اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَمَّا جَآءَهُمۡ رَسُولٞ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِ مُصَدِّقٞ لِّمَا مَعَهُمۡ نَبَذَ فَرِيقٞ مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ كِتَٰبَ ٱللَّهِ وَرَآءَ ظُهُورِهِمۡ كَأَنَّهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ} (101)

قال القرطبي : { مصدّق لما معهم } نعت للرَّسول ، ويجوز نصبه على الحال .

واعلم أن معنى كون الرسول مصدقاً لما معهم هو أنه كان معترفاً بنبوّة موسى عليه الصَّلاة والسَّلام وبصحة التوراة ، أو مصدقاً لما معهم من حيث إنّ التوراة بشرت بمقدم محمد عليه الصلاة والسلام فإذا جاء محمد كان مجرد مجيئه مصدقاً للتوراة .

وقوله : { مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ } فيه وجهان :

أحدهما : أن المراد ممن أوتي علم الكتاب من يدرسه ويحفظه بدليل قوله تعالى : { كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } .

والثاني : المراد من يدعي التمسّك بالكتاب ، سواء علمه أم لم يعلمه ، وهذا كوصف المسلمين بأنهم من أهل [ القرآن ]{[1555]} لا يختص بذلك من يعرف علومه ، بل المراد من يؤمن به .

قوله تعالى : { الْكِتَابَ كِتَابَ اللهِ } : " الكتاب " مفعول ثان ل " أوتوا " ؛ لأنه يتعدى في الأصل إلى اثنين ، فأقيم الأول مقام الفاعل ، وهو " الواو " ، وبقي الثاني منصوباً ، [ وقد تقدم أنه عند السهيلي مفعول أول ]{[1556]} و " كتاب الله " مفعول نبذ ، و " وراء " منصوب على الظرف وناصبه " نَبَذ " ، وهذا مثل لإهمالهم التوراة ؛ تقول العرب : " جعل هذا الأمر وَرَاءَ ظَهْره ، ودَبْرَ أُذُنِه " أي : أهمله ؛ قال الفرزدَقُ : [ الطويل ]

691- تَمِيمُ بْنَ مُرِّ لاَ تَكُونَنَّ حَاجَتِي *** بِظَهْرٍ فَلا يَعْيَا عَلَيَّ جَوَابُهَا{[1557]}

والمراد بكتاب الله : القرآن .

وقيل : إنه التوراة لوجهين :

الأول : أن النبذ لا يعقل إلا فيما تمسكوا به أولاً ، وأما إذا لم يلتفتوا إليه فلا يقال : إنهم نبذوه .

والثاني : أنه قال تعالى : { نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ } ولو كان المراد به : القرآن لم يكن لتخصيص الفريق معنى ؛ لأنَّ جميعهم لا يصدقون بالقرآن .

فإن قيل : كيف يصحّ نَبْذهم التوراة ، وهم متمسّكون بها ؟

قلنا : إنها لما كانت تدلّ على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام بنعته ، ووجوب الإيمان به ، ثم عدلوا عنه كانوا نابذين للتَّوْرَاة .

قال السّدي رحمه الله تعالى نبذوا التوراة ، وأخذوا بكتاب " آصف " ، وسحر " هاروت وماروت " .

قوله : { كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } جملة في محلّ نصب على الحال ، وصاحبها : فريق ، وإن كان نكرة لتخصيصه بالوصف ، والعامل فيها " نبذ " ، والتقدير : مُشْبِهِيْنَ للجُهَّال ، ومتعلق العلم محذوف تقديره : أنه كتاب الله لا يُدَاخلهم فيه شكّ ، والمعنى : أنهم كفروا عناداً ؛ لأنهم نبذوه عن علم ومعرفة ؛ لأنه لا يقال ذلك إلاَّ فيمن يعلم .

قال ابن الخطيب{[1558]} : ودلّت الآية من هذه الجِهَةِ على أن هذا الفريق كانوا عالمين بصحة نبوته إلا أنهم جحدوا ما يعلمون وقد ثبت أن الجمع العظيم لا يصح الجحد عليهم ، فوجب القطع بأن أولئك الجاحدين كانوا في القلّة بحيث تجوز المُكَابرة عليهم .


[1555]:- في ب: الكتاب.
[1556]:- سقط في ب.
[1557]:- ينظر ديوانه: (80)، الأضداد: (256)، القرطبي: 2/29، الدر المصون: 1/318.
[1558]:- ينظر الفخر الرازي: 3/184.