قوله تعالى : { ولما جاءهم رسول من عند الله } . يعني محمداً .
قوله تعالى : { مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم } . يعني التوراة وقيل : القرآن .
قوله تعالى : { كأنهم لا يعلمون } . قال الشعبي : كانوا يقرؤون التوراة ولا يعلمون بها ، وقال سفيان بن عينية : أدرجوها في الحرير والديباج وحلوها بالذهب والفضة ولم يعملوا بها فذلك نبذهم .
ثم تحدث القرآن بعد ذلك عن نبذ اليهود لكتاب الله ، واتباعهم للسحر والأوهام ، فقال - تعالى - : { وَلَمَّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ . . . }
المعنى : وحين جاء اليهود وأحبارهم رسول من عند الله ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة ، طرح فريق كبير منهم تعاليم التوراة التي تشهد بصدقه ، وراء ظهورهم ، حتى لكأنهم يجهلون أنها من عند الله
واتعبوا ما قصته واختلقته الشياطين من السحر والأوهام والمفتريات على عهد سليمان - عليه السلام - ومن هذه المفتريات والأكاذيب زعمهم أن سليمان - عليه السلام - كان ساحراً ، وما تم له ملكه العريض ، ولا ظهرت على يديه المعجزات الباهرة من تسخير الجن والريح إلا بهذا .
وقد أكذبهم الله - تعالى - في هذه الزعم بقوله : { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ } أي : بتعلم السحر والعمل به ، كما يزعم هؤلاء { ولكن الشياطين } هم الذين { كَفَرُواْ } بتعلم السحر وتعليمه للناس ، وتعليمهم - أيضاً - ضرباً آخر منه وهو { وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الملكين بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ } من وصف السحر وما هيته وكيفية الاحتيال به ، ولقد كان المكان لا يعلمان أحدا من الناس السحر حتى ينصحاه بقولهما : إن السحر الذي نعلمك إياه القصد منه التمييز بين المطيع والعاصي ، وبين السحر والمعجزة ، فحذار أن تستعلمه فيما نهيت عنه فتكون من الكافرين ، بخلاف الشياطين فإنهم تعلموه وعلموه لغيرهم لاستعماله في الشرور والآثام ، ولإحداث التفرقة بين الزوجين ، ولكن هذا السحر الذي يتعاطاه الشياطين وأتباعهم لن يضر أحداً بذاته ، وإنما ضرره يتأتى إذا أراد الله تعالى - ذلك وشاءه ، ولقد علم أولئك النابذون لكتاب الله المؤثرون عليه اتباع السحر ، أن من استبدل السحر بكتاب الله ، فليس له نصيب من نعيم الجنة ، { وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } علماً نافعاً . { وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ } بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم كما أرشدتهم إليه التوراة ، { واتقوا } المعاصي والآثام لأثيبوا مثوبة من عند الله هي خير لهم مما آثروه واختاروه على كتاب الله { لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } .
وقوله تعالى : { وَلَمَّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب كِتَابَ الله وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ } . . إلخ الآية .
بيان لما صدر عن اليهود من تكذيب للرسول صلى الله عليه وسلم وطرح لتعاليم كتابهم التي أمرتهم باتباعه .
أخرج ابن جرير عن السدى قال في قوله تعالى : { وَلَمَّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب كِتَابَ الله وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين على مُلْكِ سُلَيْمَانَ } أي لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم عارضوه بالتوراة فخاصموه بها .
فاتفقت التوراة والقرآن ، فنبذوا التوراة والقرآن وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت ، فذلك قول الله { كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أي كأن هؤلاء الذين نبذوا كتاب الله من علماء اليهود ، فنقضوا عهد الله ، لا يعلمون ما في التوراة من الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه .
وفي وصف الرسول بأنه آت من عند الله تعظيم له ، ومبالغة في انكار عدم إيمانهم به ، وإغراء للناس جميعاً بالدخول في دعوته ، لأنه ليس رسولا من تلقاء نفسه ، وإنما هو رسول من عند الله - تعالى - :
والمراد { لِّمَا مَعَهُمْ } التوراة . وتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم لها ، معناه أن ما جاء به من تعاليم موافق لها في أصول الدين ، وأن ما جاءت به من صفات للرسول المنتظر بعد عيسى - عليه السلام - لا تنطبق إلا عليه صلى الله عليه وسلم .
