قوله تعالى : { ولا صديق حميم } أي : قريب يشفع لنا ، يقوله الكفار حين تشفع الملائكة والنبيون والمؤمنون ، والصديق هو الصادق في المودة بشرط الدين .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني الحسين بن محمد بن فنجويه ، حدثنا محمد بن الحسين اليقطيني ، أنبأنا أحمد بن عبد الله يزيد العقيلي ، حدثنا صفوان بن صالح ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا من سمع أبا الزبير يقول : أشهد لسمعت جابر بن عبد الله يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الرجل ليقول في الجنة ما فعل صديقي فلان ، وصديقه في الجحيم ، فيقول الله تعالى : أخرجوا له صديقه إلى الجنة ، فيقول من بقي ( فما لنا من شافعين ولا صديق حميم ) . قال الحسن : استكثروا من الأصدقاء المؤمنين فإن لهم شفاعة يوم القيامة .
وما لنا - أيضا - من { صَدِيقٍ حَمِيمٍ } أى : مخلص فى صداقته ، يدافع عنا عند ربنا ، ويهتم بأمرنا فى هذا الموقف العصيب .
قال الآلوسى ، والمراد التلهف والتأسف على فقد شفيع يشفع لهم مما هم فيه ، أو صديق شفيق يهمه ذلك . وقد ترقوا لمزيد انحطاط حالهم فى التأسف ، حيث نفوا - أولا - أن يكون لهم من ينفعهم في تخليصهم من العذاب بشفاعته ، ونفوا - ثانيا - أن يكون لهم من يهمه أمرهم ويشفق عليهم ، ويتوجع لهم ، أو يخلصهم .
وقوله فَمَا لَنا مِنْ شافِعِينَ يقول : فليس لنا شافع فيشفع لنا عند الله من الأباعد ، فيعفو عنا ، وينجينا من عقابه وَلا صَدِيقٍ حَميمٍ من الأقارب .
واختلف أهل التأويل في الذين عُنوا بالشافعين ، وبالصديق الحميم ، فقال بعضهم : عني بالشافعين : الملائكة ، وبالصديق الحميم : النسيب . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج فَمَا لَنا مِنْ شافِعِينَ قال : من الملائكة وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ قال : من الناس ، قال مجاهد : صديق حميم ، قال : شقيق .
وقال آخرون : كل هؤلاء من بني آدم . ذكر من قال ذلك :
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، قال : حدثنا إسحاق بن سعيد البصريّ المسمعي ، عن أخيه يحيى بن سعيد المسمعي ، قال : كان قَتادة إذا قرأ : فَمَا لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ قال : يعلمون والله أن الصديق إذا كان صالحا نفع ، وأن الحميم إذا كان صالحا شفع .
{ ولا صديق حميم } وفي هذه اللفظة منبهة على محل الصديق من المرء ، قال ابن جريج { شافعين } من الملائكة و { صديق } من الناس .
قال القاضي أبو محمد : ولفظة «الشفيع » تقتضي رفعة مكانه ، ولفظ «الصديق » يقتضي شدة مساهمة ونصرة ، وهو فعيل من صدق الود ، وهو ( فعيل ) من صدق الود من أبنية المبالغة{[1]} .
و «الحميم » الولي والقريب الذي يخصك أمره ويخصه أمرك وحامة الرجل خاصته وباقي الآية بين قد مضى .
قال القاضي أبو محمد : وهذه الآيات من قوله تعالى : { يوم لا ينفع مال ولا بنون } [ الشعراء : 88 ] هي عندي منقطعة من كلام إبراهيم عليه السلام وهي إخبار من الله عز وجل ، تعلق بصفة ذلك اليوم الذي وقف إبراهيم عليه السلام عنده في دعائه أن لا يخزى فيه{[2]} .
