قوله تعالى : { ولله ما في السماوات وما في الأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم . يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة } . أراد به ما كانوا يفعلونه عند حلول أجل الدين من زيادة المال وتأخير الطلب .
قوله تعالى : { واتقوا الله } . في أمر الربا فلا تأكلوه .
قوله تعالى : { لعلكم تفلحون } . ثم خوفهم ، فقال : { واتقوا النار التي أعدت للكافرين وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون } .
{ يَآ أَيُّهَا الذين آمَنُواْ . . . } .
قال الإمام الرازى ما ملخصه : اعلم أن من الناس من قال : إن الله - تعالى - لما شرح عظيم نعمه على المؤمنين فيما يتعلق بإرشادهم إلى الأصلح لهم فى أمر الدين وفى أمر الجهاد ، أتبع ذلك بما يدخل فى الأمر والنهى والترغيب والترهيب فقال : { يَآ أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الربا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً } .
وقال القفال : يحتمل أن تكون هذه الآية متصلة بما قبلها من جهة أن المشركين فى غزوة أحد أنفقوا على عساكرهم أموالا كثيرة جمعوها من الربان ولعل ذلك يصير داعياً للمسلمين إلى الإقدام على الربا حتى يجمعوا المال وينفقوه على المعسكر ، ويتمكنوا من الانتقام منهم ، فلا جرم نهاهم الله عن ذلك .
وكان الرجل فى الجاهلية إذا كان له على إنسان مائة درهم - مثلا - إلى أجل ، فإذا حل الأجل ولم يكن المدين واجدا لذلك المال قال : زدنى فى المال حتى أزيد فى الأجل ، فربما جعله مائتين ، ثم إذا حل الأجل الثاني فعل مثل ذلك ثم إلى آجال كثيرة ، فيأخذ بسبب تلك المائة أضعافها فهذا هو المراد من قوله { أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً } .
وقد ابتدأ - سبحانه - الآية بالنداء بقوله { يَآ أَيُّهَا الذين آمَنُواْ } لبيان أن أكل الربا ليس من شأن المؤمنين ، وإنما هو من سمات الكافرين والفاسقين .
وإذا كان الكافرون يستكثرون من تعاطى الربا فعلى المؤمنين أن يجتنبوا هذا الفعل القبيح ، وأن يتحروا الحلال فى كل أمورهم .
وخصه بالنهى لأنه كان شائعاً فى ذلك الوقت ، ولأنه - كما يقول القرطبى - هو الذى أذن فيه بالحرب فى قوله - تعالى - { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ } والحرب يؤذن بالقتل ، فكأنه يقول لهم : إن لم تتقوا الربا هزمتم وقتلتم .
والمراد من الأكل الأخذ ، وعبر عنه بالأكل لما أنه معظم ما يقصد بهن ولشيوعه فى المأكولات مع ما فيه من زيادة التشنيع .
والربا معناه الزيادة ، والمراد بها هنا تلك الزيادة التى كانت تضاف على الدين .
قال الإمام ابن جرير : عن عطاء قال : كانت ثقيف تداين بنى المغيرة فى الجاهلية ، فإذا حل الأجل قالوا : نزيدكم وتؤخرون .
وقال ابن زيد : كان أبى - زيد بن ثابت - يقول : إنما كان ربا الجاهلية فى التضعيف . يكون للرجل على الرجل دين فيأتيه إذا حل الأجل فيقول له : " تقضينيى أو تزيدنى " .
وقوله { أَضْعَافاً } حال من الربا ، وقوله { مُّضَاعَفَةً } صفة له .
والأضعاف جمع ضعف . وضعف الشىء مثلاه ، وأضعافه أمثاله .
وهذا القيد وهو قوله " أضعافا مضاعفة " ليس لتقييد النهى به ، أى ليس النهى عن أكل الربا فى هذه الحالة وإباحته فى غيرها ، بل هذا القيد لمراعاة الواقع ، ولبيان ما كانوا عليه فى الجاهلية من التعامل الفاسد المؤدى إلى استئصال المال ، ولتوبيخ من كان يتعاطى الربا بتلك الصورة البشعة .
وقد حرم الله - تعالى - أصل الربا ومضاعفته ، ونفر منه تنفيراً شديداً ، فقال - تعالى - { الذين يَأْكُلُونَ الربا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قالوا إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا } وهذا النوع من الربا الذى نهى الله - تعالى - عنه هنا بقوله : { يَآ أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الربا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً } هو الذى يسمى عند الصحابة والفقهاء بربا النسيئة ، أو ربا الجاهلية وقد حرمه الإسلام تحريماً قاطعا . فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى خطبة الوداع : " ألا إن الجاهلية موضوع - أي مهدر - وأول ربا أبدأ به ربا عمى العباس بن عبد المطلب " .
وقال الإمام أحمد بن حنبل : إن ربا النسيئة يكفر من يجحد تحريمه .
ويقابل هذا النوع من الربا ، ربا البيوع وهو الذى ورد فى حديث النبى صلى الله عليه وسلم الذى يقول فيه : " البر بالبر مثلا بمثل يدا بيد ، والذهب بالذهب مثلا بمثل يدا يد والفضة بالفضة مثلا بمثل يدا بيد والشعير بالشعير مثلا بمثل يدا بيد ، والتمر بالتمر مثلا بمثلا يدا بيد ، والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد ، فمن زاد أو استزاد فقد أربى " .
وقد اتفق العلماء على أن بيع هذه الأصناف لا بد أن يكون بغير زيادة إذا كانت بمثلها كقمح بقمح ، ولا بد من قبضها . وإذا اختلف الجنس كقمح بشعير جازت الزيادة ، ولا بد من القبض فى المجلس ، والتأخير يسمى ربا النساء ، والزيادة المحرمة تسمى ربا الفضل .