وعبر - سبحانه - عن تركهم العمل بالكتاب الذي نزل لهدايتهم بالنبذ ، مبالغة في عدم اعتدادهم ، وتناسبهم إياه ، لأن أصل النبذ طرح وإلقاء ما لا يعتد به .
وفي إسناد النبذ إلى فريق من الذين أوتوا الكتاب ، سخرية بهم ، واستجهال لهم ، لأن الذين أوتوه هم الذين نبذوه ، ولو كان النابذون من المشركين لكان لهم بعض العذر لجهلهم ، ولكن أن يكون التاركون للنور هم الذين أوتوه وأكرموا به ، فذلك هو الضلال المبين .
والمراد من { كِتَابَ الله } الذي نبذوه لما جاءهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التوراة ، لأنهم لو كانوا مؤمنين بها حقاً ، لاتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم الذي ذكرت صفاته فيها ، والذي وجب عليهم بقتضى كتابهم التوراة الإِيمان به ، فهم بجحودهم لنبوته ، يكونون جاحدين لتوراتهم التي شهدت له بالصدق .
وقيل المراد بكتاب الله الذي نبذوه القرآن ، لأنهم لم يؤمنوا به ، بل تركوه بعد سماعه ، وتناسوا ما اشتمل عليه من هداية وإرشاد ، مع أنه كان من المتحتم عليهم أن يتلقوه بالقبول .
والذي نراه أن الرأي الأول أرجح ، لأن النبذ يقتضي سابقة الأخذ ، في الجملة . وهو متحقق بالنسبة للتوراة ، بخلاف القرآن الكريم فإنهم لم يسبق لهم أن تمسكوا به ، ولأن مذمتهم تكون أشد وجحودهم أكثر ، إذا كان المراد بالكتاب الذي نبذوه ، هو عين الكتاب الذي نزل لهدايتهم وآمنوا به وهو التوراة .
وقوله تعالى : { وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ } كناية عن إعراضهم الشديد عنه ، وتوليهم عن تعاليمه .
تقول العرب : جعل هذا الأمر وراء ظهره ، أي تولي عنه معرضاً ، لأن ما يجعل وراء الظهر لا ينظر إلأيه ، ففي هذه الجملة الكريمة تصوير صادق لإِعراضهم عن كتاب الله - تعالى - حيث شبه - سبحانه - تركهم لكتابه ، بحالة شيء يرمى به وراء الظهر استهانة به . وفي إضافة الوراء إلى الظهر ، تأكيد لنبذ ما ترك بحيث لا يؤخذ بعد ذلك .
قال الأستاذ الإِمام : ليس المراد بنبذ الكتاب وراء ظهورهم أنهم طرحوه برمته ، وتركوا التصديق به في جملته وتفصيله .
وإنما المراد أنهم طرحوا أجزاء منه وهو ما يبشر بالنبي صلى الله عليه وسلم ويبين صفاته ويأمرهم بالإِيمان به واتباعه . فهو تشبيه لتركهم إياه وإنكاره ، بمن يلقى الشيء وراء ظهره حتى لا يراه فيتذكره ، وترك الجزء منه كتركه كله ، لأن ترك البعض يذهب بحرمة الوحي من النفس ، ويجرئ على ترك الباقي . . .
وقوله تعالى : { كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } جملة حالية ، أي طرحوه ، وراء ظهورهم مشبهين بحال من لا يعلم منه شيئاً ، ومن لا يعرف أنه كتاب الله .
وشبههم بمن لا يعلمون مع أنهم في الواقع يعلمون أنه من عند الله - حق العلم - لأنهم نبذوه مكابرة وعناداً ، ولأنهم لم يعملوا بمقتضى علمهم ومن كان هذا شأنه فهو والجاهل سواء ، في جحود الحق والانغماس في الآثام .
وقال - سبحانه - : { كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } بنفي الحال والاستقبال للإِشعار بأنهم قوم لا أمل فيء توبتهم وإنابتهم ، بل هم تمر بهم الأيام ، وتتوالى عليهم العظات ، ومع ذلك لا يتوبون ولا يرجعون إلى الحق ، فهم مستمرون على طرح كتاب الله في كل وقت وآن ، ومصممون على ذلك .
{ ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم } كعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام . { نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله } يعني التوراة ، لأن كفرهم بالرسول المصدق لها كفر بها فيما يصدقه ، ونبذ لما فيها من وجوب الإيمان بالرسل المؤيدين بالآيات . وقيل ما مع الرسول صلى الله عليه وسلم هو القرآن . { وراء ظهورهم } مثل لإعراضهم عنه رأسا ، بالإعراض عما يرمي به وراء الظهر لعدم الالتفات إليه . { كأنهم لا يعلمون } أنه كتاب الله ، يعني أن علمهم به رصين ولكن يتجاهلون عنادا . وأعلم أنه تعالى دل بالآيتين على أن جيل اليهود أربع فرق : فرقة آمنوا بالتوراة وقاموا بحقوقها كمؤمني أهل الكتاب وهم الأقلون المدلول عليهم بقوله : { بل أكثرهم لا يؤمنون } وفرقة جاهروا بنبذ عهودها وتخطي حدودها تمردا وفسوقا ، وهم المعنيون بقوله : { نبذه فريق منهم } وفرقة لم يجاهروا بنبذها ولكن نبذوا لجهلهم بها وهم الأكثرون . وفرقة تمسكوا بها ظاهرا ونبذوها خفية عالمين بالحال ، بغيا وعنادا وهم المتجاهلون .
قوله : { ولما جاءهم رسول } إلخ معطوف على قوله : { أو كلما } عطف القصة على القصة لغرابة هاته الشؤون . والرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم لقوله : { مصدق لما معهم } . والنبذ طرح الشيء من اليد فهو يقتضي سبق الأخذ . وكتاب الله ظاهر في أنه المراد به القرآن لأنه الأتم في نسبته إلى الله . فالنبذ على هذا مراد به تركه بعد سماعه فنزل السماع منزلة الأخذ ونزل الكفر به بعد سماعه منزلة النبذ . وقيل : المراد بكتاب الله التوراة وأشار في « الكشاف » إلى ترجيحه بالتقديم لأن النبذ يقتضي سابقة أخذ المنبوذ وهم لم يتمسكوا بالقرآن ، والأصل في إطلاق اللفظ المفرد أنه حقيقة لفظاً ومعنى وقيل المعرفة إذا أعيدت معرفة كانت عين الأولى وفيه نظر لأن ذلك في إعادة الاسم المعرف باللام ، أو تجعل النبذ تمثيلاً لحال قلة اكتراث المعرض بالشيء فليس مراداً به معناه .
وقوله : { وراء ظهورهم } تمثيل للإعراض لأن من أعرض عن شيء تجاوزه فخلفه وراء ظهره وإضافة الوراء إلى الظهر لتأكيد بُعد المتروك بحيث لا يلقاه بعد ذلك فجعل للظهر وراء وإن كان هو هنا بمعنى الوراء . فالإضافة كالبيانية وبهذا يجاب عما نقله ابن عرفة عن الفقيه أبي العباس أحمد بن عبلون أنه كان يقول : مقتضى هذا أنهم طرحوا كتاب الله أمامهم لأن الذي وراء الظهر هو الوجه وكما أن الظهر خلف للوجه كذلك الوجه وراء للظهر قال ابن عرفة : وأجيب بأن المراد أي بذكر الظهر تأكيد لمعنى وراء كقولهم من وراءِ وراء .
وقوله : { كأنهم لا يعلمون } تسجيل عليهم بأنهم عالمون بأن القرآن كتاب الله أو كأنهم لا يعلمون التوراة وما فيها من البشارة ببعثة الرسول من ولد إسماعيل .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{رسول من عند الله}: محمدا صلى الله عليه وسلم،
{مصدق لما معهم}: يصدق محمدا أنه نبي رسول معهم في التوراة.
{نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب}: جعل طائفة من اليهود.
{كتاب الله}: ما في التوراة من أمر محمد.
{وراء ظهورهم}، فلم يتبعوه، ولم يبينوه للناس.
{كأنهم لا يعلمون} بأن محمدا رسول نبي لأن تصديقه معهم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"وَلَمّا جاءَهُمْ": أحبار اليهود وعلماءها من بني إسرائيل. "رَسُولٌ "يعني بالرسول محمدا صلى الله عليه وسلم.
{مُصَدّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} يعني: أن محمدا صلى الله عليه وسلم يصدق التوراة، والتوراة تصدقه في أنه لله نبيّ مبعوث إلى خلقه.
{وَلَمّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ مُصَدّقٌ لِمَا مَعَهُمْ}: فإنه للذي هو مع اليهود، وهو التوراة. فأخبر الله جل ثناؤه أن اليهود لما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الله بتصديق ما في أيديهم من التوراة أن محمدا صلى الله عليه وسلم نبيّ الله، "نبذَ فريقٌ": يعني بذلك أنهم جحدوه ورفضوه بعد أن كانوا به مقرّين حسدا منهم له وبَغْيا عليه.
{مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ}: وهم علماء اليهود الذين أعطاهم الله العلم بالتوراة وما فيها.
ويعني بقوله: "كِتابَ الله": التوراة.
{نَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ}: جعلوه وراء ظهورهم، وهذا مَثَلٌ يقال لكل رافض أمرا كان منه على بال: قد جعل فلان هذا الأمر منه بظهر، وجعله وراء ظهره، يعني به أعرض عنه وصدّ وانصرف...عن السدي قال: لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم، عارضوه بالتوراة فخاصموه بها، فاتفقت التوراة والقرآن، فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وماروت، فذلك قوله الله: {كأنّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}.
{كأنّهُمْ لا يَعْلَمُونَ}: كأنّ هؤلاء الذين نبذوا كتاب الله من علماء اليهود، فنقضوا عهد الله بتركهم العمل بما واثقوا الله على أنفسهم العمل بما فيه، لا يعلمون ما في التوراة من الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه.
وهذا من الله جل ثناؤه إخبار عنهم أنهم جحدوا الحقّ على علم منهم به ومعرفة، وأنهم عاندوا أمر الله فخالفوا على علم منهم بوجوبه عليهم...عن قتادة: القوم كانوا يعلمون، ولكنهم أفسدوا علمهم وجحدوا وكفروا وكتموا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{كأنهم لا يعلمون}: أي يعلمون، ولكن تركوا العمل به والإيمان بها معهم كأنهم لا يعلمون؛ لما لم ينتفعوا بعلمهم، خرج فعلهم فعل من لا يعلم. أخبر أنهم... نبذوه سفها وتعنتا. والله أعلم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
جحدوا رُسلَ الحق إلى قلوبهم من حيث الخواطر، وكذَّبوا رسلهم الذين أتوهم في الظاهر، فيا جهلاً ما فيه شظية من العرفان! ويا حرماناً قَارَنَه خِذلان!...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{كتاب الله} يعني التوراة، لأنهم بكفرهم برسول الله المصدق لما معهم كافرون بها نابذون لها.
وقيل: كتاب الله: القرآن، نبذوه بعدما لزمهم تلقيه بالقبول.
{كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أنه كتاب الله لا يدخلهم فيه شك. يعني أن علمهم بذلك رصين، ولكنهم كابروا وعاندوا ونبذوه وراء ظهورهم، مثل لتركهم وإعراضهم عنه، مثل بما يرمى به وراء الظهر استغناء عنه وقلة التفات إليه.
اعلم أن معنى كون الرسول مصدقا لما معهم، هو أنه كان معترفا بنبوة موسى عليه السلام، وبصحة التوراة، أو مصدقا لما معهم من حيث إن التوراة بشرت بمقدم محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا أتى محمد كان مجرد مجيئه مصدقا للتوراة.
فإن قيل: كيف يصح نبذهم التوراة وهم يتمسكون به؟ قلنا: إذا كان يدل على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام لما فيه من النعت والصفة وفيه وجوب الإيمان ثم عدلوا عنه كانوا نابذين للتوراة.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
واعلم أنه تعالى دل بالآيتين على أن جيل اليهود أربع فرق:
فرقة آمنوا بالتوراة وقاموا بحقوقها كمؤمني أهل الكتاب وهم الأقلون المدلول عليهم بقوله: {بل أكثرهم لا يؤمنون}
وفرقة جاهروا بنبذ عهودها وتخطي حدودها تمردا وفسوقا، وهم المعنيون بقوله: {نبذه فريق منهم}
وفرقة لم يجاهروا بنبذها ولكن نبذوا لجهلهم بها وهم الأكثرون.
وفرقة تمسكوا بها ظاهرا ونبذوها خفية عالمين بالحال، بغيا وعنادا وهم المتجاهلون.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
وصف بقوله: {من عند الله مصدّق} تفخيماً لشأنه، إذ الرسول على قدر المرسل.
