، وإنما يحتاج المنبه إلى أن يسمع القول فقط...
كلما امتد الكلام في فصل من الفصول في وعيد الكفار عاد إلى تقرير الآلهيات، وقد ذكرنا في أول هذه السورة أنه تعالى لما أراد ذكر دلائل الآلهيات ابتدأ بالأجرام الفلكية، وثنى بالإنسان، وثلث بالحيوان، وربع بالنبات، وخمس بذكر أحوال البحر والأرض، فههنا في هذه الآية لما عاد إلى تقرير دلائل الإلهيات بدأ أولا بذكر الفلكيات... والمراد بحياة الأرض نبات الزرع والشجر والنور والثمر بعد أن كان لا يثمر، وينفع بعد أن كان لا ينفع...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
ونقول: لما ذكر إنزال الكتاب للتبيين كان القرآن حياة الأرواح وشفاء لما في الصدور من علل العقائد، ولذلك ختم بقوله: لقوم يؤمنون أي: يصدقون. والتصديق محله القلب، فكذا إنزال المطر الذي هو حياة الأجسام وسبب لبقائها...
ثم أشار بإحياء الأرض بعد موتها إلى إحياء القلوب بالقرآن، كما قال تعالى: {أو من كان ميتاً فأحييناه} فكما تصير الأرض خضرة بالنبات نضرة بعد همودها، كذلك القلب يحيا بالقرآن بعد أن كان ميتاً بالجهل...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما انقضى الدليل على أن قلوبهم منكرة استكباراً وما يتعلق به، وختمه بما أحيا به القلوب بالإيمان والعلم، بعد موتها بالكفر والجهل، وكان المقصود الأعظم من القرآن تقرير أصول أربعة: الإلهيات، والنبوات، والمعاد، وإثبات القضاء والقدر والفعل بالاختيار، وكان أجل هذه المقاصد الإلهيات، شرع في أدلة الوحدانية والقدرة والفعل بالاختيار، المستلزم للقدرة على البعث على وجه غير المتقدم؛ ليعلم أن أدلة ذلك أكثر من أوراق الأشجار، وأجلى من ضياء النهار، فعطف على قوله: {والله يعلم ما تسرون وما تعلنون}، قوله جامعاً في الدليل بين العالم العلوي والعالم السفلي: {والله}، أي: الذي له الأمر كله، {أنزل من السماء}، في الوقت الذي يريده، {ماء}، بالمطر والثلج والبرد، {فأحيا به الأرض} الغبراء. ولما كانت عادته بذلك مستمرة، وكان السياق لإثبات دعائم الدين، وكان الإحياء بالماء لا يزال أثره قائماً في زرع أو شجر في بعض الأراضي، أعرى الظرف من الجار؛ لأن المعنى به أبلغ فقال: {بعد موتها}، باليبوسة والجدب وتفتت النبات أصلاً ورأساً.
ولما كان ما أقامه على ذلك في هذه السورة من الأدلة قد صار إلى حد لا يحتاج معه السامع العاقل إلى أكثر من السماع، قال تعالى: {إن في ذلك}، الماء المؤثر بتدبيره هذا الأثر العظيم، {لآية لقوم يسمعون}، هذا التنبيه في هذا الأسلوب المتضمن لما مضى من التشبيه، فيعلمون أنه ينزل من أمره ما يريده، فيحيي به أجساد العباد بعد موتها، كما أحيا أجساد النبات بالماء بعد موتها، وأرواح الأشباح بالعلم بعد موتها، والحاصل أن هذه الأدلة لا تحتاج مع الحس إلى كبير عمل بالقلب غير الانقياد إلى الحق، وترك العناد والجهل، فهو من سماع الأذن، وما ينشأ عنه من الإجابة، استعمالاً للشيء في حقيقته ومجازه، ولعله لم يختمها ب "يبصرون "لئلا يظن أن ذلك من البصيرة، فيظن أنه يحتاج فيها إلى كبير فكر، فيفوت ما أريد من الإشارة إلى شدة الوضوح.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والماء حياة كل حي: والنص يجعله حياة للأرض كلها على وجه الشمول لكل ما عليها ومن عليها. والذي يحول الموت إلى حياة هو الذي يستحق أن يكون إلها...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
انتهى الكلام المعترض به وعاد الكلام إلى دلائل الانفراد بالخلق مع ما أدمج فيه ذلك من التذكير بالنّعم. فهذه منّة من المنن وعبرة من العبر وحجّة من الحجج المتفرّعة عن التذكير بنعم الله والاعتبار بعجيب صنعه...
عاد الكلام إلى تعداد نعم جمّة ومعها ما فيها من العبر أيضاً جمعاً عجيباً بين الاستدلال ووصلاً للكلام المفارَق عند قوله تعالى: {وبالنجم هم يهتدون} [سورة النحل: 16]، كما علمته فيما تقدم. فكان ذكر إنزال الماء في الآية السابقة مسوقاً مساق الاستدلال، وهو هنا مسوق مساق الامتنان بنعمة إحياء الأرض بعد موتها بالماء النازل من السماء...
وبناء الجملة على المسند الفعلي لإفادة التخصيص، أي الله لا غيره أنزل من السماء ماء. وذلك في معنى قوله تعالى: {هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء} [سورة الروم: 40]...
وإظهار اسم الجلالة دون الإضمار الذي هو مقتضى الظاهر لقصد التّنويه بالخبر إذ افتتح بهذا الاسم، ولأن دلالة الاسم العلم أوضح وأصرح. فهو مقتضى مقام تحقيق الانفراد بالخلق والإنعام دون غيره من شركائهم، لأن المشركين يقرّون بأن الله هو فاعل هذه الأشياء...
وإحياء الأرض: إخراج ما فيه الحياة، وهو الكلأ والشجر. وموتها ضد ذلك... والإتيان باسم الإشارة دون الضمير ليكون محل الآية جميعَ المذكورات من إنزال المطر وإحياء الأرض به وموتها من قبل الإحياء...
والسمع: هنا مستعمل في لازم معناه على سبيل الكناية، وهو سماع التدّبر والإنصاف لما تدبّروا به. وهو تعريض بالمشركين الذين لم يفهموا دلالة ذلك على الوحدانية. ولذلك اختير وصف السمع هنا المراد منه الإنصاف والامتثال لأن دلالة المطر وحياة الأرض به معروفة مشهورة ودلالة ذلك على وحدانية الله تعالى ظاهرة لا يصدّ عنها إلا المكابرة...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وهذه جولةٌ كونية في آفاق نعم الله التي خلقها لعباده من أجل أن تستمر بها حياتهم، وتتلون بأنواع الملذات والمشتهيات، ليعبدوه، من موقع أنه الإله المنعم الواحد، وليشكروه من مواقع هذه النعم التي لا حياة لهم بدونها. وذلك هو الأسلوب القرآني في إثارة وعي الإنسان بربه، من خلال انفتاحه على الحياة، حيث تتحرك خطوات العقيدة في فكره من تحسس الحياة في وجدانه، فلا ينفصل جانب العقيدة عن جانب الحياة، وهكذا يحس الإنسان المؤمن بحضور الله معه من خلال كل النعم التي تحيط به من كل جانب...