أما قولهم : { ولا صديق حميم } فهو تتميم أثارهُ ما يلقونه من سوء المعاملة من كل من يمرون به أو يتصلون ، ومن الحرمان الذي يعاملهم كل من يسألونه الرفق بهم حتى علموا أن جميع الخلق تتبرأ منهم كما قال تعالى : { ورأوا العذاب وتقطّعت بهم الأسباب } فإن الصديق هو الذي يواسيك أو يسليك أو يتوجع ويومئذ حقّت كلمة الله { الأخِلاّء يومئذ بعضهُم لبعض عدوّ إلا المتقين } [ الزخرف : 67 ] وتقدم الكلام على الصديق في قوله تعالى : { أو صديقكم } في سورة النور ( 61 ) .
والحميم : القريب ، فعيل من حَمَّ ( بفتح الحاء ) إذا دنا وقرُب فهو أخص من الصديق .
والمراد نفي جنس الشفيع وجنس الصديق لوقوع الاسمين في سياق النفي المؤكَّد ب { من } الزائدة ، وفي ذلك السياق يستوي المفرد والجمع في الدلالة على الجنس . وإنما خولف بين اسمي هذين الجنسين في حكاية كلامهم إذ جيء ب { شافعين } جمعاً ، وب { صديق } مفرداً ، لأنهم أرادوا بالشافعين الآلهة الباطلة وكانوا يعهدونهم عديدين فجرى على كلامهم ما هو مرتسم في تصورهم .
وأما الصديق فإنه مفروض جنسُه دون عدد أفراده إذ لم يَعنُوا عدداً معيّناً فبقي على أصل نفي الجنس ، وعلى الأصل في الألفاظ إذْ لم يكن داع لغير الإفراد . والذي يبدو لي أنه أوثر جمع { شافعين } لأنه أنسب بصورة ما في أذهانهم كما تقدم . وأما إفراد { صديق } فلأنه أريد أن يُجرى عليه وصف { حميم } فلو جيء بالموصوف جمعاً لاقتضى جمع وصفه ، وجمعُ { حميم } فيه ثقل لا يناسب منتهى الفصاحة ولا يليق بصورة الفاصلة مع ما حصل في ذلك من التفنن الذي هو من مقاصد البلغاء .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولا صديق حميم} يعني: القريب الشفيق، فيشفعون لنا كما يشفع المؤمنين، وذلك أنهم لما رأوا كيف يشفع الله عز وجل، والملائكة، والنبيين في أهل التوحيد، قالوا عند ذلك: {فما لنا من شافعين} إلى آخر الآية... استكثروا من صداقة المؤمنين، فإن المؤمنين يشفعون يوم القيامة، فذلك قوله سبحانه: {ولا صديق حميم}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 100]
وقوله:"فَمَا لَنا مِنْ شافِعِينَ" يقول: فليس لنا شافع فيشفع لنا عند الله من الأباعد، فيعفو عنا، وينجينا من عقابه.
"وَلا صَدِيقٍ حَميمٍ "من الأقارب.
واختلف أهل التأويل في الذين عُنوا بالشافعين، وبالصديق الحميم، فقال بعضهم: عني بالشافعين: الملائكة، وبالصديق الحميم: النسيب...
وقال آخرون: كل هؤلاء من بني آدم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
والحميم: القريب الذي يحمي بغضب صاحبه، والحميم هو الحامي، ومنه الحمى. وأحم الله ذلك من لقائه: أي أدناه...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
أي: صديق خاص، وقيل: صديق قريب، وسمى حميما؛ لأنه يَحُمُّ لك ويغضب لأجلك... والصديق هو الصادق في المودة على شرط الدين.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَلاَ صَدِيقٍ} كما نرى لهم أصدقاء، لأنه لا يتصادق في الآخرة إلا المؤمنون. وأما أهل النار فبينهم التعادي والتباغض، قال الله تعالى: {الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين} [الزخرف: 67] أو: فمالنا من شافعين ولا صديق حميم من الذين كنا نعدهم شفعاء وأصدقاء، لأنهم كانوا يعتقدون في أصنامهم أنهم شفعاؤهم عند الله، وكان لهم الأصدقاء من شياطين الإنس. أو أرادوا أنهم وقعوا في مهلكة علموا أنّ الشفعاء والأصدقاء لا ينفعونهم ولا يدفعون عنهم، فقصدوا بنفيهم نفي ما يتعلق بهم من النفع؛ لأنّ ما لا ينفع حكمه حكم المعدوم.