ثم وصف أيضاً بكونه مصدّقاً لما معهم، قالوا:
وتصديقه أنه خلق على الوصف الذي ذكر في التوراة.
أو تصديقه على قواعد التوحيد وأصول الدين وأخبار الأمم والمواعظ والحكم.
أو تصديقه: إخباره بأن الذي معهم هو كلام الله، وأنه المنزل على موسى.
أو تصديقه: إظهار ما سألوا عنه من غوامض التوراة. أقوال أربعة.
وإذا فسر بعيسى، فتصديقه هو بالتوراة، وإذا فسر بالرسالة، فنسبة المجيء والتصديق إلى الرسالة على سبيل التوسع والمجاز.
ومعنى نبذهم له: اطراح أحكامه، أو اطراح ما فيه من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ الكفر ببعض، كفر بالجميع.
وأضاف الكتاب إلى الله تعظيماً له، كما أضاف الرسول إليه بالوصف السابق، فصار ذلك غاية في ذمهم، إذ جاءهم من عند الله بكتابه الصدّق لكتابهم، وهو شاهد بالرسول والكتاب.
وقال في المنتخب: النبذ والطرح والإلقاء متقاربة، لكن النبذ أكثر ما يقال فيما يئس، والطرح أكثر ما يقال في المبسوط وما يجري مجراه، والإلقاء فيما يعتبر فيه ملاقاة بين شيئين.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
وأفرد هذا النبذُ بالذكر مع اندراجِه تحت قوله عز وجل: {أَوْ كُلَّمَا عاهدوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ منْهُم} لأنه معظمُ جناياتِهم، ولأنه تمهيدٌ لذكر اتّباعهم لما تتلو الشياطينُ وإيثارِهم له عليه، والمرادُ بإيتائها إما إيتاءُ علمِها بالدراسة والحفظ والوقوفِ على ما فيها، فالموصولُ عبارة عن علمائهم وإما مجردُ إنزالِها عليهم فهو عبارةٌ عن الكل، وعلى التقديرين فوضعُه موضِع الضمير للإيذان بكمال التنافي بين ما أُثبت لهم في حيز الصلةِ وبين ما صدر عنهم من النبذ، وإنما عَبَّر عنها بكتاب الله تشريفاً لها وتعظيماً لحقِها عليهم وتهويلاً لما اجترأوا عليه من الكفر بها.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
تصريح بما طوى قبلُ. فإن نبذهم العهود التي تقدم الله إليهم في التمسك بها والقيام بحقها، أعقبهم التكذيب بالرسول المبعوث إليهم وإلى الناس كافة، الذي في كتبهم نعته.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم} بيان لحال جديدة من أحوال أهل الكتاب يصح أن تكون علة لجميع ما صدر عنهم من الشناعات في معاداة النبي عليه السلام ومجاحدته، وهي أن فريقا منهم قد نبذوا كتاب الله الذي يفاخرون به ويحتجون بأنهم اكتفوا بالهداية به، وأنه لا حاجة لهم بسواه – نبذوه أن جاءهم رسول مصدق له بحاله وصفاته، لأن البشارات التي فيه بالنبي الذي يجئ من آل إسماعيل لا تنطبق إلا على هذا الرسول ومصدق له بمقاله باعترافه بنبوة موسى عليه السلام وصدقه فيما جاء به من الهدى والشريعة، وتوبيخه اليهود على تحريف بعضها ونسيان بعض وترك العمل ما بقي لهم منها.
(قال الأستاذ الإمام): ليس المراد بنبذ الكتاب وراء ظهورهم أنهم طرحوه برمته، وتركوا التصديق به في جملته وتفصيله، وإنما المراد أنهم طرحوا جزءا منه وهو ما يبشر بالنبي صلى الله عليه وسلم، ويبين صفاته ويأمرهم بالإيمان به واتباعه، أي فهو تشبيه لتركهم إياه، إنكاره بمن يلقى الشيء وراء ظهره حتى لا يراه فيتذكره... وترك الجزء منه كتركه كله لأن ترك البعض يذهب بحرمة الوحي من النفس ويجرئ على ترك الباقي {5: 32 من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا}
(قال): ولا فرق في هذا الحكم بين اليهود والنصارى، فكل منهما مبشر بالنبي عليه الصلاة والسلام في كتابه، وكل منهما قد نبذ الكتاب فلم يعمل به ولم يضر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الجحود من الفريق الجاحد لأن دعوته قد قبلها الآخرون واهتدى بها من لا يحصى من الأمتين ومن سائر الأمم، وإنما يضر الجاحدين لأنهم تركوا كتابهم الذي يزعمون أنه المنجي والمخلص لهم وحرموا من هداية خاتم النبيين، التي هي أكمل هداية أنعم الله بها على العالمين...
