ثم بين - سبحانه - أن ما أخبر به عباده فى شأن عيسى وغيره هو الحق الذى لا يحوم حوله باطل فقال - تعالى - { الحق مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن الممترين } .
والامتراء هو الشك الذى يدفع الإنسان إلى المجادلة المبنية على الأوهام لا على الحقائق .
وهو - كما يقول الرازى - مأخوذ من قول العرب مريت الناقة والشاة إذا أردت حلبها فكأن الشاك يجتذب بشكه مراء كاللبن الذى يجتذب عند الحلب . يقال : قد مارى فلان فلانا إذا جادله كأنه يستخرج غضبه .
والمعنى : هذا الذى أخبرناك عنه يا محمد من شأن عيسى ومن شأن غيره هو الحق الثاتب اليقينى الذى لا مجال للشك فيه ، وما دام الأمر كذلك فاثبت على ما أنت عليه من حق ، ولا تكونن من الشاكين فى أى شىء مما أخبرناك به .
وقد أكد - سبحانه - أن ما أوحاه إلى نبيه صلى الله عليه وسلم هو الحق بثلاثة تأكيدات :
أولها : بالتعريف فى كلمة { الحق } أى ما أخبرناك به هو الحق الثابت الذى لا يخالطه باطل .
ثانيها : بكونه من عنده - سبحانه - وكل شيء من عنده فهو صدق لا ريب فيه .
ثالثها : بالنهى عن الامتراء والشك فى ذلك الحق ، لأن من شأن الأمور الثابتة أن يتقبلها العقلاء بإذعان وتسليم وبدون جدل أو امتراء .
قال الآلوسى : وقوله { فَلاَ تَكُنْ مِّن الممترين } خطاب له صلى الله عليه وسلم ولا يضر فيه استحالة وقوع الامتراء منه صلى الله عليه وسلم بل ذكروا فى هذا الأسلوب فائدتين :
إحداهما : أنه صلى الله عليه وسلم إذا سمع مثل هذا الخطاب تحكرت منه الأريحية فيزداد فى الثبات على اليقين نورا على نور .
وثانيتهما : أن السامع يتنبه بهذا الخطاب على أمر عظيم فينزع وينزجر عما يورث الامتراء لأنه صلى الله عليه وسلم مع جلالته التى لا تصل إليها الأمانى - إذا خوطب بمثله فما يظن بغيره ؟ ففى ذلك ثبات له صلى الله عليه وسلم ولطف بغيره " .
وقوله تعالى : { الحق من ربك } ، رفع على الابتداء وخبره فيما يتعلق به ، قوله { من ربك } ، أو الحق ذلك ، أو ما قلناه لك ، ويجوز أن يكون خبر ابتداء ، تقديره هذا الحق و { الممترين } هم الشاكون ، والمرية الشك ، ونهي النبي عليه السلام في عبارة اقتضت ذم الممترين ، وهذا يدل على ان المراد بالامتراء غيره ، ولو قيل : فلا تكن ممترياً لكانت هذه الدلالة أقل ، ولو قيل فلا تمتر لكانت أقل ونهي النبي عليه السلام عن الامتراء مع بعده عنه على جهة التثبيت والدوام على حاله .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
هذا الذي قال الله في عيسى هو {الحق من ربك فلا تكن من الممترين} يا محمد، يعني من الشاكين في عيسى أنه مثله كمثل آدم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
الذي أنبأتك به من خبر عيسى، وأن مثله كمثل آدم خلقه من تراب. ثم قال له ربه: كن هو الحقّ من ربك، يقول: هو الخبر الذي هو من عند ربك.
{فَلاَ تَكُنْ مِنَ المُمْترينَ}: فلا تكن من الشاكين في أن ذلك كذلك... فلا تكن في شكّ من عيسى أنه كمثل آدم عبد الله ورسوله، وكلمة الله وروحه.
