ثم أكد - سبحانه - ما سبق أن بينه من أن دفع بغى الباغى أمر محمود ، فقال تعالى { وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظُلْمِهِ فأولئك مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ } .
واللام فى قوله { وَلَمَنِ انتصر } هى لام الابتداء ، وقوله { بَعْدَ ظُلْمِهِ } مصدر مضاف لمفعوله و " من " شرطية ، وجوابها { فأولئك مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ } والمراد بالسبيل : المؤاخذة والحرج . .
أى : أن من انتصر لدينه وعرضه بعد ظلم الظالم له ، فأولئك الذين يفعلون ذلك ، لا يؤاخذون من أحد ، ولا يلامون من غيرهم ، لأنهم باشروا حقهم الذى شرعه الله - تعالى - لهم ، وهو مقابلة السيئة بمثلها .
ثم قال : { وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ } أي : ليس عليهم جناح في الانتصار ممن ظلمهم .
قال ابن جرير{[25932]} حدثنا محمد بن عبد الله بن بَزيع{[25933]} حدثنا معاذ بن معاذ ، حدثنا {[25934]} ابن عَوْن قال : كنت أسأل عن الانتصار : { وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ } فحدثني علي بن زيد{[25935]} بن جدعان عن أم محمد - امرأة أبيه - قال ابن عون : زعموا أنها كانت تدخل على أم المؤمنين عائشة{[25936]} - قالت : قالت أم المؤمنين : دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعندنا زينب بنت جحش ، فجعل يصنع بيده شيئا فلم يَفْطِن لها ، فقلت بيده حتى{[25937]} فَطَّنته لها ، فأمسك . وأقبلت زينب تقحم لعائشة ، فنهاها ، فأبت أن تنتهي . فقال لعائشة : " سُبّيها " فسبتها فغلبتها ، وانطلقت زينب فأتت عليا فقالت : إن عائشة تقع بكم ، وتفعل بكم . فجاءت فاطمة فقال{[25938]} لها " إنها حبة أبيك ورب الكعبة " فانصرفت ، وقالت لعلي : إني قلت له كذا وكذا ، فقال لي كذا وكذا . قال : وجاء علي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكلمه في ذلك{[25939]} .
هكذا ورد هذا السياق ، وعلي بن زيد بن جدعان يأتي في رواياته بالمنكرات غالبا ، وهذا فيه نكارة ، والحديث الصحيح خلاف هذا السياق ، كما رواه النسائي وابن ماجه من حديث خالد بن سلمة الفأفاء ، عن عبد الله البَهِيّ ، عن عروة قال : قالت عائشة ، رضي الله عنها : ما علمتُ حتى دخلت عليَّ زينب بغير إذن وهي غضبى ، ثم قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : حسبك إذا قلبت لك ابنة أبي بكر ذُرَيّعَتَيهَا ثم أقبلت علي فأعرضت عنها ، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم : " دونك فانتصري " فأقبلت عليها حتى رأيتها وقد يبس ريقها في فمها ، ما{[25940]} ترد علي شيئا . فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتهلل وجهه . وهذا لفظ النسائي{[25941]} .
وقال البزار : حدثنا يوسف بن موسى ، حدثنا أبو غسان ، حدثنا أبو الأحوص عن أبي حمزة ، عن إبراهيم ، عن الأسود{[25942]} ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من دعا على من ظلمه فقد انتصر " .
ورواه الترمذي من حديث أبي الأحوص ، عن أبي حمزة - واسمه ميمون - ثم قال : " لا نعرفه إلا من حديثه ، وقد تكلم فيه من قبل حفظه " {[25943]} .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ولمن انتصر ممن ظلمه من بعد ظلمه إياه "فَأُولَئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ "يقول: فأولئك المنتصرون منهم لا سبيل للمنتصر منهم عليهم بعقوبة ولا أذى، لأنهم انتصروا منهم بحقّ، ومن أخذ حقه ممن وجب ذلك له عليه، ولم يتعدّ، لم يظلم، فيكون عليه سبيل.