وللفقهاء فى هذا الموضوع مباحث طويلة فليرجع إليها من شاء فى مظانها . ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بأمر المؤمنين بخشيته وتقواه فقال : { واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } .
أى : واتقوا الله بأن تجعلوا بينكم وبين محارمه ساترا ووقاية ، لعلكم بذلك تنالون الفلاح فى الدنيا والآخرة .
يقول تعالى ناهيًا عباده المؤمنين عن تعاطي الربا وأكله أضعافا مضاعفة ، كما كانوا يقولون في الجاهلية - إذا حَلّ أجل الدين : إما أن يَقْضِي وإمّا أن يُرْبِي ، فإن قضاه وإلا زاده في المدة وزاده الآخَر في القَدْر ، وهكذا كلّ عام ، فربما{[5669]} تضاعف القليل حتى يصير كثيرًا مضاعفا .
{ يَآ أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرّبَا أَضْعَافاً مّضَاعَفَةً وَاتّقُواْ اللّهَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله ، لا تأكلوا الربا في إسلامكم ، بعد إذ هداكم له ، كما كنتم تأكلونه في جاهليتكم . وكان أكلهم ذلك في جاهليتهم أن الرجل منهم كان يكون له على الرجل مال إلى أجل ، فإذا حلّ الأجل طلبه من صاحبه ، فيقول له الذي عليه المال : أخر عني دينك ، وأزيدك على مالك ! فيفعلان ذلك ، فذلك هو الربا أضعافا مضاعفة ، فنهاهم الله عزّ وجلّ في إسلامهم عنه . كما :
حدثنا محمد بن سنان ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، قال : كانت ثقيف تَداين في بني المغيرة في الجاهلية ، فإذا حلّ الأجل ، قالوا : نزيدكم وتؤخرون ! فنزلت : { لا تَأْكُلُوا الرّبا أضْعافا مُضَاعَفَةً } .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تأْكُلُوا الرّبا أضْعافا مُضَاعَفَةً } : أي لا تأكلوا في الإسلام إذ هداكم له ، ما كنتم تأكلون إذ أنتم على غيره مما لا يحلّ لكم في دينكم .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عزّ وجلّ : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرّبا أضْعافا مُضَاعَفَةً } قال : ربا الجاهلية .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال سمعت ابن زيد يقول في قوله : { لاَتَأْكُلُوا الرّبا أضْعافا مُضَاعَفَةً } قال : كان أبي يقول : إنما كان الربا في الجاهلية في التضعيف وفي السنّ ، يكون للرجل فضل دين ، فيأتيه إذا حلّ الأجل ، فيقول له : تقضيني أو تزيدني ؟ فإن كان عنده شيء يقضيه قضى ، وإلا حوّله إلى السنّ التي فوق ذلك ، إن كانت ابنة مخاض يجعلها ابنة لبون في السنة الثانية ، ثم حقة ، ثم جذعة ثم رباعيا ، ثم هكذا إلى فوق . وفي العين يأتيه ، فإن لم يكن عنده أضعفه في العام القابل ، فإن لم يكن عنده أضعفه أيضا ، فتكون مائة فيجعلها إلى قابل مائتين ، فإن لم يكن عنده جعلها أربعمائة ، يضعفها له كل سنة ، أو يقضيه . قال : فهذا قوله : { لا تأكُلُوا الرّبا أضْعَافا مُضَاعَفَةً } .
وأما قوله : { واتّقُوا اللّهَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ } فإنه يعني : واتقوا الله أيها المؤمنون في أمر الربا فلا تأكلوه ، وفي غيره مما أمركم به ، أو نهاكم عنه ، وأطيعوه فيه لعلكم تفلحون ، يقول : لتنجحوا فتنجوا من عقابه ، وتدركوا ما رغبكم فيه من ثوابه ، والخلود في جنانه . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { وَاتّقُوا اللّهَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ } : أي فأطيعوا الله لعلكم أن تنجوا مما حذّركم من عذابه ، وتدركوا ما رغبكم فيه من ثوابه .
{ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة } لا تزيدوا زيادات مكررة ، ولعل التخصيص بحسب الواقع . إذ كان الرجل منهم يربي إلى أجل ثم يزيد فيه زيادة أخرى حتى يستغرق بالشيء الطفيف مال المديون . وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب " مضعفة " . { واتقوا الله } فيما نهيتم عنه . { لعلكم تفلحون } راجين الفلاح .
هذا النهي عن أكل الربا اعتراض أثناء قصة «أحد » ، ولا أحفظ سبباً في ذلك مروياً ، والربا الزيادة ، وقد تقدم ذكر مثل هذه الآية وأحكام الربا في سورة البقرة{[3516]} ، وقوله { أضعافاً } نصب في موضع الحال ، ومعناه : الربا الذي كانت العرب تضعف فيه الدين ، فكان الطالب يقول : أتقضي أم تربي ؟ وقوله : { مضاعفة } إشارة إلى تكرار التضعيف عاماً بعد عام ، كما كانوا يصنعون ، فدلت هذه العبارة المؤكدة على شنعة فعلهم وقبحه ، ولذلك ذكرت حال التضعيف خاصة ، وقد حرم الله جميع أنواع الربا ، فهذا هو مفهوم الخطاب إذ المسكوت عنه من الربا في حكم المذكور ، وأيضاً فإن الربا يدخل جميع أنواعه التضعيف والزيادة على وجوه مختلفة من العين{[3517]} أو من التأخير ونحوه .