اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُن مِّنَ ٱلۡمُمۡتَرِينَ} (60)

قوله : { الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ } يجوزُ أنْ تكونَ هذه الجملةُ مستقلةً برأسِهَا والمعنى أنَّ الحقَّ الثابت الذي لا يضمحلّ هو مِنْ ربك ، ومن جملةِ ما جاء مِنْ ربكَ قصةُ عيسى وأمُهُ ، فهو حقٌّ ثابتٌ .

ويجوز أن يكونَ " الحقُّ " خبرَ مبتدأ محذوفٍ أي : ما قَصَصْنَا عليكَ من خبرِ عيسى وأمه ، وحُذِفَ لكونه معلوماً . و { مِّن رَّبِّكُمْ } على هذا - فيهِ وجهانِ :

أحدهما : أنه حال فيتعلق بمحذوف .

والثاني : أنه خبر ثان - عند من يجوز ذلك وتقدم نظير هذه الجملة في البقرة .

وقال بعضهم : " الحق رفع بإضمار فعل ، أي : جاءك الحق " .

وقيل : إنه مرفوع بالصفة ، وفيه تقديم وتأخير ، تقديره : من ربك الحق .

والامتراء : الشك . قال ابنُ الأنباريِّ : هو مأخوذٌ من قول العرب : مَرَيْتُ الناقة والشاة - إذا حلبتهما - فكأن الشاك يجتذب بشكِّه شَرًّا - كاللبن الذي يُجْتَذَب عند الحلب .

ويقال قد مارى فلان فلاناً - إذا جادله - كأنه يستخرج غضبه ، قال ابنُ عبّاسٍ لعمر رضي الله عنهما : لا أماريك أبَداً .

ومنه قيل : الشكر يَمْتَرِي المزيد ؛ أي : يجلبه .

فصل

هذا الخطابُ - في الظاهر - مع النبي صلى الله عليه وسلم واختُلِفَ في تأويلِهِ :

فقيل إن هذا الخطاب - وإن كان ظاهره مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه في المعنى مع الأمة ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن شاكاً في أمر عيسى ، فهو كقوله : { يَأيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ } [ الطلاق : 1 ] .

وقيل إنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ومعناه أنه من باب الإلهاب والتهييج على الثبات على ما هو عليه من الحق أي : دم على يقينك وعلى ما أنت عليه من تَرْك الامتراء .

فصل

ومعنى الآية فيه قولان :

أحدهما : قال أبو مسلم : معناه أن هذا الذي أنزلتُ عليك - من حبر عيسى - هو الحقُّ ، لا ما قالت النصارى واليهود ، فالنصارى قالوا : إن مريم ولدت إلَهاً ، واليهود رَمَوْا مريم عليها السلام بالإفك ، ونسبوها إلى يوسف بن يعقوب النجار ، فالله - تعالى - بَيَّن أن هذا الذي نزل في القرآن هو الحق ، ثم نهى عن الشك فيه .

الثاني : ما ذكرنا من المثل - وهو قصة آدم - فإنه لا بيان لهذه المسألة ، ولا برهان أقوى من التمسُّك بهذه الواقعةِ .