وقد اختلف أهل التأويل في المعنيّ بذلك؛ فقال بعضهم: عني به كلّ منتصر ممن أساء إليه، مسلما كان المسيء أو كافرا...
وقال آخرون: بل عُنِي به الانتصار من أهل الشرك... والصواب من القول أن يقال: إنه معنيّ به كلّ منتصر من ظالمه، وأن الآية محكمة غير منسوخة للعلة التي بينت في الآية قبلها.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
عَلِمَ الله أن الكُلَّ من عباده لا يجد التحررَ من أحكام النَّفْس، ولا يتمكن من محاسن الخُلُق؛ فرخَّص لهم في المكافأة على سبيل العدل والقسط -وإنْ كان الأَوْلى بهم الصفح والعفو...
أحكام القرآن لإلكيا الهراسي 504 هـ :
يقتضي ذلك إباحة الانتصار لا الأمر به، وقد عقبه بقوله تعالى: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}، الآية [43]: وذلك محمول على الغفران عن غير المصر، فأما المصر على البغي والظلم فالأفضل الانتصار منه بدلالة ما قبله.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{من سبيل} يريد {من سبيل} حرج ولا سبيل حكم، وهذا إبلاغ في إباحة الانتصار.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
" ولمن انتصر بعد ظلمه "أي المسلم إذا انتصر من الكافر فلا سبيل إلى لومه، بل يحمد على ذلك مع الكافر. ولا لوم إن انتصر الظالم من المسلم، فالانتصار من الكافر حتم، ومن المسلم مباح، والعفو مندوب...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ولمن انتصر} أي سعى في نصر نفسه بجهده.
{بعد ظلمه} أي بعد ظلم الغير له وليس قاصد البعد عن حقه ولو استغرق انتصاره جميع زمان البعد.
ولما بين تعالى ما لذلك الناظر في مصالح العباد المنسلخ من خط نفسه إحساناً إلى عباد الله من الرتبة العليا، بين ما لهذا الذاب عن نفسه القاصد لشفاء صدره وذهاب غيظه، فقال رابطاً للجزاء بفاء السبب بياناً لقصور نظره على دفع الظلم عن نفسه، ويجوز كون {من} موصولة والفاء لما للموصول من شبه الشرط.
ولما عبر أولاً بالإفراد فكان ربما قصر الإذن على الواحد لئلا تعظم الفتنة، جمع إشارة إلى أن الفتنة إنما هي في إقرار الظلم لا في نصر المظلوم واحداً كان أو جماعة فقال: {فأولئك} أي المنتصرون لأجل دفع ظلم الظالم عنهم فقط.
{ما عليهم} وأكد بإثبات الجار فقال: {من سبيل} أي عقاب ولا عتاب...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
الذي ينتصر بعد ظلمه، ويجزي السيئة بالسيئة، ولا يعتدي، ليس عليه من جناح. وهو يزاول حقه المشروع. فما لأحد عليه من سلطان. ولا يجوز أن يقف في طريقه أحد. إنما الذين يجب الوقوف في طريقهم هم الذين يظلمون الناس، ويبغون في الأرض بغير الحق...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
معنى {بعد ظلمه} التنبيه على أن هذا الانتصار بعد أن تحقق أنهم ظُلموا: فإمّا في غير الحروب فمن يتوقع أن أحداً سيعتدي عليه ليس له أن يبادر أحداً بأذى، قبل أن يشرعَ في الاعتداء عليه ويقول: ظننت أنه يعتدي عليَّ فبادرتُه بالأذى اتقاء لاعتدائه المتوقع؛ لأن مثل هذا يثير التهارج والفساد، فنبه الله المسلمين على تجنبه مع عدوِّهم إن لم تكن بينهم حرب...
والمراد بالسبيل موجب المؤاخذة بالّلائمة بين القبائل واللمزِ بالعُدوان والتبعة في الآخرة على الفساد في الأرض بقتل المسالمين، سُمي بذلك سبيلاً على وجه الاستعارة لأنه أشبه الطريقَ في إيصاله إلى المطلوب، وكثر إطلاق ذلك حتى ساوى الحقيقة...
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.