قوله تعالى : { فلما دخلوا على يوسف آوى إليه } ، أي : ضم إليه ، { أبويه } ، قال أكثر المفسرين : هو أبوه وخالته ليا ، وكانت أمه راحيل قد مات في نفاس بنيامين . وقال الحسن : هو أبوه وأمه ، وكانت حية . وفي بعض التفاسير أن الله عز وجل أحيا أمه حتى جاءت مع يعقوب إلى مصر { وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين } فإن قيل : فقد قال ( فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه ) فكيف قال : ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين بعدما أخبر أنهم دخلوها ؟ وما وجه هذا الاستثناء وقد حصل الدخول ؟ قيل : إن يوسف إنما قال لهم هذا القول حين تلقاهم قبل دخولهم مصر . وفي الآية تقديم وتأخير ، والاستثناء يرجع إلى الاستغفار وهو من قول يعقوب لبنيه { سوف أستغفر لكم ربي } إن شاء الله . وقيل : الاستثناء يرجع إلى الأمن من الجواز لأنهم كانوا لا يدخلون مصر قبله إلا بجواز من ملوكهم ، يقول : آمنين من الجواز إن شاء الله تعالى ، كما قال : { لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين } [ الفتح-27 ] . وقيل : " إن " هاهنا بمعنى إذ ، يريد : إذ شاء الله ، كقوله تعالى : { وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } [ آل عمران-139 ] . أي : إذ كنتم مؤمنين .
ولكن الأمر لم ينته عند هذا الحد ، فقد كانت هناك مفاجآت وبشارات أخرى تحققت معها رؤيا يوسف وهو صغير ، كما تحقق معها تأويل يعقوب لها فقد هاجر يعقوب ببنيه وأهله إلى مصر للقاء ابنه يوسف ، وهناك اجتمع شملهم واستمع إلى القرآن الكريم وهو يحكى ذلك في نهاية القصة فيقول :
{ فَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ . . . } .
وقوله - سبحانه - { فَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ . . . } معطوف على كلام محذوف والتقدير :
استجاب إخوة يوسف لقوله لهم : { اذهبوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ } فأتوا بأهلهم أجمعين ، حيث رحلوا جميعاً من بلادهم إلى مصر ومعهم أبوهم ، فلما وصلوا إليها ودخلوا على يوسف ، ضم إليه أبويه وعانقهما عناقاً حاراًَ .
وقال للجميع { دَخَلُواْ } بلاد { مِصْرَ إِن شَآءَ الله آمِنِينَ } من الجوع والخوف .
وقد ذكر المفسرون هنا كلاماً يدل على أن يوسف - عليه السلام - وحاشيته ووجهاء مصر ، عندما بلغهم قدوم يعقوب بأسرته إلى مصر ، خرجوا جميعاً لاستقبالهم كما ذكروا أن المراد بأبويه : أبوه وخالته ، لأن أمه ماتت وهو صغير .
إلا أن ابن كثير قال : " قال محمد بن إسحاق وابن جرير : كان أبوه وأمه يعيشان ، وأنه لم يقم دليل على موت أمه ، وظاهر القرآن يدل على حياتها " .
ثم قال : " وهذا الذي ذكره ابن جرير ، هو الذي يدل عليه السياق " .
والمراد بدخول مصر : الاستقرار بها ، والسكن في ربوعها .
قالوا : وكان عدد أفراد أسرة يعقوب الذين حضروا معه ليقيموا في مصر ما بين الثمانين والتسعين .
يخبر تعالى عن ورود يعقوب ، عليه السلام ، على يوسف ، عليه السلام ، وقدومه بلاد{[15295]} مصر ، لما كان يوسف قد تقدم إلى إخوته أن يأتوه بأهلهم أجمعين ، فتحملوا عن آخرهم وترحلوا من بلاد كنعان قاصدين بلاد{[15296]} مصر ، فلما أخبر يوسف ، عليه السلام ، باقترابهم خرج لتلقيهم ، وأمر [ الملك ]{[15297]} أمراءه وأكابر الناس بالخروج [ مع يوسف ]{[15298]} لتلقي نبي الله يعقوب ، عليه السلام ، ويقال : إن الملك خرج أيضا لتلقيه ، وهو الأشبه .
وقد أشكل قوله : { آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ } على كثير{[15299]} من المفسرين ، فقال بعضهم : هذا من المقدم والمؤخر ، ومعنى الكلام : { وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ } وآوى إليه أبويه ، ورفعهما على العرش .
وقد رد ابن جرير هذا . وأجاد في ذلك . ثم اختار ما حكاه عن السٌّدِّي : أن يوسف آوى إليه أبويه لما تلقاهما ، ثم لما وصلوا باب البلد قال : { ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ }
وفي هذا نظر أيضا ؛ لأن الإيواء إنما يكون في المنزل ، كقوله : { آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ } وفي الحديث : " من أوى محدثا " وما المانع أن يكون قال لهم بعدما دخلوا عليه وآواهم إليه : { ادْخُلُوا مِصْرَ } وضمَّنه : اسكنوا مصر { إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ } أي : مما كنتم فيه من الجهد والقحط ، ويقال - والله أعلم - : إن الله تعالى رفع عن أهل مصر بقية السنين المجدبة ببركة قدوم يعقوب عليهم ، كما رفع بقية السنين التي دعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل مكة حين قال : " اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف " ، ثم لما تضرعوا إليه واستشفعوا لديه ، وأرسلوا أبا سفيان في ذلك ، فدعا لهم ، فَرُفِعَ عنهم بقية ذلك ببركة دعائه ، عليه السلام{[15300]} .