والحميم من الاحتمام، وهو الاهتمام، وهو الذي يهمه ما يهمك. أو من الحامة بمعنى الخاصة، وهو الصديق الخاص. فإن قلت: لم جمع الشافع ووحد الصديق؟ قلت: لكثرة الشفعاء في العادة وقلة الصديق. ألا ترى أن الرجل إذا امتحن بإرهاق ظالم نهضت جماعة وافرة من أهل بلده لشفاعته، رحمة له وحسبة، وإن لم يسبق له بأكثرهم معرفة. وأما الصديق -وهو الصادق في ودادك الذي يهمه ما أهملك- فأعز من بيض الأنوق... ويجوز أن يريد بالصديق: الجمع.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{ولا صديق حميم} وفي هذه اللفظة منبهة على محل الصديق من المرء، قال ابن جريج {شافعين} من الملائكة و {صديق} من الناس.
قال القاضي أبو محمد: ولفظة «الشفيع» تقتضي رفعة مكانه، ولفظ «الصديق» يقتضي شدة مساهمة ونصرة، وهو (فعيل) من صدق الود من أبنية المبالغة.
و «الحميم» الولي والقريب الذي يخصك أمره ويخصه أمرك وحامة الرجل خاصته.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان الصديق قد لا يكون أهلاً لأن يشفع، قالوا تأسفاً على أقل ما يمكن: {ولا صديق} أي يصدق في ودنا ليفعل ما ينفعنا. ولما كان أصدق الصداقة ما كان من القريب قال: {حميم} أي قريب، وأصله المصافي الذي يحرقه ما يحرقك، لأنا قاطعنا بذلك كل من له أمر في هذا اليوم؛ وأفرد تعميماً للنفي وإشارة إلى قلته في حد ذاته أو عدمه.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فهو تتميم أثارهُ ما يلقونه من سوء المعاملة من كل من يمرون به أو يتصلون، ومن الحرمان الذي يعاملهم كل من يسألونه الرفق بهم حتى علموا أن جميع الخلق تتبرأ منهم كما قال تعالى: {ورأوا العذاب وتقطّعت بهم الأسباب} فإن الصديق هو الذي يواسيك أو يسليك أو يتوجع ويومئذ حقّت كلمة الله {الأخِلاّء يومئذ بعضهُم لبعض عدوّ إلا المتقين} [الزخرف: 67] وتقدم الكلام على الصديق في قوله تعالى: {أو صديقكم} في سورة النور (61).
والحميم: القريب، فعيل من حَمَّ (بفتح الحاء) إذا دنا وقرُب فهو أخص من الصديق. والمراد نفي جنس الشفيع وجنس الصديق لوقوع الاسمين في سياق النفي المؤكَّد ب {من} الزائدة، وفي ذلك السياق يستوي المفرد والجمع في الدلالة على الجنس. وإنما خولف بين اسمي هذين الجنسين في حكاية كلامهم إذ جيء ب {شافعين} جمعاً، وب {صديق} مفرداً، لأنهم أرادوا بالشافعين الآلهة الباطلة وكانوا يعهدونهم عديدين فجرى على كلامهم ما هو مرتسم في تصورهم. وأما الصديق فإنه مفروض جنسُه دون عدد أفراده إذ لم يَعنُوا عدداً معيّناً فبقي على أصل نفي الجنس، وعلى الأصل في الألفاظ إذْ لم يكن داع لغير الإفراد. والذي يبدو لي أنه أوثر جمع {شافعين} لأنه أنسب بصورة ما في أذهانهم كما تقدم. وأما إفراد {صديق} فلأنه أريد أن يُجرى عليه وصف {حميم} فلو جيء بالموصوف جمعاً لاقتضى جمع وصفه، وجمعُ {حميم} فيه ثقل لا يناسب منتهى الفصاحة ولا يليق بصورة الفاصلة مع ما حصل في ذلك من التفنن الذي هو من مقاصد البلغاء.