والممترون: الشاكون. والمرية والشكّ والريب واحد.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يحتمل هذا وجوها: يحتمل أن يكون الخطاب لكل أحد، قال في عيسى ما قالوا: أي لا تكن {من الممترين} في عيسى. إنه عبد الله خالصا وإنه نبيه ورسوله إليكم ويحتمل أن يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره، وهكذا عادة ملوك الأرض أنهم إذا ما أرادوا أن يعرفوا رعاياهم شيئا يخاطبون أعقلهم وأفضلهم وأرفعهم منزلة وقدرا عندهم استكبارا منهم مخاطبة كل وضيع وسفيه، فكذلك الله جل وعلا خاطب نبيه إعظاما له وإجلالا، والله تعالى أعلم. ويحتمل ما ذكرنا في ما تقدم أن العصمة لا تمنع الأمر ولا النهي، بل تزيد أمرا ونهيا، وإن كان يعلم أنه لا يكون من الممترين...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
ونهيه عن الامتراء، وجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون ممتريا، من باب التهييج لزيادة الثبات والطمأنينة، وأن يكون لطفاً لغيره...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن شاكا في أمر عيسى عليه السلام...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
في هذه الآية وما بعدها دليل على قاعدة شريفة وهو أن ما قامت الأدلة على أنه حق وجزم به العبد من مسائل العقائد وغيرها، فإنه يجب أن يجزم بأن كل ما عارضه فهو باطل، وكل شبهة تورد عليه فهي فاسدة، سواء قدر العبد على حلها أم لا، فلا يوجب له عجزه عن حلها القدح فيما علمه، لأن ما خالف الحق فهو باطل، قال تعالى {فماذا بعد الحق إلا الضلال} وبهذه القاعدة الشرعية تنحل عن الإنسان إشكالات كثيرة يوردها المتكلمون ويرتبها المنطقيون، إن حلها الإنسان فهو تبرع منه، وإلا فوظيفته أن يبين الحق بأدلته ويدعو إليه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وعندما يصل السياق بالقضية إلى هذا التقرير الواضح يتجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يثبته على الحق الذي معه، والذي يتلى عليه، ويؤكده في حسه؛ كما يؤكده في حس من حوله من المسلمين، الذين ربما تؤثر في بعضهم شبهات أهل الكتاب، وتلبيسهم وتضليلهم الخبيث:
(الحق من ربك فلا تكن من الممترين)..
وما كان الرسول صلى الله عليه وسلم ممتريا ولا شاكا فيما يتلوه عليه ربه، في لحظة من لحظات حياته.. وإنما هو التثبيت على الحق، ندرك منه مدى ما كان يبلغه كيد أعداء الجماعة المسلمة من بعض أفرادها في ذلك الحين. كما ندرك منه مدى ما تتعرض له الأمة المسلمة في كل جيل من هذا الكيد؛ وضرورة تثبيتها على الحق الذي معها في وجه الكائدين والخادعين؛ ولهم في كل جيل أسلوب من أساليب الكيد جديد.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قوله: {الحق من ربك} خبر مبتدأ محذوف: أي هذا الحق. ومن ربك حال من الحق. والخطاب في {فلا تكن من الممترين} للنبيء صلى الله عليه وسلم والمقصود التعريض بغيره، والمعرَّض بهم هنا هم النصارى الممترُون الذين امتروا في الإلاهية بسبب تحقق أن لاَ أبَ لِعيسى.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
هذا هو الحق، والحق هو الثابت اليقيني الذي لا مجال للشك فيه.وقد أكد سبحانه وتعالى كونه الحق الذي لا مجال للريب فيه بثلاثة تأكيدات: أولها:بتعريف كلمة الحق بأل،فإن مؤدى ذلك ان خلق الله بإرادته المختارة على النحو الذي بينه هو الحق وحده،ولا حق سواه. ثانيها:أنه بين ان إثبات ذلك الحق هو من ربك الذي ذرأك وحفظك،وفي ذلك ما يدل على صدق الإثبات صدقا لا ريب فيه. ثالثها:أنه نهى عن الامتراء والشك في ذلك الحق،فقال سبحانه: {فلا تكن من الممترين} أي انه لا مجال فيه للشك،أو للجدال والمراء المثير للشك. والخطاب موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع ان النبي صلى الله عليه وسلم لا شك عنده،وكان كذلك لإثارة الاهتمام والاتجاه إليه، وبيان انه لا موضع فيه للجدال والامتراء،فيكون الاطمئنان إلى الحق المبين،وإذا كان هذا دعوة للنبي إلى الابتعاد عن الامتراء فغيره أولى بأن توجه إليه الدعوة القاطعة لكل ريب... فمؤدى كلمة الامتراء هو الحاجة فيما فيه ريب،فكان الله سبحانه وتعالى يقول لنبيه الكريم أو لقارئ القرآن العظيم:فلا تكن من الذين يجادلون في هذا شاكين؛ فإنه ليس موضع شك من جهة،وليس موضع جدال؛ لأن الذين يجادلون فيه يجادلون في قدرة الله تعالى {وهو شديد المحال13} [الرعد]...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
الحقّ دائماً من ربّك، وذلك لأنّ الحقّ هو الحقيقة، والحقيقة هو الوجود، وكلّ وجود ناشئ من وجوده...