قال تعالى بعد ما ذكر نبذهم الكتاب {كأنهم لا يعلمون} أي نبذوه نبذ من لا يعلم أنه كتاب الله، يريد أنهم بالغوا في تركه وإهماله، ومن ترك شيئا من أمر الله وهو يعلم أنه أمره ولكن طاف به طائف من الشيطان فغلب على أمره، فإنه لا يلبث أن يعود، ولكن هذا الفريق النابذ لكتاب الله تعالى من حيث هو مبشر بالنبي وآمر باتباعه، يتمادى بهم الزمان ولا يتوبون ولا يرجعون، وما أحسن التعبير عن ذلك بنفي الحال والاستقبال دون نفي الماضي...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
تبين بهذا أن هذا الفريق من أهل الكتاب لم يبق في أيديهم شيء، حيث لم يؤمنوا بهذا الرسول، فصار كفرهم به كفرا بكتابهم من حيث لا يشعرون.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وفي الآية ما فيها من سخرية خفية، يحملها ذلك النص على أن الذين أوتوا الكتاب هم الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم. فلو كانوا هم المشركين الأميين لكان نبذهم لكتاب الله وراء ظهورهم مفهوما! ولكنهم هم الذين أوتوا الكتاب. هم الذين عرفوا الرسالات والرسل. هم الذين اتصلوا بالهدى ورأوا النور..
وماذا صنعوا؟ إنهم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم! والمقصود طبعا أنهم جحدوه وتركوا العمل به، وأنهم أبعدوه عن مجال تفكيرهم وحياتهم. ولكن التعبير المصور ينقل المعنى من دائرة الذهن إلى دائرة الحس؛ ويمثل عملهم بحركة مادية متخيلة، تصور هذا التصرف تصويرا بشعا زريا، ينضح بالكنود والجحود، ويتسم بالغلظة والحماقة، ويفيض بسوء الأدب والقحة؛ ويدع الخيال يتملى هذه الحركة العنيفة، حركة الأيدي تنبذ كتاب الله وراء الظهور...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والنبذ: طرح الشيء من اليد، فهو يقتضي سبق الأخذ. وكتاب الله ظاهر في أنه المراد به القرآن لأنه الأتم في نسبته إلى الله. فالنبذ على هذا مراد به تركه بعد سماعه فنزل السماع منزلة الأخذ ونزل الكفر به بعد سماعه منزلة النبذ...
{وراء ظهورهم} تمثيل للإعراض لأن من أعرض عن شيء تجاوزه فخلفه وراء ظهره وإضافة الوراء إلى الظهر لتأكيد بُعد المتروك بحيث لا يلقاه بعد ذلك فجعل للظهر وراء وإن كان هو هنا بمعنى الوراء.
{نبذ فريق}.. يعني نبذ جماعة وبقيت جماعة أخرى لم تنبذ الكتاب.. بدليل أن ابن سلام وهو أحد أحبار اليهود صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمن به.. وكعب الأحبار ومخيريق أسلما.. فلو أن القرآن عمم ولم يقل فريق لقيل إنه غير منصف لهؤلاء الذين آمنوا.
{وراء ظهورهم}.. النبذ قد يكون أمامك.. وكونه أمامك فأنت تراه دائما، وربما يغريك بالإقبال عليه، ولكنهم نبذوه وراء ظهورهم أي جعلوه وراءهم حتى ينسوه تماما ولا يلتفتوا إليه...
{كأنهم لا يعلمون}.. أي يتظاهرون بأنهم لا يعلمون ببشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوصافه..
{كأنهم}.. دليل على أنهم يعلمون ذلك علم يقين.. لأنهم لو كانوا لا يعلمون.. لقال الحق سبحانه: {نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم} وهم لا يعلمون.. إذن هم يعلمون يقينا ولكنهم تظاهروا بعدم العلم..
ولابد أن نتنبه إلى أن نبذ يمكن أن يأتي مقابلها فتقول نبذ كذا واتبع كذا.. وهم نبذوا كتاب الله ولكن ماذا اتبعوا؟...