البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَلَمَّا جَآءَهُمۡ رَسُولٞ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِ مُصَدِّقٞ لِّمَا مَعَهُمۡ نَبَذَ فَرِيقٞ مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ كِتَٰبَ ٱللَّهِ وَرَآءَ ظُهُورِهِمۡ كَأَنَّهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ} (101)

الظهر : معروف ، وجمع فعل الاسم غير المعتل العين على فعول قياس : كظهور ، وعلى فعلان : كظهران ، وهو مشتق من الظهور .

تقول : ظهر الشيء ظهوراً ، إذا بدا .

{ ولما جاءهم رسول } : الضمير في جاءهم عائد على بني إسرائيل ، أو على علمائهم ، والرسول ، محمد صلى الله عليه وسلم ، أو عيسى على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام ، أو معناه الرسالة ، فيكون مصدراً ، كما فسروا بذلك قوله :

لقد كذب الواشون ما بحت عنده *** بليلي ولا أرسلتهم برسول

أي برسالة ، أقوال ثلاثة .

والظاهر الأول ، لأن الكلام مع اليهود إنما سيق بالنسبة إلى محمد صلى الله عليه وسلم .

ألا ترى إلى قوله : { قل } قل ، و { فإنه نزله على قلبك } ، { ولقد أنزلنا إليك } ، فصار ذلك كالالتفات ، إذ هو خروج من خطاب إلى اسم غائب ، ووصف بقوله : { من عند الله مصدّق } : تفخيماً لشأنه ، إذ الرسول على قدر المرسل .

ثم وصف أيضاً بكونه مصدّقاً لما معهم ، قالوا : وتصديقه أنه خلق على الوصف الذي ذكر في التوراة ، أو تصديقه على قواعد التوحيد وأصول الدين وأخبار الأمم والمواعظ والحكم ، أو تصديقه : إخباره بأن الذي معهم هو كلام الله ، وأنه المنزل على موسى ، أو تصديقه : إظهار ما سألوا عنه من غوامض التوراة ، أقوال أربعة .

وإذا فسر بعيسى ، فتصديقه هو بالتوراة ، وإذا فسر بالرسالة ، فنسبة المجيء والتصديق إلى الرسالة على سبيل التوسع والمجاز .

وقرأ ابن أبي عبلة : مصدّقاً بالنصب على الحال ، وحسن مجيئها من النكرة كونها قد وصفت بقوله : { من عند الله } { لما معهم } : هو التوراة .

وقيل : جميع ما أنزل إليهم من الكتب ، كزبور داود ، وصحف الأنبياء التي يؤمنون بها .

{ نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب } : الكتاب الذي أوتوه هو التوراة ، وهو مفعول ثانٍ لأتوا ، على مذهب الجمهور ، ومفعول أول على مذهب السهيلي .

وقد تقدّم القول في ذلك .

{ كتاب الله } : هو مفعول بنبذ .

فقيل : كتاب الله هو التوراة .

ومعنى نبذهم له : اطراح أحكامه ، أو اطراح ما فيه من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ الكفر ببعض ، كفر بالجميع .

وقيل : الإنجيل ، ونبذهم له : اطراحه بالكلية .

وقيل : القرآن ، وهذا أظهر ، إذ الكلام مع الرسول .

فصار المعنى : أنه يصدّق ما بين أيديهم من التوراة ، وهم بالعكس ، يكذبون ما جاء به من القرآن ويطرحونه .

وأضاف الكتاب إلى الله تعظيماً له ، كما أضاف الرسول إليه بالوصف السابق ، فصار ذلك غاية في ذمهم ، إذ جاءهم من عند الله بكتابه الصدّق لكتابهم ، وهو شاهد بالرسول والكتاب ، فنبذوه { وراء ظهورهم } ، وهذا مثل يضرب لمن أعرض عن الشيء جملة .

تقول العرب : جعل هذا الأمر وراء ظهره ودبر أذنه ، وقال الفرزدق :

تميم بن مرّ لا تكونن حاجتي *** بظهر ولا يعيا عليك جوابها

وقالت العرب ذلك ، لأن ما جعل وراء الظهر فلا يمكن النظر إليه ، ومنه : { واتخذتموه وراءكم ظهرياً } وقال في المنتخب : النبذ والطرح والإلقاء متقاربة ، لكن النبذ أكثر ما يقال فيما يئس ، والطرح أكثر ما يقال في المبسوط وما يجري مجراه ، والإلقاء فيما يعتبر فيه ملاقاة بين شيئين .

{ كأنهم لا يعلمون } : جملة حالية ، وصاحب الحال فريق ، والعامل في الحال نبذ ، وهو تشبيه لمن يعلم بمن يجهل ، لأن الجاهل بالشيء لا يحفل به ولا يعتد به ، لأنه لا شعور له بما فيه من المنفعة .

ومتعلق العلم محذوف ، أي كأنهم لا يعلمون أنه كتاب الله ، لا يداخلهم فيه شك لثبوت ذلك عندهم وتحققه ، وإنما نبذوه على سبيل المكابرة والعناد .

وقال الشعبي : هو بين أيديهم يقرأونه ، ولكنهم نبذوا العمل به .

وعن سفيان أدرجوه في الديباج والحرير ، وحلوه بالذهب ، ولم يحلوا حلاله ، ولم يحرموا حرامه .

انتهى كلامه .

وقول الشعبي وسفيان يدل على أن كتاب الله هو التوراة .

وقال الماوردي : كأنهم لا يعلمون ما أمروا به من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم .

وقيل : معناه كأنهم لا يعلمون أنه نبي صادق .

وقيل : معناه كأنهم لا يعلمون أن القرآن والتوراة والإنجيل كتب الله ، وأن كل واحد منها حق ، والعمل به واجب .

/خ103