وقوله : { آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ } قال السدي ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : إنما كان أباه{[15301]} وخالته ، وكانت أمه قد ماتت قديما .
وقال محمد بن إسحاق وابن جرير : كان أبوه وأمه يعيشان .
قال ابن جرير : ولم يقم دليل على موت أمه ، وظاهر القرآن يدل على حياتها . وهذا الذي نصره هو المنصور الذي يدل عليه السياق .
{ فلما دخلوا على يوسف } روي أنه وجه إليه رواحل وأموالا ليتجهز إليه بمن معه ، استقبله يوسف والملك بأهل مصر وكان أولاده الذين دخلوا معه مصر اثنين وسبعين رجلا وامرأة ، وكانوا حين خرجوا مع موسى عليه الصلاة والسلام ستمائة ألف وخمسمائة وبضعة سبعين رجلا سوى الذرية والهرمى . { آوى إليه أبويه } ضم إليه أباه وخالته واعتنقهما نزلها منزلة الأم تنزيل العم منزلة الأب في قوله تعالى : { وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق } أو لأن يعقوب عليه الصلاة والسلام تزوجها بعد أمه والربة تدعى أما { وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين } من القحط وأصناف المكاره ، والمشيئة متعلقة بالدخول المكيف بالمن والدخول الأول كان في موضع خارج البلد حين استقبلهم .
وقوله : { فلما دخلوا } الآية ، ها هنا محذوفات يدل عليها الظاهر ، وهي : فرحل يعقوب بأهله أجمعين وساروا حتى بلغوا يوسف ، فلما دخلوا عليه .
و { آوى } معناه : ضم وأظهر الحماية بهما{[6836]} ، وفي الحديث : «أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله »{[6837]} وقيل : أراد «بالأبوين » : أباه وأمه - قاله ابن إسحاق والحسن - وقال بعضهم : أباه وجدته - أم أمه - حكاه الزهراوي - وقيل : أباه وخالته ، لأن أمه قد كانت ماتت - قاله السدي - .
قال القاضي أبو محمد : والأول أظهر - بحسب اللفظ - إلا لو ثبت بسند أن أمه قد كانت ماتت .
وفي مصحف ابن مسعود : «آوى إليه أبويه وإخوته » . وقوله : { ادخلوا مصر } معناه : تمكنوا واسكنوا واستقروا ، لأنهم قد كانوا دخلوا عليه ، وقيل : بل قال لهم ذلك في الطريق حين تلقاهم - قاله السدي وهذا الاستثناء هو الذي ندب القرآن إليه ، أن يقوله الإنسان في جميع ما ينفذه بقوله في المستقبل ، وقال ابن جريج : هذا مؤخر في اللفظ وهو متصل في المعنى بقوله : { سوف أستغفر لكم } .
طوى ذكر سفرهم من بلادهم إلى دخولهم على يوسف عليه السلام إذ ليس فيه من العبر شيء .
وأبواه أحدهما يعقوب عليه السلام وأما الآخر فالصحيح أن أم يوسف عليه السلام وهي ( راحيل ) توفيت قبل ذلك حين ولدت بنيامين ، ولذلك قال جمهور المفسّرين : أطلق الأبوان على الأب زوج الأب وهي ( ليئة ) خالة يوسف عليه السلام وهي التي تولت تربيته على طريقة التغليب والتنزيل .
وإعادة اسم يوسف عليه السلام لأجل بعد المعاد .
وقوله : { ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين } جملة دعائية بقرينة قوله : { إن شاء الله } لكونهم قد دخلوا مصر حينئذٍ . فالأمر في { ادخلوا } للدعاء كالذي في قوله تعالى : { ادخلوا الجنة لا خوف عليكم } [ الأعراف : 49 ] .
والمقصود : تقييد الدخول بآمنين } وهو مناط الدعاء .
والأمنُ : حالة اطمئنان النفس وراحة البال وانتفاء الخوف من كل ما يخاف منه ، وهو يجمع جميع الأحوال الصالحة للإنسان من الصحة والرزق ونحو ذلك . ولذلك قالوا في دعوة إبراهيم عليه السلام { ربّ اجعل هذا البلد آمناً } إنه جمع في هذه الجملة جميع ما يطلب لخير البلد .
وجملة { إن شاء الله } تأدب مع الله كالاحتراس في الدعاء الوارد بصيغة الأمر وهو لمجرد التيمّن ، فوقوعه في الوعد والعزم والدعاءِ بمنزلة وقوع التسمية في أول الكلام وليس هو من الاستثناء الوارد النهي عنه في الحديث : أن لا يقول اغفر لي إن شئت ، فإنه لا مُكره له لأن ذلك في الدعاء المخاطب به الله صراحة . وجملة { إن شاء الله } معترضة بين جملة { ادخلوا } والحال من ضميرها .